بقلم : محمود حسونة
عندما يكون الشعب صاحب تاريخ ممتد في أعماق الزمن، وصاحب حضارة أبهرت العالم وعلمت الدنيا ومازال العلماء عاجزين عن سبر أغوارها وكشف أسرارها وحل ألغازها، فلا بد أن يكون شعباً قادراً على مواجهة التحديات، وتجاوز الكبوات وإثبات أنه يستطيع أن ينافس ويثبت ذاته ويستعيد مكانته. صحيح أن كل شعوب الدنيا تتعرض لأزمات، وصحيح أن الدنيا دوارة، وصحيح أن أباطرة اليوم لم يكن لهم وجود بالأمس، ولكن الصحيح أيضاً أن بعض الشعوب لا تقوم لها قائمة بعد أن تأتي عليها الدنيا، وأن بعض الدول تنمحي من الوجود وتستبدل بأخرى بعد الأزمات، وبعض الدول تتفكك وتتحول إلى دويلات صغيرة، ولكن الدولة المصرية تأتي في مقدمة الدول التي لم تنل منها عوامل التعرية السياسية على مدار 7 آلاف سنة، وأن الشعب المصري يشهد له التاريخ بأنه الأكثر تحدياً للطامعين والغزاة الذين قدموا من مشارق الأرض ومغاربها وبعضهم لم يعد له وجود في عالم اليوم، والشعب المصري موجود وسيظل خالداً في المستقبل كما كان في الماضي.
نعم، مصر تستطيع، وها هى تبني قواعد جديدة للمجد وتتحدى الظروف الاقتصادية القاهرة، ومثلما هى تستطيع أن تنهض سياسياً واقتصادياً وعمرانياً، فإنها أيضاً تستطيع أن تنافس سينمائياً وإبداعياً؛ فمن حافظ على دولته آلاف السنين، ومن أبهر الدنيا علمياً وطبياً وحضارياً في الأزمان الغابرة، لا يمكن أن تجف منابع إبداعه، ولا يمكن لفنونه أن تموت حتى لو استهوتها موجات الابتذال وجرفتها تيارات التسطيح بعض الوقت. ومن يشاهد فيلم (كيرة والجن) المعروض حالياً في دور السينما المصرية والعربية يتيقن أن مصر تستطيع، تستطيع أن تنافس سينمائياً، وأن تتألق إبداعياً، وأن تبهر فنياً، وأن الفن الذي نراه اليوم ونخجل منه هو أمر عارض سوف يطويه الزمن وتهيل عليه الأيام التراب حتى يصبح نسياً منسياً.
ولم لا تستطيع مصر؟ وهى الزاخرة بالمبدعين والفنانين الذين كانوا سباقين وساهموا في جمع أمة العرب على كلمة سواء في الماضي القريب، وهي أيضاً صاحبة التاريخ المليء بالشخصيات التي تستحق أن تروى سيرتها للأجيال، وهى التي أنجبت أبطالاً يستحقون منا أن نخلدهم ونتباهى بهم وبمواقفهم، وهى صاحبة المعارك التي ينبغي أن تخرج من كتب التاريخ إلى الشاشات لأجل انتشار أكبر ومعرفة أوسع.
قلنا ونقول وسنقول أن تاريخنا ثري وماضينا مشرف وأبطالنا لا حصر لهم، والفن عليه دور كبير في الإضاءة على تاريخنا وإحياء أبطاله بدلاً من الغرق في مستنقع الابتذال، ونحن اليوم نعيش في حرب تستهدف هويتنا، وعلى المبدعين دور كبير في الدفاع عنها بأعمال ترسخها لدى الأجيال المستهدفة من رياح العولمة العاتية والتي تضع في مقدمة أهدافها أصحاب التاريخ العريق والحضارات الإنسانية. وعندما نشاهد فيلماً مثل (كيرة والجن) نفرح من قلوبنا لأن لدينا مبدعين ينبشون في تاريخنا ويستخرجون جواهره لعرضها على الملأ حتى تحصن أجيالنا الحالية واللاحقة، ونتباهى أن لدينا فنانين موهوبين يستطيعون أن ينافسوا عالمياً، ونفخر أن لدينا فنيين يجيدون صناعة سينما لا تقل عن سينما هوليوود بل يمكن أن تتفوق عليها إذا واصلت السير في هذا الطريق.
كثيرون منا، بل كثيرون جداً جداً لا يعرفون أحد اسمه (أحمد عبدالحي كيرة) ولا يعرفون (عبدالقادر شحاتة الجن)، ولا يعرفون (دولت فهمي)، ولا باقي رفاقهم الذين زعزعوا استقرار الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، الامبراطورية الإنجليزية، وأطاروا النوم من عيون قادة الاحتلال الإنجليزي، واستهدفوا كبارهم واقتحموا معسكراتهم وساهموا في إجبارهم على الرضوخ للإرادة المصرية.
3 ساعات تمر من دون لحظة ملل واحدة، تمر والمشاهد في حالة متعة عقلية بما يرى واعتزاز بأن هذا العمل صناعة مصرية، وتفاخر بالأبطال الذين يحكي سيرتهم، والذين قدموا حياتهم فداءً للوطن وانتقاماً من عدو محتل تجبر وقتل وبغى وتجاوز المدى، وكل ذلك من دون أي مقابل، لا بحثاً عن مجد، ولا عن شهرة، ولا مقابل مال، بل وفعلوا ذلك من دون أن يعرف أقرب الناس إليهم، فعلوه والمحيطين بهم والأقربين إليهم يتخيلونهم خائنين للوطن خارجين عن الأعراف الاجتماعية. (الدكتور أحمد كيرة) كانت أسرته تخجل من أنه (ابن الانجليز المدلل) وهو المقاوم الشرس للانجليز، و(عبدالقادر الجن) كانوا يرونه مجرد عميل للإنجليز وهو الذي انقلب عليهم بعد قتلهم لوالده، و(دولت فهمي) الصعيدية التي انتهت حياتها مقتولة بيد شقيقها خجلاً من عار وهمي بعد خروجها على الأعراف البالية من دون أن يعرف أنها الفتاة التي ينبغي أن يتباهى بأفعالها كل أبناء الصعيد.
الفيلم المأخوذ عن رواية المبدع أحمد مراد (1919) والذي يضيء على بعض جوانب ثورة 1919 بداية من حادثة دنشواي والتي أعدم خلالها الإنجليز عدد من قرية دنشواي ظلماً ومنهم عبدالحي كيرة والد أحمد كيرة وحتى ثورة 1952، وأخرجه العبقري المتفرد (مروان وحيد حامد)، ليس مجرد عمل يحكي سيرة أبطال شعبيين ودورهم في حركة كفاح شعبي امتدت على أرض مصر، ولكنه يريد من مشاهديه أن يتأملوا الفرق بين مصر الماضي ومصر الحاضر، فمصر الماضي كانت تتوحد في وجه العدو، لا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي، ولا فرق بين طبيب وبلطجي، ولا فرق بين أخرس ومتكلم، ولا فرق بين فتاة وشاب، ولا فرق بين متعلم وجاهل، الكل يد واحدة في مواجهة العدو. وفي مصر الأمس كان صاحب المصلحة مع العدو لا يمكن أن يعمل لصالحه ضد الوطن ولا يمكن أن يبيع بلده مهما كانت مكاسبه، أما مصر اليوم فقد كثرت فيها الفروق وأصبح الناس يصنفون بعضهم البعض على أسس غريبة، فهذا غني وذاك فقير، وهذه محجبة وتلك متبرجة، وهذا مسلم وذاك مسيحي، وغير ذلك من التصنيفات التي تفتت الأوطان وتنشر الفتنة وتضعف الدولة، ومصر اليوم التي أصبح بعض أبنائها هم العدو الأكبر لها ويسعون لهدمها بكل السبل، وبعضهم باع نفسه ووطنه لمن يريد هدم بلاده وجعل نفسه أداة رخيصة للمتآمرين عليها في الخارج، ولا يكل ولا يمل عن اختلاق الشائعات ونشر الأكاذيب أملاً في فتنة لن تتحقق بمشيئة الله.
تحية لنجومنا الكبار جداً (كريم عبدالعزيز وأحمد عز وهند صبري وأحمد مالك وعلي قاسم وسيد رجب)، وتحية لنجوم شاركوا في هذا العمل بمشاهد قليلة ولكنها كبيرة التأثير(روبي وإياد نصار وسلوى محمد علي وأحمد كمال الدين وكريم محمود عبدالعزيز ولارا اسكندر ورزان جمال ورشدي الشامي وهدى المفتي)، وشكراً للموسيقار (هشام نزيه) ومصممة الملابس (ناهد نصرالله) ومهندس الديكور (باسل حسام)، وشكراً لشركة (سينرجي) التي أنفقت بسخاء على عمل سيظل في رصيدها مصدر فخر واعتزاز.