سعد سلطان يكتب : (منير) .. بعدُك كلَّ الملوكِ رماد !
بقلم : سعد سلطان
من حقِّ (الملك) أن يُغنِّي ما يشاء وقتما يشاء ممن يشاء .. هذه بداهة النقاش فيها محل أسفٍ .. فعلها مرارا من قبل .. غنَّي لشادية ووردة ونجاة وفيروز وزاد في الغرابة وصولا لسعد عبد الوهاب .. بخلاف الشبابيك والبيوت والحَمَام وبلح أبريم والضفائر الحزينة .. غنَّى للغيطان للمآذن لأجراس الأحد .. غنَّى للأولاد في البلاد والصبية أم المريلة كحلي .. غنى لما تحت الرِّمْش (عتاب وحنين وعيون ما تنام).
غناء منير مُتفقً عليه ..صوته شَبْعان بقداسة ماء النهر فمَرْضِّيً عنه .. مصْريتهُ الجنوبية من تاريخ الجبال والأنهار والأحجار .. هل نحن في حاجة لتذكير مراكز التفكير ..؟! فكما هناك تقرير للحالة الدينية بالبلاد ترصده مراكز الأبحاث والدراسات السياسية .. هكذا منير مُؤشر وترمومتر شديد الدقة مؤكَد النتائج لما ما في الشارع من رضا أو غضب .. لا تحتاج معه إلى استقصاءات أو استطلاعات رأي.
منير من خلاله تَعْرف ما يحدث وما سوف .. 30 ألفا حضروا حفله الأخير في الأسكندرية .. جلس آلاف منهم على بعد 5 كيلو متر يتنسَّمون الطريق للقادم في مستقبل الأيام .. لك أن تُفسر الحالة كما تراها .. في حفل واحد جمع (منير) ما عجز الساحل الشمالي عن تحقيقه على مدار شهر، بكل حفلات نجومه العرب والمصريين والأجانب (دياب وهضبته لم يجمع من البِيضِ إلَّا 5 آلاف شخص رغم تقاضيه 4 ملايين جنيه .. وخسر منظم حفل تامر حسني مليون جنيه لحضور ألف مدعو فقط .. ومئات معدودين حضروا حفل الدي جي العالمي دافيد جيتا).
(منير) كان هنا بيننا .. يشاركنا على شاطئ الإسكندرية (ليلها المشغول بالفيروز والمزاهر) .. غنَّي لنا نحن أبناء الشوارع ورُواد طرقات الأحلام المؤجلة (يا اسكندرية بحرك عجايب .. ياريت ينوبني من الحب نايب) لنعيد معه تراتيل الغياب .. والكتابة على الفضاء فتنبت كلمات أغانيه على أصابعنا .. ويصير (الصوت المنيري) دليل طريق وعلامة هداية وهدوء .. جاءَ بحُزنه (المرسوم على الغيوم والأشجار والستائر) على رفيق دربه الموسيقار وعازف فرقته الألماني (رومان بولكا) الذى تصادفت جنازته مع توقيت الحفل .. جاء يغنينا للحياة والجمال فيما يشكو هو الموت وقسوة الفراق المتتالية .. من أجل ذلك يذهب الأبناء لمنير حبا في الإنسان.
تصاعدت أزمة (لِلِّي) وامتدت النيران إلى الشاشات ومنصات اليوتيوب آخذة طريقها إلى المحاكم والنيابات .. وبينما انشغل الفنان أكرم حسني – المتهم بالسرقة لحنا وكتابة – بالرد على الاتهامات وتجييش مناصريه في مواجهات إلى حد الرغبة في انتزاع فن (المربعات) من الصعيد المالك للحيازة ومبتدعها، وسط هذه الأجواء يجلس (الكينج) مستريح البال هانيها .. لم يُطلق تصريحاً ولم يستدعِ (المنايرة) ولم يُوعِز للأولتراس بالتدخل، ولم تزعجه إطلاقا آثار المعركة وما أسفر عنها من حذف للأغنية من (اليوتيوب)، فهو يعرف الحقوق ولا يتجاوزها.. أقصي ما سُرِّبَ عن منير كان على لسان أكرم حسني الذي لَفتَ إلى أن (منير ليس منشغلا بالضجة) .. ولا مهموما بها).
إذن السؤال الذي تفرضه المعركة الدائرة : هل حقا ما يحدث هذا؟! أم أنه تداعيات نجاح وصراع سوق صيفي باغته (الكنج) بأغنية واحدة فاكتسح (وزير السعادة، وما شافش نجم الجيل الموهوم، وركن المهرجانات والرابر المنفوخين سوشيليا) .. لم يفعل منير في هذه الأغنية سوى ما يفعله مع غيرها .. فقط التقط لحظة التجلِّي التي اصطادها الفنان أكرم حسني (كلمة ولحنا) .. فهو المدرك أن الحظوظ قليلة – حاليا ودوما – في الحصول على أغنية تليق به.
كنت مرافقا لمنير في رحلة لبيروت لإنجاز حلقة (كوك ستوديو) مع فرقة بوب مارلي (ويللرز) .. لاحظت وجود شاب خارج منظومة فرقة منير .. موظف بنك هاوٍ ومدمن التقاط ما هو طائر في السماء من كلمات، وما هو مدفون تحت الرمال من تيمات، وما هو في ركن من الأرض بعيد المنال، وواجبه أن يُسْمِع منير والأخير يخوض معركة الصدام والتجديد .. لوقت ليس بقصير عاشت معي أغنية (فينك يا حبيبي يا دنيتنا) كانت قد غزت مصر في الثمانينيات بصوت (بحر أبو جريشه) .. تمنيت آنذاك سماعها من منير .. مرَّت الأعوام والأعمار وأفنى الرجل حياته لإبهاجنا وتصادف أن يغنيها مؤخرا .. مع منير أنت تحلم فيغني لك .. فلا تبحثوا فينا عن أسرار عشقنا الدائم له.
نُعيد السؤال : هل حقا ما يحدث من آثار حفل الأسكندرية وآلافها الداعية إلى القلق المزعوم (ربما) .. كونهم يحملون في صدورهم أغاني مُفجِّرة لأمل وألم؟، ولكن ما لا ندركه أن القلق الأكبر في غيابه لا حضوره (إذا كانت الإجابة..نعم) .. صوت منير مؤشر النبض وآلة القياس .. ومعه لا يجوز حتى تفكير المحاصرة، فمعه (الغناء أو الفناء) .. كما لا يحتاج (منير) إلى رمزية وإشارات من (عمرو أديب) الذي انتقد سوء تنظيم حفلة (كاريوكي) التالية لمنير بالإسكندرية!!!.
لمنير إجابات معروفة للمقربين حينما تثار مثل هكذا معارك حوله : (الموسيقى نهر وللمغني حق التقاط ما تستوعبه موهبته) .. ومعه الحق .. فمن سواه اقتحم الموروث وصحَّاه من نومه وأعاده يقظاً ألقاً مزهْزِهاً؟ .. من غيره جاب موسيقى العالم وطحنها وعجنها وانتزعها من الشِغافِ أغنية شابة شهية شقية؟ .. من دونه صالَ في أدغال فنون الشعوب وموسيقاها وخلط الجاز بالخماسي النوبي وجاءكم بالنبأ اليقين؟!.
منير سيغني ما يشاء وقتما يشاء .. ليُرْبِكَ العالم ويعيد إليه توازنه المفقود .. أما الآن : دعوه يغفو قليلا .. خلوه يرتاح لساعات .. ليعود إلينا بالفرحة (الدنيا لو جارحة .. لونها لون فرحة .. (ما هو ايه بيطول عمر الواحد غير / غير الفرحة). ملحوظة : العنوان وبعض مابين الأقواس أوصاف نزارية.