بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
أصبحت الكتابة ثقيلة على قلبي، الكتابة في أي مجال، فعندما أمسك القلم أجده يحاورني قائلا: لا فائدة، فكل شيء أصبح بلا معنى، ومع ذلك فإن ضريبة البقاء على قيد الحياة تقتضي أن تقول شيئا، فقل شيئا.
وبما أنني أكتب هنا عن الفن فلنتحدث إذن عن شباك التذاكر، ذلك الشباك الذي أصبح عنوانا لحياتنا، تتذكرون معي أن شباك التذاكر السياسي في مارس 2011 حاز على أغلبية لتعديل الدستور، وترتب على هذا التعديل فيما بعد نجاح الإخوان في البرلمان، ولكنه لم يكن برلمانا ناجحا، فيكفي أنه برلمان الإخوان لكي يكون عنوانا للفشل، وتتذكرون أن شباك التذاكر أتي بمحمد مرسي رئيسا للبلاد ولكنه لم يكن حكما ناجحا، فيكفي أنه كان تابعا لجماعة إرهابية فاشية لكي يقع من طوله بعد عام نَكِد ومريع، وتتذكرون أن شباك التذاكر في فترة الثمانينات حقق أعلى إيرادات في تاريح شركات توظيف الأموال، ولكنه كان نجاحا كارثيا على المودعين وعلى الاقتصاد المصري، وتعرفون أن شباك التذاكر كان سيصب حتما في مصلحة حازم أبو اسماعيل ومجاذيبه (حازمون) لولا أن رحمة الله تداركتنا وتم استبعاده من الانتخابات الرئاسية، وهو الإنسان الذي فشل في حياته المهنية والأسرية والسياسية، بل إن النجاح الوحيد الذي حققه هو أنه نجح في تحقيق الفشل لنفسه، وأنتم على معرفة تامة بأن شباك التذاكر صب في مصلحة وخزينة مستريح أسوان الذي خدع عموم الناس بالاستثمار في البهائم، وعشرات المستريحين الآخرين نجح شباك تذاكرهم، وأخيرا تعرفون أن شباك التذاكر حقق إيرادات عالية لبكابورت الصرف الصحي لمسجد في مدينة إدكو، إذ اعتقد الناس أن مياه ومخلفات البكابورت تشفى المرضى فأخذوا يستحمون ويتبركون بها.
هذه هى قصة نجاح شباك التذاكر أكتبها لكم بعيدا عن الفن، ولكي أؤكد على ما سلف، أروي لكم نكتة كنا نتداولها حينما كنا في الصف السادس الابتدائي: قال محصل التذاكر في الأتوبيس للتلميذ طالبا منه التذكرة: تذاكر .. تذاكر ، فيرد عليه التلميذ : تنجح، كان السؤال في النكتة يسير في اتجاه ولكن الإجابة تأتي في اتجاه آخر، وكان هذا التلاعب في الألفاظ يثير الابتسام في المرة الأولى، ثم مع تكرار إلقاء النكتة أصبح يثير الملل، ولكن الملل لا يزال يعيش معنا لا يرغب في مغادرتنا أبدا، وشباك التذاكر يحاصرنا ، فمنذ أسبوعين تقريبا صرَّح الفنان القدير أحمد حلمي الذي أحبه كثيرا بأن شباك التذاكر لفيلمه الأخير حقق أعلى إيرادات الأمر الذي يعني أن فيلمه نجح!! تذاكر تنجح يا أستاذ أحمد حلمي، نعم نجح فيلمك الأخير في زيادة رصيدك في البنك، نجح في تحقيق إيرادات، لكنه هل نجح حقيقة؟ أم أنك للأسف أصبحت مستريحا جديدا من مستريحيين الفنون بعد أن كنت علامة جودة فنية لها تميزها وشخصيتها؟ ودعني أسألك: ما هو معيار النجاح عندك؟ أظنك ستقول إن إقبال الجمهور على مشاهدة الفيلم يعني أنه نجح، يا عزيزي أنت تعلم قبل غيرك أن هناك أفلاما حققت أعلى من إيرادات فيلمك عشرات المرات ولكنها لم تكن ناجحة أبدا، بل كانت في قمة الفشل.
شباك التذاكر لم يكن أبدا معيارا للنجاح، أنا عن نفسي يا أستاذ أحمد كنت حريصا على أن أشاهد كل أفلامك في السينما، وقد أسعدني بعضها جدا، وخرجت من بعضها وقد ارتقت مشاعري، أعجبت بفيلمك (عسل أسود)، وفيلمك اللطيف (كده رضا)، وفيلمك الألطف (زكي شان)، وفيلمك (إكس لارج)، وفيلمك خفيف الظل (جعلتني مجرما)، وفيلمك المريح الجميل (مطب صناعي)، وكنت أذهب لأفلامك مع أسرتي آمنا مطمئنا أننا لن نشاهد شيئا مخزيا خارجا عن الأدب، إلى أن تسللت وحدي في جنح الظلام إلى قاعة السينما لأشاهد فيلمك الأخير، كنت حريصا على ألا يراني أحد، وقد نجحت في ذلك والحمد لله، والحق أقول إنني الآن وأنا جالس في غرفة مكتبي أكتب هذا المقال سقط من ذاكرتي إسم الفيلم، أقسم بالله وأنا غير حانث في قسمي إنه رغم أن الله حباني بذاكرة قوية إلا أنني نسيت اسم فيلم شاهدته منذ فترة قصيرة، المهم سأستعين الآن بجوجل كي أتذكر الإسم: ممممم هل هو فيلم (على جثتي)؟، لا ليس هو وإن كان (على جثتي) مسروق من فيلم أمريكي.
إذن هو فيلم (خيال مآتة) لا ليس هو ورغم أن فيلم (خيال مآتة) كان ضعيفا لدرجة مذهلة وسخيفا في بعض مواقفه، وفقيرا في حبكته وفاشلا إلا أنه كان أخف وطأة من فيلمك الأخير، الذي إذا تحليتم بالصبر معي سنعرف اسمه، آه ، نعم نعم ، إنه فيلم (واحد تاني) وتصريح أحمد حلمي الذي يبشر بنجاح (واحد تاني) اعتمد على شباك التذاكر، وأنا أظن أن الذي قال هذا التصريح ليس هو أحمد حلمي ولكنه (واحد تاني)، والذي قام ببطولة هذا الفيلم ليس هو الفنان القدير أحمد حلمي ولكنه (واحد تاني).
يا سيد أحمد حلمي، يا أيها الفنان الحبيب إلى قلبي، هل تعلم؟، وبالتأكيد تعلم، أن الفيلم الرائع العظيم (باب الحديد) الذي أخرجه يوسف شاهين وقام ببطولته فريد شوقي وهند رستم، وهو من أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية لم يحقق نجاحا على مستوى شباك التذاكر، ولكن فشل شباك التذاكر لم يكتبه في خانة الأفلام الفاشلة، وهل تعلم وبالتأكيد تعلم أن فيلم (أبي فوق الشجرة) لعبد الحليم حافظ ونادية لطفي ظل معروضا في دور العرض السينمائي لمدة عام كامل وحقق نجاحا أسطوريا لا بسبب نجاحه فنيا ولكن بسبب عدد القبلات بين عبد الحليم ونادية لطفي لدرجة أن النقاد وقتها أطلقوا عليه فيلم (مائة قبلة وقبلة) في الوقت الذي لم يحقق فيلم (معبودة الجماهير) لعبد الحليم وشادية النجاح المتوقع من شباك التذاكر، ولعلنا نتذكر إيرادات فيلم (حمام الملاطيلي) للمخرج صلاح أبو سيف وبطولة شمس البارودي ومحمد العربي وكيف حقق هذا الفيلم نجاحا على مستوى شباك التذاكر بسبب مشاهد العري والجنس فيه، ناهيك عن فيلم (الكرنك) لسعاد حسني الذي لولا مشهد اغتصاب سعاد حسني لحقق فشلا كبيرا، أو على أقل تقدير لكان قد نال مكانة جماهيرية متوسطة مثل فيلم (احنا بتوع الأتوبيس).
لن أتحدث معك عن عشرات الأفلام التافهة التي ساهمت في تغييب وعي المواطن، والتي اتسمت بالسطحية والتفاهة مثل فيلم (اللمبي) لمحمد سعد الذي حقق نجاحا مذهلا على مستوى شباك التذاكر وسقط فنيا بجدارة هو وباقي أفلامه، وهى أفلام فاشلة فنيا بامتياز، إذ كانت تعتمد على ممثل يقوم بالتمثيل بشكل فيه بلاهة وغباء، ويحرك فمه يمينا ويسارا ويجعله شكله مسخا ليثير الضحك، نسخة واحدة تتكرر فأضاع الممثل موهبته وما ذلك إلا لفقره الثقافي والمعرفي وسطحية مستواه التعليمي، وخذ عندك أفلام (محمد رمضان) التي تنشر العنف والدموية والتي نالت رواجا جماهيريا كبيرا ولكنه نجاح لدى فئة ضائعة من الشباب المراهق.
أنت يا أستاذ أحمد غير هؤلاء، ولم نكن نتمنى أن تخرج من ثيابك لتصبح (واحد تاني) يحقق نجاحه من خلال الإفيهات الجنسية والتلميحات التي تداعب الغرائز، لقد وضعناك في مكانة كبيرة فلا تغادر تلك المكانة، يا أستاذ أحمد لا نريد أن نقرأ إعلانا في الصحف يقول: (إبني العزيز أحمد حلمي، عد إلى بيتك، أسرتك تناشدك بالعودة إلى البيت وسوف نحقق لك كل طلباتك، وسنوافق على دخولك كلية الفنون السينمائية للناس المحترمة: الإمضاء جمهورك الحبيب).
عزيزي القارىء هذه هي نهاية المقالة، وإذا كنت تظن أن الذي كتب هذه المقالة هو ثروت الخرباوي فإن ظنك ليس في محله، إذ أن الذي كتبها (واحد تاني).