كتب : محمد حبوشة
ليس من شك في أن قصي خولي ممثلا استثانيا وعلامة فارقة في الدراما العربية، لذا قدم قالبا مختلفا بعمل غير تقليدي من خلال مسلسل (الوسم) الذي يعكس الأحداث الأخيرة التي طرأت على العالم العربي وفي القلب منها قضية الهجرة غير الشرعية، كان مسرحها كلا من سوريا ولبنان ومصر، كما يتطرق إلى معاناة اللاجئين في اليونان كونها محطتهم الأولى في رحلة النزوح إلى أوروبا، وذلك في إطار يعتمد على المغامرة والتشويق والإثارة، العمل من إخراج (سيف الدين السبيعي)، وكان (قصي) هو من طرح فكرة قصة المسلسل، كما ساهم في تأليفه إلى جانب (بسيم الريس) الذي تولى السيناريو والحوار، و(براءة زريق ومنال غانم وسنان معوض وفادي الرفاعي) الذين تولوا المعالجة الدرامية، ويشارك في بطولة المسلسل مجموعة من نجوم سوريا ومصر ولبنان، منهم (قصي خولي وإسماعيل تمر، ومحمد مهران وميسون أبو أسعد ورشا بلال ومهند قطيش وجلال شموط).
تدور أحداث المسلسل حول 4 شبان يتورطون بالعمل مع مافيا في عدة دول، حيث يلعب قصي خولي دور (نورس)، وهو شاب مغامر يغادر سوريا متوجها إلى اليونان عبر البحر، لكنه يتورط لاحقا في العمل مع مافيا دولية توكل إليه عددا من الأعمال الإجرامية ليقوم بها، فينحرف بذلك عن مساره، أما إسماعيل تمر، فيلعب دور (رغيد) شريك نورس وصديقه، والذي أداه بعذوبة خاصة ممزوجة بالانفعالات النفسية المعمولة بدقة متناهية، وتم تصوير المسلسل في بيروت وعدد من الدول الأوروبية، إذ تدور أحداثه في مناطق مختلفة من آسيا وأوروبا وإفريقيا، كما يوجد العديد من المشاهد التي تم تصويرها في عرض البحر، ويعتبر الأكشن والتشويق والمغامرة السمة الرئيسية لمسلسل (الوسم)، كما أن الجانب الرومانسي موجود لكن بشكل مختلف عن السائد في مسلسلات من هذا النوع.
يعتبر (الوسم) التجربة الأولى لقصي خولي في مجال التأليف، وأشار إلى أنه قد بدأ بكتابة العمل قبل نحو 6 سنوات، لكن تخوفت العديد من شركات الإنتاج من تنفيذه بسبب تكلفته العالية وتضمنه لمشاهد صعبة التنفيذ إنتاجيا وإخراجيا، مؤكدا أن منصة (شاهد) لم تتردد في دعم فكرة العمل، وتصدت لمهمة إنتاجه الضخم شركة (إيبلا الدولية)، ووصف (خولي) تجربته في الوسم بأنها (مسؤولية كبيرة ساهم الجميع في إنجاحها)، مضيفا إنها كانت تجربة جميلة يحيطها الحب – وفق تعبيره – وحول فكرة العمل ورسائله، قال خولي: يتطرق (الوسم) إلى أحداث وقعت في الوطن العربي، مسلطا الضوء على ما لها من آثار سلبية على الإنسان، سببتها في المجمل الظروف السياسية والمعيشية والاقتصادية، مما أجبر الناس على إيجاد حلول بديلة والبحث عن حياة في أماكن أخرى.
يبدو لي من الوهلة الأولى من خلال أحداث المسلسل أن العنف موجود على أرض الواقع، وفي عالمنا، وازداد منسوبه في السنوات الأخيرة بسبب ما شهدته المنطقة من حروب ومآس، ومهمة الدراما ليست في تلطيفه بل في نقله بشكله الحقيقي مع إيصال الرسائل الأخلاقية والاجتماعية الحقيقية للمتلقي، وقد قال كاتب السيناريو (بسيم الريس) إنه اختار اسم (الوسم) للمسلسل، لأنه يعكس طبيعة البطل، موضحا أن (الوشم) يختص بالبشر، بينما (الوسم) يختص بالوحوش، مضيفا: (نورس) بطل العمل يحمل في داخله وحشا يشعره بقدرة التغلب على كل الصعوبات التي يواجهها وهذا ما بدا واضحا في أحداث العمل.
لا يمكن فصل تحدي الممثل قصي خولي في مسلسل (الوسم) – فكرة قصي خولي، وكتابة بسيم الريس – عن دوره الذي يسجل تفوقا غير عادي، يمكن القول إن (خولي) يستعجل دائما، أو يتورط في سيناريوهات على عجلة من أمر تنفيذها، لكنه في دور (نورس)، يخلع ثوب تنفيذ طلبات شركات الإنتاج أو المخرجين، ويحاول الإصغاء جيدا إلى نفسه، ويخرج منها ما وجده الكاتب أقرب إلى ثورة تحوله شبيها بالحيوان المدافع عن نفسه، بحسب تعريف عنوان المسلسل وتصريح كاتبه بأن (الوسم) لدى الإنسان يسمى (الوشم)، بينما للحيوان فهو (الوسم)، وهنا تكمن بداية القصة وعمودها الفقري.
يحاكي (الوسم) وهو من الإنتاجات الأصلية لمنصة (شاهد) واقع اللجوء والتهجير والسجون السورية، وحالات الفساد داخل هذه السجون المتصلة بمافيا عالمية تتخذ عملاء لها في أكثر من دولة كسلوفينيا ومصر واليونان، ويحاول المخرج (سيف الدين سبيعي) تسليط الضوء على المهاجرين بطريقة تبتعد هذه المرة عن الصور الإنسانية، إذ يفرض واقع اللاجئ الباحث عن مكاسب جديدة تقيه من شر العوز واللجوء، بعدما ضاقت السبل في سورية بعد الحرب.
تؤخذ على المسلسل بعض النقاط التي تسقط من يد المخرج، وتحمل المشاهد إلى حال من التشتت، بانتظار بلوغ الأحداث ذروتها، ومعرفة ماذا تريد المافيات وهدفها من متابعة سجين لقتله، فضلاً عن توظيفها مجموعة لا بأس بها من العملاء في كل مكان، وربما هذا جعلني ألا أتفاعل مع أحداث رأيتها في البداية مصنوعة بطريقة ملتوية، ففي أحد السجون السورية يجتمع الفرقاء المتنازعون، صورة السجن السوداء تختزل تورط كبار الضباط المسؤولين عنه مع المافيا، وتصل إلى الحراس عبر الرشاوى التي تفرض سيطرة (نورس) على الحكاية داخل السجن.
تسكن عائلة (نورس) في القاهرة، أمه مصرية لديها ثلاثة أبناء، ربما تهجرت العائلة بعد هروب (نورس) بحرا، وانكشاف أمره، الأمر الذي لن تسمح به الأم، ولن تسامحه، وهى تتخذ من مهنتها في الخياطة مصدرا لرزقها فيما تعمل ابنتها (رشا بلال) نادلة في مطعم وسط القاهرة، وهنا يحصر سبيعي الضوء بقصي خولي، ويحاول أن يجعل منه بطلا أوحد يغطي على كل فريق الممثلين، لكن ذلك لا يقلل من مقدرة زميله (جوان الخضر) في الحلقتين الأولى والثانية من الجزء الثاني على أداء دوره بحرفية عالية تضعه على سكة ممثلي الصف الأول، ولا يمكن إغفال مقدرة زميلهما إسماعيل تامر، صديق (نورس) المهاجر هو أيضا في الأداء الصعب، والذي ينقذ صديقه في اللحظات الأخيرة.
المشاهد في (الوسم) تخرج عن التقليدية، خصوصا في الأسئلة الكثيرة التي تفرض نفسها على المتفرج حول السبب وراء كل هذا السعي للقتل المتعمد، ربما جاءت الإجابة في الحلقات التالية التي يخرج فيها (نورس) من السجن، ويبدأ بمطاردة المافيا بين الدول التي تتخذ منها مقرا لها، ومن ثم فحسنا فعل قصي خولي باختياره فكرة أصر على تنفيذها وحولها إلى مسلسل يبتعد عن المآخذ الكثيرة التي تعانيها نصوص ومسلسلات قصيرة تتناول عالم الجريمة فقط، بل يمكن القول إن قصي خولي أصاب هذه المرة بعدما حقق تقدما خجولا إلى حد ما في (بارانويا) الذي عرض جزئه الأول قبل 8 أشهر تقريبا، كتابة وإخراج أسامة عبيد الناصر، وإنتاج (سيدرز آرت برودكشن – الصباح).
هى لعبة التراشق بالدم وشهيتها المفتوحة على الأسوأ خاصة في (الوسم ج2) الذي بدأ عرضه منتصف يونيو من هذا العام وانتهيى قبل أسابيع قليلة، فالقلب إن لم يكن ميتا تسبب بموت صاحبه، يحفظ (نورس) في داخله وفاء لعائلة غادرها الأب ولم تتنازل فيها الأم عن الثوابت الأخلاقية، هذه (الطينة) الراسخة في شخصيته، تصعب عليه التعامل مع الآخرين بالحقارة نفسها، المعركة حامية بين ثلاثة أطراف: (نورس) والمافيا والقوانين المطاطة، كل يغني على ليلاه والنزيف على مصراعيه عبر أحداث تتسم بالتشويق والإثارة الناضجة.
في القصة ما هو أبعد من التشويق بمعنى ارتكاب الجريمة وإزهاق الأرواح، فيها العقل المدبر وبراعة النجاة، يسجن (نورس) في الجزء الأول في سوريا بعد فشل محاولة اغتياله في طريق العودة إلى الوطن، تؤرجحه الحياة بين ورطة وأخرى، عقله فائق الذكاء يقوده إلى مأزق وينتشله منه، ليضعه في مأزق أشد فداحة، الكلمة الأخيرة للتخطيط والتنفيذ والاتجاه بثقة نحو الهدف، السجن مسرح ضخم لأحداث تتسرب من تحت الأبواب الموصودة ومن بين أقدام الحراس، ولعمليات انتحار مفبركة وسم يدس في الطعام، اللعب مخيف مع الرؤوس الكبيرة المتسللة إلى الأروقة عبر مخبرين يشترون بالمال، يلبس الغدار ثوب المغدور وتفوح روائح الشواء، إنها لعبة وقت، والشر لا بد منه، فيما عصابة مافيوية تصفي بعضها بعضا، تتساقط أسماء مصيرها الدوس، واللعبة أن البشر صنف يسحق وصنف يسحق، وحين تندلع الحرب، تكثر الأشلاء.
تصبح المعادلة: هل اللدغ لإحقاق الحق أم للتسبب بالأذية؟، الصراع الحقيقي ليس بين (نورس / قصي خولي) و(ألكسندرا / ميرفا القاضي) هو صراع جيل ما بعد الحرب مع أمل يلفظ أنفاسه، وطموح مقتول، وأمان ممدد على الأرض، لكن البراعة هنا تحسب لقصي خولي في ذهابه نحو مناطق شائكة عبر شخصية (نورس) التي أداها ببراعة مطلقة خاصة في الجزء الثاني من (الوسم)، وتشاركه براعة الأداء الصعب (ميسون أبو أسعد)، العائدة على جناح من النضج والإتقان الذي يضعها في مصاف النجمات الكبار في الدراما السورية والعربية، من حيث الخبرة والتقمص والعزف على أوتار التراجيديا الإنسانية بعذوبة مطلقة، جنبا إلى جنب مع (لبني ونس ومحمد مهران ورشا بلال).. هى إذن معزوفة جميلة في الأداء التمثيلي الجاد.
هنالك أكثر من (ماستر سين) في العمل، لكني أتوقف بقدر من التأمل في أداء قصي خولي وميسون أبو أسعد في مشهد (لقاء نورس ورهف بعد عودتها من رحلة قاسية للبحث عن ابنتها راند) الذي يعد ماستر سين الحلقات السبعة عشر، والذي جاء في الدقيقة السابعة من الحلقة الخامسة على النحو التالي:
يدق (نورس / قصي خولي) الباب على (رهف / ميسون أبو أسعد) ويدخل مقبلا رأسها، في محاولة للقفز على الماضي السيئ الذي جمعهما من قبل قائلا : أنا آسف .. باعتذر على كل شيئ صار بسببي.
رهف : صرت متعودة .. كل يوم بانزل بس بغير طريقة .. الفرق ان هالمرة روحت غصب عني .. غير مرات كنت أروح بكيفي .. بعدين يا سيدي ما اني متضايقه .. بالعكس يمكن هالمرة كانت كرامتي محفوظة أكتر شيئ.
نورس : أنا باعرف ان ما إللي أي ذنب بأي شيئ صار معك بالماضي .. بس أنا باحس بكل اللي كان حاصل معك بالماضي .. با عتذر عن كل شيئ صار معك.
رهف ببكاء حار: أني ما ناطرة اعتذار من حدا .. ناطرة اعتذار من الدنيا .. بدي شوف بنتي بس.
نورس : رهف أنا معك .. وحابقى معك لحد ماترجعي (رند) .. إوثقي في .. كنت حابب أخبرك بأني انتقمتلك من (حسام) .. باعرف ان كانت حتوصلك من عزام بهالطريقة.
رهف : إذا جرى شيئ في حياتي فهو بسبب (حسام) .. وإذا هالدنيا ردتلي كرامتي وأهلي فهى بموته.
نورس : رهف بدي اياك قوية متل ما باعرفك .. الدنيا دوارة .. مافي شيئ بيبقى على حاله.
رهف : طول عمري باسمع هالكلمة .. شكله دولاب حياتي ما عم ينقلب .. انت أكيد جاي من شاني هالمرة.
نورس : خليكي قاعدة ومرتاحة .. أنا واثق ان راند بإيدين أمينة .. ما أني جاي إلا غير أطمن عليكي .. أنا بره .. كوني منيحة.
رهف بصوت متهدج : نورس .. ثم ترتمي في أحضانه.
نورس : بدي اياك قوية .. ارتاحي.
تجلس رهف وتنظر إلى صورة ابنتها في أسى وحزن على أيام الفراق والغربة القاسية التي مرت بها، بينما يخرج نورس ليبدأ رحلة استرداد (راند) لأمها من جديد.