بقلم المفكر الكبير الدكتور : ثروت الخرباوي
نحن نعيش وسط أكذوبة كبيرة، هل تصدق أن الحقيقة في حياتنا لا تتجاوز عشرة بالمائة، وقد تكون هذه النسبة في حد ذاتها أكذوبة وتكون الحقيقة مختلفة تماما، وخذ بالك أنا أتكلم في الفن ولا أتكلم في شيء آخر، فحينما استعرضت في المقال السابق أكذوبة الست (أمينة ذهني) السيدة العجوز التي قامت بدور حماة (نجيب الريحاني) في فيلم (سلامة في خير) اتضح لنا أن قصة مقتلها بعد تمثيلها دورها عن طريق سائق تاكسي هى قصة ملفقة من الألف إلى الياء، لا ظل لها من الحقيقة، ومع ذلك تناقلتها بعد المواقع ورددتها وكتب عنها بعض المهتمين بالتأريخ الفني معتقدا أنها حقيقة مع أن التلفيق في هذه القصة كان واضحا تمام الوضوح، ولكننا لأننا في معظمنا أصحاب عقلية نقلية، وتسليمية، تنقل دون أن تفكر، تصدق الأكذوبة مهما كان الخيال فيها فجا وسخيفا، لذلك جذبتنا الدراما والمأساة في قصة القتل الملفقة وصدقناها.
ويبدو أن هذا فيلم (سلامة في خير) كان محطة لأكاذيب أخرى، والغريب أن قصته تقوم على أكذوبة كبرى، هي قيام فراش شركة وهو سلامة (نجيب الريحاني) بتمثيل دور أمير (حسين رياض) لذلك لا ضير في اختلاق أكاذيب نرويها ونصدقها، فمع أكذوبة مقتل الست (أمينة ذهني) يوجد تلفيق آخر وأكذوبة سخيفة وتافهة رواها أصحاب الخيال الضيق متعلقة بالممثلة التي قامت بدور (أم يني) جارة نجيب الريحاني في الفيلم، إذ قال بعضهم أن (أم يني) هذه كانت زوجة لتاجر ثري في الأسكندرية لديه محل (جواهرجي) كبير ومشهور في الأسكندرية، وكان هذا التاجر قد تزوجها بعد أن أشهرت إسلامها !!، ثم عاد من محله ذات يوم فوجد شقيقه يحاول الاعتداء عليها فلم يكن منه إلا أن قتله، ثم أوحت له زوجته (أم يني) بأن يدفنه في حوش المنزل (مثل ريا وسكينة تماما) !!
وعندما مرت أيام ولم يظهر هذا الأخ إذا بأمه تسأل ابنها القاتل عن أخيه، وظلت تلح في السؤال، فلما ضاق بها ذرعا أوحت له زوجته (أم يني) بأن يقتل أمه ويدفنها هى الأخرى في حوش المنزل، ففعل، وبعدها أصيب باكتئاب وامتنع عن الذهاب لعمله، فطلبت منه زوجته أن يحرر لها توكيلا عاما شاملا، ويترك لها إدارة التجارة، ففعل، فإذا بها تسحب رصيده من البنك وتبيع المحل بذهبه وجواهره، ثم تستأجر رجال عصابات إجرامية لتقتل زوجها، فضربوه في منزله، وحينما وقع مغشيا عليه ظنوه مات، فأضرموا النار في البيت وهربوا، ولكن إرادة الله تدخلت، فقام الزوج المخدوع من غشيته بعد أن لحقت النار به وشوهت وجهه، وقفز من النافذة لينجو بحياته، أما الأخت اليونانية المجرمة (أم يني) فتهرب إلى القاهرة، وفي القاهرة ضاق بها الحال بسبب فقرها (مع أنها سرقت منه الآلاف المؤلفة من الجنيهات والتي تضاهي ملايين كثيرة في زمننا)، فما كان منها إلا أن ذهبت للعمل في فيلم (سلامة في خير) بعد أن قرأت إعلانا في الصحف لمنتج الفيلم يطلب ممثلات يونانيات!
وحينما تم عرض الفيلم في دور السينما كان للقدر ضربته، فقد ذهب الزوج المخدوع الذي قتل شقيقه وأمه ، ذهب إلى السينما ليشاهد الفيلم، وعندما رآها تطل على المتفرجين عبر الشاشة قام صارخا: إنها هى ، هذه هى القاتلة، فتوقف عرض الفيلم وجاء البوليس، وتم اصطحاب الزوج صاحب الوجه الذي شوهته النيران إلى قسم الشرطة، وهناك روى ما حدث، ولاستكمال القصة، قال من لفقها وأعدها للنشر أن البوليس قبض على (نيازي مصطفى) مخرج الفيلم، كما قبض على المنتج، ولكن لماذا قبض على المخرج والمنتج؟ .. الله أعلم، ليس هذا هاما ولكنه مجرد تحشير في القصة لإحداث بعض الإثارة، ثم ليقولوا بعد ذلك أن (نيازي مصطفى) قام بكتابة هذه القصة في مذكراته التي عثروا عليها بعد مقتله!!
المأساة الحقيقية هنا هى مقتل المخرج نيازي مصطفى عام 1986، ولم يستطع البوليس المصري الوصول إلى القاتل، ونقل بعض الناس أن البوليس عثر على مذكرات نيازي مصطفى وأنه قد تم ضمها لأوراق قضية مقتله، وفي الحقيقة لا توجد مذكرات لنيازي مصطفى، ولكنها فقط كانت نوتة ورقية بها أسماء وعناوين لمئات من الأشخاص، بعضهم فنانين ومصورين ومخرجين ومؤلفين وكومبارس، وقد كنت أتابع تفاصيل هذه القضية بنفسي عام 1986، إذ أن أحد وكلاء النيابة الذين حققوا فيها كان صديقا لي وكنا نتاقش مع مجموعة من الأصدقاء كافة احتمالات هذه القضية، وطبيعة القاتل، وسبب القتل، ولكن لم تكن هناك مذكرات شخصية على الإطلاق.
ما أحب أن أقوله هنا هو أن قصة القاتلة (أم يني) هذه هى قصة كاذبة تماما، وملفقة من الألف إلى الياء، ومليئة بالثغرات، أما من هى (أم يني)، فهي كما قدموها في أفيش الفيلم هي (مدام جربيس) وجربيس هذا ليس اسمها، ولكنه اسم زوجها، فمدام جربيس أي زوجة جربيس، وبالعربي هى (حرم السيد جربيس) وبالمصري هى (الجماعة)، فالمصري في القرن العشرين كان يشير إلى زوجته بمصطلح (الجماعة)، ومن باب الفكاهة أروي لكم قصة حقيقية وليست ملفقة: في الستينيات كانت الخطابات التي ترد إلى المصريين من خارج مصر تخضع للرقابة، وكان يتم فتح الخطاب وقراءته ثم إغلاقه مرة أخرى ويتم وضع لاصق على ظرف الخطاب مكتوب عليه (فُتح بمعرفة الرقابة) وكانت هناك دواعي أمنية توجب ذلك في هذا الوقت، وفي أحد الأيام تلقى أحد المصريين خطابا من قريب له يعمل خارج مصر، وقال له في الخطاب: وأرجو أن يصل سلامي للجماعة، فما كان من البوليس إلا أن قبض على المرسل إليه على ظن من أن الراسل يقصد بالجماعة (جماعة الإخوان)، ولكن تم الإفراج عنه بعدها بأيام عندنا اتضحت الحقيقة!!
ما علينا ، عرفنا أن (أم يني) هي مدام جربيس، ولكن من هو جربيس؟ جربيس كان وقتها أشهر حلواني في الأسكندرية، وكان بارعا في صنع (الجيلاتي، والأيس كريم)، وأظن أن المحل الخاص به لا زال موجودا إلى الآن، وزوجته (أم يني) تركته وسافرت لليونان، ولا يعرف أحد سبب ذلك، وظل الخواجة جربيس وحيدا في الأسكندرية إلى أن حدثت له مأساة إذ قتله أحد العاملين في المحل في فترة الخمسينيات كي يسرق إيراد المحل، وقد كتبت الصحف وقتها عن هذه القضية ولا زال بعض كبار الأسكندرانية يعرفون تفاصيلها، أما زوجته (أم يني) فلا يعرف عنها أحد شيء.
وقبل أن أغلق هذا الملف، خذ عندك تلك الأكذوبة السخيفة، نشر بعضهم منذ أيام صورة للمغنية الإنجليزية (أديل) وهي ترتدي فستانا أنيقا، ومع الصورة نشروا صورة للسيدة أم كلثوم بذات الفستان، وقال الناشر: أنظروا، إن أديل تقلد أم كلثوم وترتدي نفس فستانها، ولكن أم كلثوم أكثر شياكة وقوامها ممشوق، صدق كثيرٌ من الناس الصورة مع أنها مصنوعة عن طريق (الفوتوشوب) إذ أن أم كلثوم لم ترتد هذا الفستان أبدا، والفوتوشوب كان واضحا جدا لكل من بعينيه نظر، وأم كلثوم لا تحتاج إلى هذا التلفيق، فهي أم كلثوم وكفى، ولكن الغريب أن بعض كبار المثقفين والصحفيين قاموا بنشر هذه الصورة وهم يفتخرون بأم كلثوم صاحبة القوام الممشوق، دون أن يمعن أحدهم النظر في حقيقة الصورة، ولكن العقلية النقلية التسليمية تنقل دون أن تفكر، ومن باب إعطاء الحق لأصحابه أقول إن بعض الصحف مثل جريدة (فيتو) أشارت إلى تلفيق الصورة.
أعود إلى مقدمة المقال لأقول لكم لا تصدقوا كل ما يقال لكم، أو كل ما تقرأونه، ولكن الله وهبنا نعمة العقل فلا تضيعوها.