كتب : أحمد السماحي
في كثير من البلدان من حول العالم، تتحول أغراض المبدعين أو بيوتهم إلى آثار وطنية وعالمية مفتوحة على الإنسانية جمعاء، دون تمييز، وهذه هى رسالة الإبداع الحقيقية، أن يكون جامعا لمختلف الأعراق والشعوب التي قد تفرقها اللغة أو اللون أو الدين أو حتى الجغرافيا، لكن وحده الإبداع يجمعه تحت سقف واحد هو الجوهر الإنساني الطامح إلى الجمال والخلق.
لكننا في عالمنا العربي البائس بمجرد إلقاء لمحة على بيوت الكثير من المبدعين سنكتشف هول الاستهتار بتراثهم رغم ما قدمه هؤلاء من شعراء ومطربين ورسامين وموسيقيين ومصورين سينمائيين ومخرجين وغيرهم للوطن العربي من منتج إبداعي خالد، يمثل موروثا عميقا، كان الأجدر الاعتناء به لا إهماله، ولعل أغلب بيوت المبدعين العرب تعرضت للهدم أو البيع أو الإهمال، فيما كان يمكن استغلالها كمنابر ثقافية مختلفة الأنشطة ترسخ جو الألفة بدل التناحر والعنف، وتشيع التسامح والجمال بدل قبح الواقع الذي يستفحل في أغلب الأقطار العربية.
ومن واجب الدولة ومسئوليتها هنا الحفاظ على تراث هؤلاء المبدعين وصيانتها.. ولسنوات طويلة طالب المثقفون وبحت أصواتهم، للحفاظ على تراث المبدعين وحماية ذاكرتنا الثقافية والفنية.. مطالبين بإقامة متحف أو بيت للمبدعين، يضم تراثاً ومقتنيات العديد من الكتاب والمبدعين.. فلا يعقل أن نترك تراث (أم كلثوم، أحمد زكي، يحيى حقى، نجيب محفوظ، صلاح عبد الصبور، صلاح جاهين، أمل دنقل ، إبراهيم أصلان، بليغ حمدى، نجيب سرور، خيرى شلبى، فؤاد حداد، سيد حجاب)، والعديد من كبار كتابنا وفنانينا ومبدعينا الراحلين وآخرهم رمسيس مرزوق.. لا يعقل أن نترك مقتنياتهم وتراثهم وأعمالهم للتبديد والضياع.. هذا واجب ودور ومسؤولية وزارة الثقافة.. ومن الواجب أيضا تدخل مؤسسات المجتمع المدني، وتعاون رجال الأعمال، لدعم فكرة إقامة متاحف أو متحف يضم أعمالا ومقتنيات الأدباء والفنانين، ويحفظ تراثنا الثقافى وذاكرتنا الإبداعية.
منذ ساعات قليلة حدثت فضيحة فنية سينمائية أخلاقية لا يجب السكوت عليها، أوغض النظر عنها، حيث نشر عاشق الفن المصري (مكرم سلامة) الرجل الطيب الذي يشتري كل ما يخص الفن المصري من صور فنية قديمة وحديثة وكاميرات قديمة واسطوانات وبوسترات وخلافه على صفحته على موقع التواصل الإجتماعي (الفيس بوك)، نشر شهادات وجوائز مدير التصوير الراحل (رمسيس مرزوق) أحد رواد التصوير السينمائي الذي أطُلق عليه ألقاب كثيرة منها (ساحر الضوء، فارس الظل والنور) والذي قدم خلال مشواره الفني عشرات الأعمال السينمائية المهمة، ووقف أمامه، وجوه أشهر نجوم السينما المصرية.
وقال عم (مكرم): إنه اشترى هذه الشهادات السينمائية من تاجر موبيليا!، والسؤال كيف وصلت هذه الشهادات والأوسمة والجوائز المهمة ليد هذا التاجر؟، وأين ورثة الراحل؟، وهل هم في احتياج شديد للمال إلى درجة بيع شهادات وجوائز وأوسمة والدهم مدير التصوير الشهير الذي رحل عن حياتنا في مثل هذه الأيام وبالتحديد في الأول من يوليو العام الماضي 2021؟، أم هو موقف احتجاجي من ورثة الراحل يؤكدون من خلاله كرههم للفن وللسينما؟!
حقيقي لا أعرف!، وليس لدي علم لكن ما أحب أن أؤكد عليه أن ما حدث في حق هذا الرائد السينمائي وفي ذكرى رحيله الأولى التى سنحييها بعد أيام عبث وفانتازيا فوضوية وكارثة حقيقية مؤلمة جدا في حق الفن المصري والسينمائي تحديدا، ما حدث جريمة يجب ألا تسكت عليها النقابات الفنية، ولعل ما حدث هذا ذكرني بمشهد الأمير (أحمد مظهر) فى فيلم (الأيدى الناعمة) بعدما أفلس وأصبح محتاجا لأساسيات الحياة اليومية من مأكل فبدأ يخرج ما لديه من أوسمة متنوعة، حيث عقد اتفاقا مع بائع البسبوسة الذى يمر من أمام قصره أن يعطيه البائع قطعة من البسبوسة نظير وسام من الأوسمة.
ونعيد السؤال: هل الورثة في احتياج إلى قطعة بسبوسة، حتى يفرطوا في مثل هذا التاريخ السينمائي الثري؟!، كيف طاوعهم قلبهم على خروج هذه الشهادات بداية من شهادة تخرجه من المعهد العالي للسينما عام 1963 من أدراج مكتب والدهم وبيعها لتاجر الموبيليات؟، وكم تقاضوا في سبيلها؟!
ما ننشره اليوم ملفا غاية فى الخطورة لأنه لا يحدث إلا عندنا في مصر وربما في عالمنا العربي، حيث نهمل تراث من أمتعونا بفنهم ونتركه في يد ورثة أو جهلة لا يعرفون قدر من كانوا يسكنون معهم أوجشعين للمال لا يهمهم تاريخ ولا جغرافيا، المهم المال!، لابد من إدراك أن بيع أو تأجير أو تسويق تراثنا القومى الإبداعى هو أمر غير مقبول، لأنه يمثل ما يعرف فى الأدبيات (الذاكرة القومية للأوطان) وهى لا يمكن أن نبيعها تحت أى مسمى، لقد شعرت بالحسرة والألم وأنا اتصفح الجوائز والشهادات والأوسمة التى أخذها الراحل عن أفلام قام بتصويرها هى قطعة حميمة من ذاكراتنا.
من المعروف أن (رمسيس مرزوق) لم يكن مجرد مصور، لكنه كان مفكرا سينمائيا، ويستحضرني حاليا ما كتبه عنه كاتبنا المبدع (وحيد حامد) حيث قال: (رمسيس مرزوق شاعر بالكاميرا، متأمل وحالم، الصورة عنده مشبعة بالإحساس، والجمال عنصر أساسي في تكويناته، وهو عاشق لفنه، وهو فن لا يقدم عليه إلا العشاق، يتعامل مرزوق مع الصورة بالحس المرهف والحرفية العالية وهو صاحب أسلوب خاص لا يشاركه فيه أحد، مما يجعل له طابعا مميزا، ويستطيع المشاهد العاشق لعناصر الفن السينمائي أن يقرأ اسم رمسيس مرزوق على كل لقطة سينمائية دون أن يكون مكتوبا).
شارك الراحل (رمسيس مرزوق) عبر مشواره في عشرات من الأعمال السينمائية المهمة للغاية نذكر منها (زائر الفجر، بمبة كشر، يوم الأحد الدامي، آه يا ليل يا زمن، الطاووس، الصعود إلى الهاوية، عصر الحب، وصمة عار، سرقات صيفية، إسكندرية كمان وكمان، شحاذون ونبلاء، سمارة الأمير، ليه يا بنفسج، توت توت، مرسيدس، المهاجر، إضحك الصورة تطلع حلوة، القتل اللذيذ، سوق المتعة، إسكندرية نيويورك) وغيرها من علامات سينمائية.
وأخيرا هل من عقل واع ينقذ تراث المبدعين أمثال (رمسيس مرزوق) الذي ترك لنا روائع سينمائية ستظل خالدة في الوجدان المصري على مر السنين، ومن ثم نتساءل في النهاية: أين مسؤولية وزارة الثقافة.. وأيضا أين دور مؤسسات المجتمع المدني، وتعاون رجال الأعمال، فهل يمكن أن يكون عصيا على (نجيب ساويرس) مثلا فكرة إقامة متاحف أو متحف يضم أعمالا ومقتنيات (رمسيس مرزوق)، ويحفظ تراثه الثقافى وذاكرته الإبداعية؟ .. ظني أن الأمر يسير للغاية إذا أخلصت العقول والقلوب التواقة للفن الجيد في حياتنا، إن العرب اليوم في حاجة ماسة إلى مبدعيهم ومثقفيهم وكل ما يتعلق بهم، في زمن ينبئ بالمزيد من الانقسام والتدهور العام، وسببه في رأينا ثقافي قبل أن يكون اقتصاديا واجتماعيا، حيث ثقافة جلد الذات والدونية باتت بديلا عن ثقافة الأصالة والانفتاح والفعل، لذا فمن الضروري إعادة الاعتبار إلى المبدعين وكل ما يتعلق بهم لأنهم وحدهم الأقدر على تحقيق الإجماع حول روح الفن الجميلة من أجل خلق الجمال في الواقع الذي نعيشه.