كتب : محمد حبوشة
لاشك أن تعريب المسلسلات الأجنبية إلى نسخ عربية محاولة – ناجحة حتى الآن – لكسر هذه الدائرة شديدة الضيق، فعندما لا يستطيع المبدع العربي ابتكار عمل مختلف لا يعيبه الاقتباس من أعمال أخرى ناجحة، والاتجاه لصيغ إبداعية مختلفة، سواء من حيث النوع أو الحرفة مثل استخدام أسلوب الورش في كتابة السيناريو، هذه التغييرات بالتدريج ستصنع مبدعين جدد قادرين على تقديم أعمال بصبغة عربية بدون الحاجة للاستناد إلى نسخ أجنبية، بالإضافة إلى أن التعريب أو إصدار نسخ مختلفة من نفس العمل ليس بدعة عربية، فعلى سبيل المثال مسلسل (القتل) الذي اتخذ عنوان (منعطف خطر) أثبت أن النجاح لا لغة له طالما يأتي للمشاهدين بالتسلية، وللمنتجين بالعائد المادي.
(منعطف خطر) والمقتبس من مسلسل الجريمة الدانماركي (القتل -The Killing/Forbrydelsen) الذي أعاد الأضواء لهذا النوع من المسلسلات، وفاز بعدد من الجوائز بما في ذلك (البافتا)، فمن كوبنهاجن إلى القاهرة يأتي مسلسل الجريمة والإثارة والتشويق في قالب جاذب جدا (في إطار الجريمة الإسكندنافيةNordic Noir ) للجمهور العربي الذي يبحث بشكل متزايد عن قصص جديدة ومثيرة للاهتمام، وكان الحفاظ على الطبيعة الفريدة لهذا النوع بالانسجام مع التفضيلات الجمالية للمشاهدين العرب يمثل تحديا مثيرا، من خلال قصة تدور حول جريمة قتل تحدث لناشطة (إنفلونسر) على موقع (التيك توك) لها ملايين المعجبين.
حيث يحقق فيها الضابط (هشام/ باسل خياط)، ويزداد الغموض بعد اكتشاف أن الجثة وجدت في سيارة رجل الأعمال خالد الذي ينتظر ترشحه في انتخابات ناد رياضي كبير، ويكتشف الضابط أن السيارة ضمن أسطول سيارات تستخدم في الحملة الانتخابية لخالد، وأنها سرقت من قبل.. وتتوالى الأحداث.
تأتي أحداث (منعطف خطر) عبر المؤامرات، والجو السوداوي واهتمامه ليس فقط بالبحث عن القاتل، بل تأثير جريمة القتل في الأوساط السياسية كجزء من تحقيق الشرطة، وبعد أن استطاع مسلسل (القتل) الدنماركي تحقيق نجاح دولي هائل، وتم تصنيفه في المرتبة الـ 80 في قائمة أعظم 100 مسلسل تلفزيوني في القرن 21 على قناة (بي بي سي – (BBC وقد عرض لأول مرة في القناة الوطنية الدانماركية عام 2007، وتم بثه في العديد من البلاد الأخرى ليصل إلينا في نسخة عربية محكمة بعناصر الإثارة والتشويق، من خلال أداء فائق الجودة من جانب فريق عمل إبداعي على رأسه (باسل خياط، باسم سمرة، ريهام عبد الغفور، سلمى أبو ضيف، محمد علاء، تامر نبيل، حمزة العيلي، أحمد صيام، خالد كمال، آدم الشرقاوي، كريم محجوب)، فضلا عن تحكم فائق الجودة من خلال المخرج السوري (السدير مسعود)، وفوق كل ذلك المنتج الواعي (محمد مشيش) الذي لايخطئ في اختياراته المذهلة.
لقد سعى مسلسل (منعطف خطر) منذ بداية حلقاته الأولى لتحقيق أقصى قدر من التشويق، لا سيما أن حدثه القادح بلغة كتابة السيناريو بدأ منذ المشهد الأول، من خلال قتل الإنفلونسر (سلمى الوكيل)، جسدتها بعذوبة الفنانة سلمى أبو ضيف، لتبدأ رحلة اكتشاف الجاني من قبل ضابط المباحث، هشام إبراهيم، الذي يلعب دوره باسل خياط، خيوط درامية كثيرة تتشابك في البحث عن القاتل، وكلما اقترب المحقق من التأكد من هوية القاتل، تتكشف معلومات جديدة لتتغير معها بوصلة التحقيق بالكامل.
مرة تدور الشكوك حول صديقها (كريم/ آدم الشرقاوي)، ميسور الحال، ومتعاطي المخدرات، الذي كان على علاقة مع (سلمى)، وظل يلاحقها في الحفلة الأخيرة التي ظهرت فيها قبل مقتلها، لكن الدلائل تبرئه، ومرة يصبح (عبد الرحمن/ كريم محجوب)، المدرب في النادي الذي ترتاده المغدورة هو الجاني المحتمل، بسبب تيسيره أمور سفرها وتسليفها بعض النقود، ثم محاولته إغوائها عندما قامت برد دينه، ثم لا يلبث أن يبتعد هذا الاحتمال عن الحضور، عندما يتم الكشف أن الزجاج الذي علق برأس الضحية ليس مطابقا لمثيله الموجود في شقته.
وحتى تتعقد الأمور أكثر ينشأ أكثر من خط درامي مواز لموضوعة القتل الرئيسة، إذ وجد (كريم) مقتولا في قبو فيلا لوالده، ونشاهد والد سلمى (جمال الوكيل/ باسم سمرة) في محاولة للاستفراد بمدرب ابنته وقتله، لولا تدخل الضابط هشام، وهناك أيضا الخط المتعلق بـ (خالد سليمان/ محمد علاء)، الطامح للوصول إلى منصب رئيس ناد رياضي كان يترأسه والده في الماضي، ومن ثم الترشح لمجلس الشعب، والذي تم العثور على المغدورة (سلمى) في إحدى سيارات حملته الانتخابية، ومن ثم اكتشاف صورة تجمعهما معا.
تلعب لغة العيون دورها المحوري في المسلسل من خلال أداء فارق، فنحن نعرف أن العين تعطي إشارات الاتصالات البشرية الأكثر كشفا ودقة وصدقا، ولو توسعنا قليلا في تحليل لغتي الجسد والعيون في (منعطف خطر) سنجد تجليات مرعبة في أداء (باسل خياط، باسم سمرة، ريهام عبد الغفور، محمد علاء الدين)، ما يؤكد على أن السيكولوجيا هى الشرط في نجاح هذا النوع من دراما الجريمة المركبة، وأن سبب فشل الكثير من المسلسلات الدرامية التلفزيونية العربية، هى افتقار المخرج والممثلين لهذا الفهم السيكولوجي فتكون النتيجة أن المشاهد يرى الممثل يمثل ولا يعيش الفعل سيكولوجيا، وهذا ما استطاع مسلسل (منعطف خطر) أن يتخطاه ليشكل انموذجا في توظيف السيكولوجيا.
لقد تابعت أداء هؤلاء الممثلين بعين السيكولوجيين، لا بعين المشاهد، فوجدت أنهم جميعا كان موفقين في توظيف لغتي الجسد والعين، بالمعاني الذي ذكرناها، وقد نجحوا نجاحا مبهرا في تجسيد انفعالات العنف ونقيضها الصعب على مستوى الانتقام، ومع أن هذا يعود إلى امتلاكهمم موهبة متميزة وقدرة عالية في التمثيل، وانسجام نفسي بينهم إلا أنه الدور الرئيس يعود الى المخرج (السدير مسعود)، الذي فاجأني بامتلاكه موهبة استثنائية في الإخراج وثقافة سيكولوجية في فن التمثيل، فقد أجاد توظيفها في كثير من المشاهد في ثنايا الحلقات المشدودة بحبل سحري، ما يعني أن المخرج أوصل (باسل خياط وباسم سمرة) وباقي فريق العمل إلى الحالة التي يتجسد فيها الصدق السيكولوجي، ليثير لدى المشاهد انفعالات التعاطف والتأثر، في حالة تنسيه أنه يعيش مشهدا تمثيلا!، وفي رأيي أن تلك المشاهد ينبغي أن تعتمد في تدريس مادة (سيكولوجيا الدراما) في أقسام المسرح والتلفزيون بالجامعات العربية.
في الحقيقة، إن مسلسل (منعطف خطر) يحتوي على كل ما تأمل أن تكون عليه دراما الجريمة والتشويق والإثارة، فقد نسجت حبكته بذكاء ووعي وخبرة والكثير من الدقة، حتى أنك تشعر وأنت تتابعه وكأنك تشاهد أحد أفلام المخرج الأمريكي (روبرت ألتمان) نظرا للحوار المتداخل بشكل متكرر، ناهيك عن طبيعيه وحيوية الأداء التي تضفي على الأحداث ديناميكية أكثر، وبعيدا عن البراعة الفنية، إن ما يجعل مسلسل (منعطف خطر) متفوقا على بقية مسلسلات الجريمة في هذا الموسم هو المعاني الاجتماعية والاقتصادية المبطنة التي يمررها، والتي تخلوا لحسن الحظ من القوانين الأخلاقية الدينية المفروضة في معظم العروض، ما وراء عملية الانتقام والحماقات، هناك نظرة متبصرة للجتمع العربي، وهناك أيضا فراغ روحي في قلب القصة، مدعوما بغياب السلطات الأخلاقية.
(منعطف خطر) ومن خلال 15 حلقة فقط ينتمي إلى نوع الجريمة، وهو النوع الموجود الآن وبكثرة للغاية في إنتاجات التليفزونات العربية على الرغم من كونه ذا شعبية واسعة بالفعل لدى المشاهد العربي الذي يتجه إلى المسلسلات والأفلام الأجنبية لتعويض هذا الغياب من خلال المنصة الشهيرة مثل (نتفلكس) وغيرها التي جذبت عددا كبيرا من الشباب العربي، وخاصة أن الأزمة الحقيقية وراء غياب مسلسلات الجريمة العربية هى ضعف الإمكانات اللازمة لصناعة دراما متقنة إلى حد كبير، مثل المؤثرات البصرية والمكياج، مما يؤدي إلى ظهور الأعمال في النهاية بشكل هزلي مضحك، وظني أن أهم ما يفتقده صناع هذه الأعمال من المخرجين والمؤلفين وشركات الإنتاج العربية هى بوصلتهم في تحديد ماهية الجريمة الذي يمكن تقديمه للمشاهد العربي، هل الجريمة مستلهمة من الأساطير الشعبية الشرقية، أم الجريمة القادمة من الثقافة الغربية.
وعلى قدر الهنات التي اعترت مسلسل (منعطف خطر) من ناحية عدم إتقان اللهجة من جانب (باسل خياط)، إلا أنني أعتبره واحدا من الأعمال الجيدة على مستوى الأداء والإخراج بحيث استطاع اجتذاب انتباه الجمهور في غير الموسم الرمضاني، ويحسب له في النهاية أنه سعى إلى الخروج قليلا من دائرة تنميط النوع الدرامي الذي تقدمه الشاشات المصرية، وعلى الرغم من بعض المشكلات التي طرأت على جوه العام فإنه يبقى عملا مسليا ومثيرا يستقطب شريحة واسعة من المشاهدين الذين يتعطشون لمثل هذه الأعمال بحيث تدخل (شاهد) كمنصة عربية واعدة في حلبة المنافسة مع المنصات الأجنيبة التي تنتج أعمال الجريمة والإثارة بطريقة احترافية تجذب شبابنا العربي المتطلع إلى هذا النوع من الدراما.
احتوت حلقات المسلسل على أكثر من (ماستر سين)، إلا أنني أتوقف عند مشهد اعتراف باسم سمر لريهام عبد الغفور بماضيه الأسود في تجارة المخدرات الذي أصابها بإحباط وخوف على الكيان الأسري الذي أصبح على وشك الانهيار والذي جاء على النحو التالي في الحلقة (10):
بعد أن اعترف (جمال/ باسم سمرة) بقتل (كريم) الذي ظن إنه قتل ابنته (سلمى) شعرت زوجته (جيهان/ ريهام عبد الغفور) بالخوف والرعب على مستقبل العائلة فقالت له : ازاي قتلت .. وازاي خططت .. وازاي جيت نمت جنبي عادي وكأن مفيش حاجة حصلت .. وكأن دي مش أول مرة تعملها ؟! .. مخبي على ايه تاني يا جمال؟.
جمال : كفاية .. كفاية .. سايق عليك النبي أنا تعبت.
جيهان : مفيش أوحش من اللي عرفته .. فيه ايه تاني مقلتوش .. مين الحاج سلامة ده ؟ .. وعايز منك ايه ؟
جمال : دي موضيع قديمة .. ماتت وادفنت من سنين.
جيهان : مشكلهاش ادفنت .. ايه حكاية الراجل ده ؟ .. عايز منك ايه ؟
جمال يعترف : زمان قبل ما أعرفك .. كنت شغال معاه.
جيهان : شغال معاه في ايه ؟
جمال : في المخدرات .. بس ده كان واحد تاني .. اسمه عتمان .. أنا جمال حبيبك .. جوزك اللي خلف منك.
جيهان : يعني ايه ؟ .. مش فاهمة حاجة .. كل ده كدب في كدب ؟
جمال : مفيش كذب !!!
جيهان : حتى اسمك مزور ؟
جمال : أنا اخترت اسمي .. اخترت حياتي .. واخترتك انتي.
جيهان : طب وأبوك اللي مات وانته صغير .. وبنتي اللي اسمها على اسم اختك اللي ماتت برضه كذب.
جمال : لا حقيقي .. اقسم بالله حقيقي.
جيهان : هه .. انته مصدق نفسك ازاي ؟
جمال : انتي ازاي بتحسبيني على حاجة فات عليها 25 سنة .. بتكدبي حياتنا كلها علشان ايه ؟ .. أنا بقيت واحد جديد .. أنا جمال اللي بيشقى وبيتعب عشانك وعشان خاطر عيالك.
جيهان : اسكت .. اسكت أنا مش عايزه أسمعك.
جمال : انتي اللي كنتي عاوزاني اتكلمك .. يبقي انتي لازم تسمعيني .. اسمعيني يا جيهان.
جيهان : ما بقاش فيه حاجة تتقال!!!
جمال : علشان خاطري يا جيهان .. جيهان.
يحاول جمال أن يتشبث بجيهان .. لكنها تنصرف من أمامه في حالة من الحسرة والندم على ما فات .. عندئذ ينتهي المشهد القاسي الذي أدى إلى انهيار جدار العائلة.