بقلم : المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
شاهدت طوال مسيرتى كمخرج محترف – و التى تعدت 45 عاما – أنواعا و أشكالا متعددة من السرقات ، منها ما اكتشفتها فى حينها ، و منها ما لم اكتشفه إلا فيما بعد و بمحض الصدفة ، فالوسط الفنى و الأدبى سواء كان مسرحيا أو سينمائيا أو حتى فى مجال الفنون التشكيلية مليئ بتلك السرقات ، و لا أقصد هنا السرقات المادية أو المالية ، فتلك السرقات معروفة و يعاقب عليها القانون ، و إنما أقصد السرقات الفنية التى تتعلق بحقوق الملكية الفكرية ، و التى يصعب اكتشافها و من الممكن الهرب من العقاب فيها ، فالبعض يتعلل بتوارد الخواطر و الآخر يقول أن الأفكار على قارعة الطريق ، و لا تستطيع أن تدين كل من سرق عملا فنيا أو أدبيا .
فعلى سبيل المثال : عندما كنت رئيسا للجنة تحكيم إحدى مسابقات النصوص المسرحية اكتشفت أن مجموعة من النصوص المقدمة الى المسابقة مسروقة من نصوص أجنبية ، و لكن السرقة الأغرب لم نكتشفها إلا لغباء السارق ، فالنص الذى قدمه كان محكما و جيدا و من الممكن أن يفوز بأحدى الجوائز ، و لكنه أخطأ فى كتابة اسم الأكلة الأيطالية الأشهر المكرونة ، فكتب ( المعكرونة ) كما ينطقها إخواننا الشوام ، و انتبه أحد المحكمين لهذا اللفظ ، و لما كان النص المقدم يدور فى أمريكا و بالتحديد فى ولاية كاليفورنيا و به وصف دقيق للطقس هناك ، طالبت إدارة المسابقة باستمارة التقديم الخاصة بكاتب النص ، و اكتشفنا أنه صغير السن و يسكن فى منطقة شعبية مما جعلنا نشك فى إمكانية سفره إلى كاليفورنيا ليصفها بكل هذه الدقة و كأنه عاش فيها الفصول الأربعة . و بدأنا البحث وراء النص ، إلى أن سألت ولدى أحمد المخرج السينمائى و الموسوعى المشاهدة للأفلام ، فكشف لى أن هناك فيلما أجنبيا غير مشهور يتشابه مع ما رويته له ، و ساعدنى على مشاهدته ، لتصدمنى حقيقة أن النص ليس مسروقا من الفيلم فقط ، بل إن السارق نقل حوار الفيلم حرفيا عن الترجمة اللبنانية المكتوبة أسفل الصورة بما فيها ( المعكرونة ) .
و لم تتوقف صدمتى عند هذا الحد ، فبعد إلقائى خطاب لجنة التحكيم فى نهاية المسابقة الذى أشرت فيه إلى وجود نصوص مسروقة تصل نسبتها إلى 5 % من عدد النصوص المقدمة ، و طالبت أن يُمنع من التقدم للمسابقة مرة أخرى كل من تثبت عليه السرقة ، فوجئت ببعض تليفونات من كتاب يسألوننى هل كنت تقصدنا ؟ ويبررون سرقاتهم التى لم اكتشف بعضها ، و هكذا فضحوا أنفسهم ، و حمدت الله أننى لم أعلن اسماء السارقين ، فذلك ما أوقع آخرين!!
و الحقيقة أن سرقة النصوص المسرحية قديمة و متجذرة منذ بدايات المسرح المصرى، و لا أقصد هنا ( الاقتباس ) ففى هذه التسمية أعتراف بأن النص مأخوذ عن نص أجنبى . و لكن اختفت الآن كلمة ( اقتباس ) و صارت كلمة (تأليف) تكتب على نصوص ذات أصول أجنبية أو عربية و بكل بجاحة ، برغم أن المستنسخ لا يختلف عن الأصل ، و لم يقدم بوجهة نظر مصرية مثلا كما كان يفعل ( بديع خيرى و نجيب الريحانى ) ، بل هناك موجة منتشرة الآن لسرقة أفلام الكارتون الشهيرة و تقديمها للاطفال بنفس الأحداث و نفس الشخصيات و حتى بنفس الملابس و يكتبون عليها اسم ( مؤلف ) غير صاحب القصة الأصلية ، و الرقابة على المصنفات تمنحهم تصريحا بالعرض فى حين أن من مهامها الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية .
و لم يتوقف الأمر عند التأليف بل وصل ايضا الى الإخراج ، فلقد اكتشف صديقى المخرج الكبير ناصر عبد المنعم أن عرضه الشهير ( ليل الجنوب ) قد تم تقديم نسخة مطابقة له فى مسابقة للهواة تحت اسم مخرج آخر ، بل هناك من الهواة من يسرق العرض بإخراجه من على النت ، أو يقتبس الديكور أو ربما أسلوب الإخراج و لكن الغريب أن يلجأ فنان شهير – فى واقعة معروفة – إلى سرقة فيلم عالمى (بديكوره وحواره و أسلوب إخراجه و سلطاته و بابا غنوجه) و يضعه على المسرح على أنه من إخراجه دون خجل ، اعتمادا على أن لا أحد سيلاحظ ، أو ربما تخيلا منه انه الوحيد الذى يشاهد السينما العالمية .
و لعل أغرب السرقات و أكثرها غباء ما تم مع صديقى الفنان و المصور ( السيد عبد القادر ) مؤخرا ، فلقد نشر السيد صورة من صوره الرائعة عن واحة سيوة ، و الحقيقة أن ( السيد ) ليس مصورا فوتوغرافيا عاديا ، بل صوره تعتبر درسا بليغا فى اختيار زاوية التصوير و خلق تكوينات جمالية و استخدام رائع للضوء و الظل . و إذا بالصورة يتم استنساخها بتغييرات طفيفة لتصبح لوحة ضخمة ، تحتل جدارا كاملا فى معرض يحمل اسم فنان آخر و تحمل توقيعه على أنها من رسمه ، ثم يفضح نفسه بأن يضع لوحة ( السيد ) على الدعاية الخاصة بالمعرض !!
و كانت تلك الواقعة – التى شغلت الوسط التشكيلى – مدخلا لى لاكتشاف عالم متكامل من السرقات ، معظمها يدور حول استخدام الصور الفوتوغرافية و الإيهام بأنها مرسومة . فهناك مجموعة من التشكيليين يطلقون عليهم اسم (الكارتجية) يقومون بسرقة أعمال فنية عالمية عن طريق الحصول على صورة فوتوغرافية لها ، ومعالجتها تقنيا ، ثم طباعتها بالوسائل الحديثة على أقمشة خاصة ( كنفاس أو توال ) و بيعها للذين يهوون التقليد . و لعل تلك السرقة هى الأقل إجراما فى مستوى السرقات ، فهناك اتفاق بين البائع و المشترى على أنها نسخة مقلدة ، و تنتشر معظم تلك الأعمال فى الفنادق الكبرى ، و خاصة فى صور المستشرقين و الرحالة ، سواء كانت الصورة كاملة أو أجزاء منها ، فقد رأيت فى أحد الفنادق لوحات كاملة من كتاب (وصف مصر) تملأ الغرف . و لكن الأكثر إجراما هو تزوير لوحات الفن التشكيلى التى تتم من خلال تصوير أشخاص أو مناظر فوتوغرافياً ، ثم طباعتها على نفس الأقمشة مع إضافة لمسات بالفرشاة مع بعض الألوان لإضفاء ملمس و تأثير و بيعها على أنها لوحة مرسومة ، و هناك واقعة معروفة لثرى مصرى اشترى لوحة من أحد الجاليرهات بمبلغ نصف مليون جنيه و عندما عرضها على متخصص اكتشف أنها لوحة ( هجين ) لا تساوى أكثر من ثمن طباعتها ، فاسترد ما دفعه بعد تهديد صاحب الجاليرى .
و لقد ساعدت التكنولوجيا الحديثة على التزوير و السرقة ففى برامج الكومبيوتر الحديثة الآن ما يمكنّك من تحويل أى صورة فوتوغرافية إلى صورة مرسومة ، مع أى تغييرات فى الملامح أو التكوين أو الخلفيات أو إضافة أو حذف ما تشاء ، بل وصل الأمر ببعض البرامج بأن تسمح ل بانتاج نسخة من الصورة الفوتوغرافية بأسلوب أيا من الفنانين العالميين ، فتصبح عندك لوحة لبائع عرقسوس مثلا بأسلوب ( فان جوخ أو رينوار أو ربما دافنشى ) ، و ما عليك سوى طباعتها و إضفاء ( كام تتش ) بالفرشاة و التوقيع عليها لتصبح فنانا مشهورا يتحدثون عن اهتمامك بدقة التفاصيل و تصويرك للواقع و كأنه ينطق .
فهل أصبحنا نحتاج الى شرطة فنية ؟