بقلم : محمد شمروخ
لا أدرى ما الذي جعلنى أربط ذلك الرباط العبثي بين المشهد الأخير في فيلم (غروب وشروق)، حيث يستسلم عزمى باشا رئيس البوليس السياسي لمصيره المحتوم وبين حركة التنقلات الموسمية بين ضباط وزارة الداخلية في شهر يوليو من كل عام.
هل لأن الفيلم يتحدث عن مرحلة من تاريخ مصر انتهت بقيام ثورة 23 يوليو 1952 وهو نفس شهر الحركة؟!
أو ربما لأن ثورة يوليو في المبتدأ كانت تسمى (حركة الضباط الأحرار) .. قبل أن تسمى ثورة؟!
ولماذا لا؟!
أليست كلا الحركتين تنهيان عهدا قبلها وتبدآن عهدا بعدها؟!
لكن تأمل معى ملامح الانكسار على ملامح وجه (الباشا عزمي) والذي دعا المخرج (كمال الشيخ) والسيناريست (رأفت الميهي)، أن يحذفا من مشهد النهاية جزءا كبيرا من أداء (محمود المليجى) بعد أن طلبا منها ألا يتقن تمثيل هذه اللحظة، لأن روعة إتقانه للانكسار يمكن أن يؤدى لتعاطف الناس مع الباشا وهو عكس المطلوب!.
– حتى الآن لم تخبرنا بالعلاقة بين حركة الضباط الأحرار في يوليو 52 وحركة ضباط الداخلية في يوليو من كل سنة!
– الحقيقية أن الرابط تعسفى ولا علاقة حقيقية ولكنى أرى في المشهدين (نهاية تمثيلية مطلوب فيها عدم الإتقان لإنهاء عهد الباشاوات).
– لا يا شيخ .. بالذمة إيه؟!
آه طبعا.. فهذا المشهد يأخذ ناصيتى لمناقشة أمر عجيب وغريب وهو تعودنا إطلاق لقب (الباشا) على السيد ضابط الداخلية وثبت هذا اللقب وتغول حتى ظن كثيرون من السادة ضباط الداخلية أنهم باشوات بحق وحقيقي.
– ستوب عندك.. أنت كده بتخبط في الحلل !.
والله العظيم ما أنا لوحدى.. فلا أخفى أننى كنت ومازلت أضيق بهذا التعظيم بإطلاق لقب باشا سواء على ضابط الشرطة أو غيره، لكن أذكر أن السيد اللواء حبيب العادلى وزير الداخلية في مفتتح عهده بالوزارة، أبدى رغبة حقيقية في إنهاء هذا التزلف لضباط الشرطة بإطلاق لقبى (بك وباشا) على الصغار والكبار، فلا هم بهوات ولا باشوات ولا كانت هناك بهوية ولا باشوية منذ أن قرر مجلس قيادة الثورة برئاسة (اللواء محمد نجيب) إلغاء الألقاب المدنية كافة مثل أفندى وبك وباشا وصاحب المعالى وصاحب المقام الرفيع وهانم ورتب وألقاب أخرى وكان ذلك في سبتمبر سنة 1952.
الجميل في الأمر أن رئيس وزراء مصر حين صدور القرار كان (على ماهر باشا) صاحب المقام الرفيع وهذا أعلى لقب مدنى يمنح لمن هم خارج البيت المالك من البرنسات والبرنسيسات والأمراء والأميرات والذين ولى عهدهم بلا رجعة.
وفي كتابه (كنت رئيسا لمصر) يبدى اللواء نجيب اعتزازه بهذا القرار الذي كان بداية حقيقية للتغيير الاجتماعى لتتحول حركة الجيش المباركة من مجرد حركة إلى ثورة شاملة.
ويبدى نجيب أسفه على أن المجتمع المصري ظل مستمسكا بالألقاب، خاصة لقب بك أو كما ننظقها (بيه) وإن كان يبدى سعادته بأن لقب (باشا) قد أصبح مجال سخرية وأصبح المصريون يعاملونه بامتهان في كل مكان.
ولكن نجيب لم يدرك أن اللقب عاد له بريقه في أماكن كثيرة وخصوصا أقسام ومراكز الشرطة!
لكن ماذا عن محاولة السيد (اللواء حبيب العادلى) بالتنبيه شفوي بالإقلاع عن بيه وباشا؟!
– ههههههههههههههههههههههه
– نعم؟!
– هههههههههههههههههههههههه.. تانى!
أذكر أننى ناقشت ذلك (شفويا) في حينها مع (العقيد عبد الفتاح عثمان)، وهو أحد الأصدقاء الأعزاء من ضباط المباحث من الذين يمتازون بعقلية منفتحة وثقافة تتيح له استيعاب الأمر ولكنه أبدى تعجبه من كيفية تنفيذ تعليمات السيد الوزير معلنا يأسه من إيجاد وسيلة لتغيير ما صار حقا مكتسبا ولو لم يكن رسميا.. والدليل أننى مازلت أناديه هو شخصيا وبقية أصدقائي الباشوات: يا (باشا)!
لا أخفى ضيقي بأننى إبان فترة عملى في مجال الحوادث والقضايا، أننى كنت – ومازلت – أضيق باضطرارى للتخاطب مع السادة الضباط بالبيه والباشا!، حتى الأصدقاء المقربين منهم؟!
– نعم حتى الأصدقاء المقريبين، بل وبعض الأقارب وزملاء الدراسة القدامى!، فقد تعامل الضباط مع اللقب كتعامل الطبيب مع لقب دكتور والمهندس مع باشمهندس والمدرس مع (مستر).
الحقيقة المرة أن هذا التمييز الشعبي يصيب بعض الضباط بتضخم في الذات لعله سبب الكثير من المشاكل التى تحدث منهم ولهم، ولكن.. لا تلم الضباط وحدهم.. أنت نفسك تنفش ريشك عندما يناديك أحد يا بيه ويا باشا وقد تغضب من يا أستاذ ويا حج أما يا أفندى فقد يمكن أن تعتبرها إهانة!
– أرأيت يا صديقي؟!
إنه مرض اجتماعى متغلغل في ثنايا الشخصية المصرية الحالية، فما الشرطة بالنسبة للمجتمع إلا بمثابة الجلد للجسم، تظهر عليه أعراض الأمراض الباطنة والظاهرة من اصفرار وجفاف وتشقق وإفرازات ودمامل وكذلك الأورام!.
صدقنى وحياة من جمعنا هنا سوا من غير معاد.. أننى لا أقصد الشرطة وحدها، فهذه النفشة (الديك رومية) التى تصيب البيه والباشا هى في الأساس دليل على تفشي شعور عام بالدونية تجاه المناصب والرتب والمكانة الوظيفية والاجتماعية!
والحقيقة يمكن التماس العذر.
وبص.. من الآخر كده اسأل نفسك: ما حال فتى في السابعة عشر من عمره (قانونا الطفولة حتى الثامنة عشر) يدخل كلية الشرطة فتهفو إليه القلوب ويصبح بين يوم وليلة حلما للعذارى، وتراه مع أول إجازة يستقبل استقبال الفاتحين ويصير نجم نجوم العائلة والشارع والمدينة وأنه الآن مشروع باشا وبعد سنوات قلائل سيزلزل الأركان بخطواته!
اللهم لا حسد !!!
ولكن السؤال الأهم: هل هو مهيأ نفسيا لكل هذا التضخم مع توالى الرتب؟!
حسب قوانين العهود البائدة قبل ثورة يوليو، كان الضابط الذي يصل إلى رتبة أميرآلاي (عميد حاليا) يأخذ لقب (البك) تلقائيا، ولو أكمل إلى رتبة اللواء فقد صار مستحقا لحمل لقب (باشا) بالتلقائية نفسها دون حاجة لفرمان ملكى.
هل تذكر رجاء الريس عبد الواحد الجناينى في فيلم (رد قلبي) عندما تجرأ وطلب يد (البرنسيس إنجى) من أبيها سمو الأمير؟!
لقد ذكر عبد الواحد للبرنس أن على ابنه أصبح ضابطا وسيصير يوما حاملا لرتبة لواء .. يعنى باشا.. أما عبد الواحد سيموت وينساه الناس ويظل ابنه باشا جديرا بنسب العائلة المالكة!
عبد الواحد اتجنن وانشل وكمال ياسين كسر الكوباية.. يا خسارة الكوباية يا جدعان!!
كان الملك أيضا بمجرد أن ينادى فلان ببك أو باشا، يتم تسجيلها فورا رسميا مادامت خرجت من الفم الملكى!
هل تذكر فرحة سليم باشا البدرى في (ليالى الحلمية) عندما خسر عشرة آلاف جنيه ليحصل على الباشوية بالمنطوق المالكي السامى؟!
ربنا يخلى لنا الدراما وتفكرنا بالذي مضى!
لكن الدراما جسدت لنا نهاية الباشا (عزمى) في (غروب وشروق)، كذلك فعلت في (زوجة رجل مهم)، حيث جسدت لنا مأساة نهاية الضابط (هشام) بعد الاستغناء عن خدماته، لكن الدراما لم تركز بعد على مأساة (عزمى أو هشام) إذ يخرجان في حركة التنقلات السنوية بسبب أو من غير سبب!
لكن إحقاقا للحق فأنا أعرف ضباطا انتظروا هذا اليوم ليحرروا من قيود الوظيفة ومنهم من صار بسم الله ما شاء الله باشا كبير لا تهدد باشويته أى حركة، ومنهم أيضا من انتهزها فرصة للتكفير عن ذنوبه وليتحلل من أوهامه، ولكنه قد لا يشعر أبدا أن (الباشوية) التى عاش ينادونه بها هى واحدة من أكبر هذه الذنوب وأهم تلك الأوهام!
إذن فحركة يوليو 52 قضت على الباشوية الحقيقية ولكن حركة يوليو الأخرى لم تستطع أن تقضي على الباشوية الوهمية!
المهم هل أدركت الآن ما سبب العلاقة التعسفية التى تحسستها في نهاية (غروب وشروق) بين انكسار (عزمى باشا) مع حركة يوليو من جهه وبين نهاية غروب وشروق وحركة تنقلات يوليو من جهة أخرى؟!
أظنك لو أدركت لربما التمست العذر لعزمى باشا ولكل عزمى باشا!