تعرف على نشيد (ليلى مراد) الذي تدخل في لحنه وكلماته زوجها (وجيه أباظة)
كتب : أحمد السماحي
قليلة جدا الأعمال الوطنية التى شدت بها سندريلا السينما الغنائية (ليلى مراد) وهذا راجع إلى اقتصار ظهورها فقط على السينما الغنائية، فهى بعد دخولها عالم السينما توقفت تماما عن الغناء في الحفلات العامة باستثناء حفلات قليلة جدا، وكلها جاءت بعد ثورة يوليو 1952، ورغم قلة أغنياتها الوطنية إلا أن بعضها ظل محفورا في ذاكراتنا مثل (دور يا موتور، نشيد التحرير، أرضي يا حلوة، سنقاتل، بسم الله بسم الوحدة، عيد ميلاد النصر، وياك يا وطننا الغالي، عيد الكرامة، يارايح على صحراء سيناء) وغيرها.
هذا الأسبوع في باب (حواديت الأغاني) سنتوقف عند واحدة من أهم أغنياتها الوطنية وهي (نشيد التحرير) هذا النشيد الذي كان انعاكسا لشعار ثورة يوليو 1952 الذي رفعه الرئيس (محمد نجيب) في ذلك الوقت (الاتحاد والنظام والعمل)، وأجمل ما في حدوتة هذا النشيد الذي كتبه ولحنه ووزعه الموسيقار (مدحت عاصم) أنه يكشف لنا لأول مرة كيف تدخل زوجها (وجيه أباظة) أحد الضباط الأحرار في غنائها للنشيد، وسر طلبه من مدحت عاصم أن يضيف أشياء للحن، ويضيف أيضا كلمات للنشيد.
تعالوا بنا نتصفح أحد أعداد مجلة (الكواكب) وبالتحديد العدد 105، الذي طرح في مثل هذه الأيام من حوالي 70 عاما وبالتحديد 4 أغسطس 1953، لنقرأ فيه حدوتة (نشيد التحرير) كما جاءت على لسان الموسيقار (مدحت عاصم) مؤلف وملحن النشيد.
مدحت عاصم يتحدث:
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، أنا مستغرق في نوم هادئ عميق لا تقطعه إلا أحلام وردية جميلة، سمعت رنين التليفون وخيل لي أنني أحلم، فدفست رأسي بين وسادتين لأستأنف النوم ولكن الرنين تواصل، وأيقنت أن المسألة حقيقة لا حلم فقمت من الفراش كارها وتمطيت وتثاءبت وسرت إلى التليفون والنوم مازال بين جفوني، ورفعت السماعة وصحت : ألو مين؟.
أحمد بدرخان : أنا بدرخان يا مدحت.
مدحت : أهلا بدرخان خير إن شاء الله.
بدرخان : خير طبعا وأنا أطلبك إلا في الخير.
مدحت : طيب اختصر يا حبيبي لإنك صحيتني من النوم.
بدرخان : الفيلم اللي أنت عملت له نشيد الثورة، فيلم (مصطفى كامل) تقرر الإفراج عنه.
مدحت : طيب يا سيدي مبروك، وما كانش ممكن تقولي الخبر ده بكره.
بدرخان : يا أخي طول بالك واسمع الكلام للآخر!
مدحت : قول!
بدرخان : الرئيس محمد نجيب قبل أنه يشرف حفل الافتتاح، وما يصحش إننا نخلي المناسبة دي تعدي من غير ما نحضر حاجة مخصوصة.
مدحت : ري إيه يعني؟!
بدرخان : نشيد وطني مثلا تحية للعهد الجديد وأبطال التحرير.
مدحت : طيب يا سي بدرخان على عيني ورأسي بكره الصبح نتفق.
بدرخان : طيب يا أخي ما نتفق دلوقتي.
مدحت : دلوقتي أنا نايم ومش حأقدر أتفاهم، الصبح له عينيين، تصبح على خير.
وسمعت بدرخان يقول في غيظ : وأنت من أهله!.
قلق وتفكير
يستكمل مدحت عاصم كلامه فيقول : احتواني الفراش وحاولت أنام، ولكني لم أستطع فقد دقت الفكرة رأسي في قوة، وكانت فرحتي بالإفراج عن الفيلم الذي سكب فيه بدرخان عصارة خبرته وفنه وجهده فرحة كبيرة، ثم أن تشريف الرئيس (نجيب) لحفل الافتتاح أمر لا يستهان به ويجب أن نخرج على ضوئه نتائج كثيرة منها حب هذا العهد للفن وفتح النافذة أمام الحريات وتشجيعه لإعادة سير الأبطال الذين أدوا لمصر أجل الخدمات دون حقد عليهم ودون ضغينة كما كان يفعل السابقون.
والنشيد أي نشيد أضع؟ وبيني وبين الافتتاح خمسة أيام، ومن أكلف بوضع النشيد؟! وهل المسألة ارتجال بحيث ينتهي المؤلف من التأليف والملحن الذي هو أنا من وضع اللحن ثم توزيع الموسيقى في خمسة أيام، مستحيل مستحيل!.
صلاة الفجر والنشيد
ويضيف عاصم : لست أدري متى أخذ النوم يتسلل إلى جفني، وفجأة استيقظت لأؤدي صلاة الفجر، وبعد أن انتهيت من الصلاة، وطلبت من الله التوفيق، رحت أتطلع من النافذة على الكائنات الهاجعة في أحضان الفجر، وكانت على منضدة أمامي صحف اليوم السابق وقد كتبت فى إطارات واضحة شعار العهد الجديد : (الاتحاد والنظام والعمل).
ورحت أقلب في المبادئ الثلاثة على شتى الوجوده (العمل والنظام والاتحاد) ثم (الاتحاد والعمل والنظام) ثم أقول (النظام والعمل والاتحاد)، ووجدتني أمسك ورقة وقلما ومن وحي الفجر والصلاة لله كتبت : (على الاله القوي الاعتماد)، وسارت يدي على الورقة (بالنظام والعمل والاتحاد)، وفي ثلاث دقائق كنت كتبت باقي المطلع كالآتي:
على الإله القوي الاعتماد
بالنظام والعمل والاتحاد
فإنهضي يا مصر، يا خير البلاد
واصعدي للمجد وامضي للرشاد
وحدة بواحدة
يشير عاصم قائلا : قبل أن تبدو تباشير الصباح كنت قد انتهيت من الكوبليه الذي يبدأ بـ (يا إله يا قدير أنت يا نعم النصير)، ولحنت هذا الذي ألفته وأحسست بالرضا عن كل ما فعلت، ونظرت للساعة التى في يدي فوجدتها الخامسة ونصف صباحا، أي إنني في أقل من ساعتين انتهيت من النشيد بصيغته الأولى تأليف وتلحينا.
وأدرت قرص التليفون على أحد بدرخان.
بدرخان : ألو مين؟
مدحت : أنا مدحت يا بدرخان.
بدرخان : ايه يا سي مدحت يعني ما ينفعشي تتكلم لما يطلع النهار.
مدحت : لأ لازم دلوقتي عشان تبقى واحدة بواحدة.
بدرخان : خير يا سيدي!
مدحت : طبعا خير النشيد.
بدرخان : ماله؟
مدحت : خلاص.
بدرخان : خلاص يعني إيه مش عاوز تعمله؟!
مدحت : لأ خلاص يعني انتهيت منه اسمع كده.
ووضعت السماعة ملتصقة بالبيانو، وأرهف (بدرخان) السمع، وسمعته يصيح في نشوة بعد أن انتهيت من النشيد، رائع، واستطرد يقول : اسمع يا مدحت أنا عندي فيلم وطني ولازم ندخل النشيد ده فيه، ولو ماكانش ينقع له أنا مستعد أعمل فيلم بحاله علشانه.
فقلت له : أنا أرفض لأن النشيد وضع لحفل افتتاح فيلم (مصطفى كامل)، ويجب أن يذاع في حفل الإفتتاح.
فقال : وهو يتثاءب طيب نبقى نتناقش في المسألى دي لما نتقابل.
ظهور وجيه أباظة
يستكمل عاصم حدوتة (نشيد التحرير) فيقول : في المساء كان عندي (بدرخان) ومجموعة من أصدقائي الضباط، من بينهم صديقي العتيد وقائد الجناح (وجيه أباظة)، وقد اسمعتهم النشيد فوجدتهم يرددونه معي، وانطلقنا ننشد كلنا في حماس وحمية، وما كدت أنتهي حتى قال وجيه أباظة : إسمع يا مدحت أنا عندي فكرة لمطلع النشيد، لازم البدء يكون مارش عسكري علشان ننبه الأذهان وننشط الحاسة، حاسة الإستماع للكلام اللي جاي، ووجدته قولا معقولا، فغيرت مطلع النشيد.
وعاد (وجيه) يقول : ثم أن النشيد قصير ليه ما تعملش حاجة علشان السودان، وليه ما تزودوش كلام تاني، وقال هذا وتركني، ورجع لمنزله، وبعد ذهابه كتبت (في الشمال والجنوب، قد صفت كل القلوب، ضمنا الوداد، نيلنا عماد، رمز الإتحاد).
وعاد (وجيه أباظة) في اليوم التالي ليجد النشيد كاملا، وحتى هذه اللحظة لم أكن قد قررت من ينشد هذا النشيد، ولا وضعت في ذهني مطربة بالذات، أو مطرب بالذات، وجاءت على غير ميعاد السيدة (ليلى مراد)! وكانت في سفر، ومن عادتها أن تأتي للسلام كلما عادت، وقال لي وجيه أباظة : سمع ليلى النشيد، واستمعت للنشيد وراق لها وراحت تغنيه معنا، ثم قالت لي : أنا عاوزة أغني النشيد ده، وتحمس لهذا وجيه أباظة وكل الموجودين.
وغنت (ليلى مراد) النشيد في حفل الافتتاح، وتقلدت من أجل هذا النشيد الذي استلهمته من آذان الفجرة وصلاته وساما رفيعا من الرئيس محمد نجيب.