بقلم الدكتور : طارق عرابي
مازلت أعيش بما اكتسبته من خبرةِ وحكمةِ أبي (رحمه الله) قولاً وفعلاً وسلوكاً مع الناس ، فهو أستاذي الأول الذي علمني بقليلٍ من الكلام وكثيرٍ من المواقف احترام الذات واحترام الآخرين ، وهو من دفعني دفعاً للبحث عن القيمة في كل شيءٍ أود القيام به.
إن أعظم الأرصدة التي يمكن للأيام والسنوات أن تودعها في خزائن ذاكرتك هى تلك اللحظات التي تقوم فيها بعمل ما في حياتك لأنك فقط تحب أن تقوم به ولا تبحث عن غرض آخر ، ولقد كانت تجربة التمثيل في الجامعة والمسرح والسينما والتلفزيون ومازالت تتصدر عندي قائمة أحلى الذكريات ، ورغم ذلك لم تأتني لحظة واحدة لأندم فيها على ابتعادي عن فنٍ أحبه وأعشقه منذ طفولتي وإلى الآن ، فقد هجرت فن التمثيل مع بزوغ بعض ملامح الفتنة عندما بدأت الصفحات الفنية بكبرى الصحف المصرية تعلن (في مانشيتات رئيسية) عن ولادة نجم جديد في عالم التمثيل وبعدما بدأت قنوات التلفزيون المصري المحلية والفضائية تخصص مقابلات للوجه الجديد (طارق عرابي) بعد مسلسلَّيْ (الصبر في الملاحات – في شخصية – علي) و (ألف ليلة وليلة – في شخصية – أبو مار – الذي كان رمزاً للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في شبابه) وذلك في عام 1996 ، وبعدما بدأت شهرتي بين الناس في الشارع المصري آنذاك (والتي لم تمنحني أي شعورٍ بالفخر أو الراحة).
وبعد مواقفٍ (محددة) عايشتها في الأوساط الفنية المصرية وبعد ترشيحي من قبل (مسئولة كبيرة في قطاع الإنتاج آنذاك!) لأداء أحد الشخصيات الرئيسية في مسلسل بعنوان (والسلام ختام) مع المخرج وفيق وجدي، اعتذرت وقررت الرحيل لأنني أيقنت أن متعتي بممارسة فن الأداء التمثيلي الذي أريده لن تتحقق ، وتأكدت أنها وإن تحققت في عمل أو أكثر فإنها لن تدوم في منظومة فن التنازلات واللا قيمة ، حتى وإن أصبحت النجم الأول في مصر فما جدوى ذلك عندما تخلو بنفسك وتجد أن موهبتك الحقيقية تتوارى حتى تصبح سلعة رخيصة أمام بدائلها من (المؤهلات الأخرى – اللا فنية!) ، والتي إن قبلتها واستسغتها ومارستها حتى تمكنت منك فإنك ستتحول دونما إدراكٍ منك إلى (أراجوز) حسب الطلب!.
ورحم الله من عرف قدر نفسه ، فبالتأكيد هناك بين الفنانين أشخاص قليلون (ليسوا بكثيرين على الإطلاق) هم أقوى مني بكثير ، استطاعوا الاستمرار والحفاظ على موهبتهم دونما أن تنال منها بعض شخصيات وأجواء هذا الوسط التي لا تخفى على أحد من العاملين به ، وهناك أيضاً فنانون حقيقيون (ليسوا بقليلين على الإطلاق) جلسوا في بيوتهم مبكراً (طوعاً أو كرهاً) ، ذلك لأنهم لم يرغبوا إلا في كل ذي قيمة ولم يلهثوا لنيل رضاء سفهاء هذه الصناعة الراقية الذين هبطوا ومازالوا يهبطون علينا من داخل ومن خارج مصر! لذا ساظل أفخر بدور أبي وأمي (رحمهما الله) في تأثيرهما غير المباشر على فلسفة اختياراتي في الحياة.
كانت أمنيات وأدعية أمي لي كثيرة ومتنوعة في محتواها ، ولكن كان لها دعاءٌ ثابت ومستمر تقول فيه: (ربنا يرضيك يا ابني ويرزقك رزق حلال وينعم عليك بالصحة والرضا) ، وفي إحدى مرات الضيق (في الرزق) والتي لم أكن أظهرها حتى لأبي وأمي ، وكان ذلك في حضور أبي ، أردت أن أمازح أمي على دعائها الثابت الذي لا يتغير ، وكنت قد أحضرت لها في هذه المرة شيئاً تحبه ، فقلت لها بعد دعائها: (يا حبيبة – إسم أمي – ما بلاش تشترطي على ربنا وانتي بتدعيلي) فضحك أبي ضحكة ممزوجة بمعنى الاعتراض ، بينما ردت أمي ببساطتها وابتسامتها الساحرتين وقالت لي: (لا يا واد يا طارق إوعى تقول كده تاني .. الرزق لازم يبقى حلال .. والمؤمن ، حتى لو جاع ، عمره ما يتمنى الشبع بالحرام) .
وكان من بين تحذيرات أبي المتكررة لي (إوعى يا ابني ربنا يسلطك على نفسك) ، ثم فهمت بمتابعتي الجيدة لكل ما يصدر عنه معنى أن يسلط الله إنساناً على نفسه ، فاستنتجت خطورة الغرور من خلال تواضعه الذي جلب له الحب والاحترام من كل من يعيشون أو يتعاملون معه ، وأدركت معنى خوف الأب الشديد على أبنائه من المخدرات والإدمان عندما ابتعدت عنه لأول مرة في حياتي وانتقلت للقاهرة لدراستي الجامعية بكلية طب قصر العيني – جامعة القاهرة ، حيث وجدت هذا الأب البسيط المكافح يزيد من مصروفي على حساب نفسه لغرضٍ أفصح لي عنه عندما نصحني بألا أندمج مع مرتادي المقاهي سيئة السمعة بالقاهرة وقال لي: (الشاي على القهوة بنص جنيه ، وأنا عايزك تشرب الشاي أو القهوة في فندق 5 نجوم) ، وقد استثمرت هذا الكرم من أبي لأصبح مشهوراً مع مجموعة من أصدقائي وزملائي بالكلية لدى العاملين في فندق الميريديان (سابقاً) المجاور لطب قصر العيني على كورنيش جاردن سيتي.
إن إرث أبي الإنساني جعلني ألخص قَدْري عند الناس وقَدْر الناس عندي في جملةٍ واحدة تحوي فلسفة عادلة في علاقة الإنسان بأي فئةٍ من فئات المجتمع: (ما تستكترش نفسك على حد ، وما تستكترش على نفسك حد!).
كانت جملة أبي (إوعى ربنا يسلطك على نفسك) تحذيراً واضحاً لي من الغرور والظلم والافتراء على الضعفاء ، وأفهمتني أيضاً أن المخدرات نوعٌ من (أسلحة الدمار الشامل) للإنسان . أشكرك يا أبي وأدعو لك دوماً لأنك حصنتني بأعظم أمصال التأدب والاستقامة ضد الغرور والاستعلاء على الناس ، ولأنك جنبتني في حياتك ومماتك ، ودون أمرٍ مباشر ، أن أضيق بالعيش لضِيقه أو لِسِعَته فأتحول إلى فريسة سائغة بين أنياب الإدمان.
إن النجاح والثراء (والنجومية) قد يتحولون من نعمة إلى نقمة ، بل إلى ألد أعداء الإنسان ، ولولا أن هذا الأمر واقعاً حقيقياً في حياتنا لما حذرنا الله منه قائلاً (إنما أموالكم وأولادكم فتنة …) ، فثراءُك قد ينقلب إلى سلاحٍ ضدك إن استعملته فيما يضر بك أو بالآخرين ، وإن بخلت بالإنفاق منه على ما يرضي الله فقد يوصلك ذلك لأن تقول (ربي أهاننِ) ، وحينها يرد الله عليك (كلَّا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لما وتحبون المال حباً جما) ، فإياك أن تجعل سُلطة المال تأخذك إلى الاستقواء على المستضعفين والفقراء أو التفاخر والاستعلاء على الناس كمن قال (أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُ نفرا) فأفقره الله وأهلكه ، ويشمل إضرار ثرائك بك شراء وتناول مدمرات العقل والصحة العامة ، وبريق النجاح والشهرة يمكن أن ينقلب كذلك عدواً لدوداً لك إن أصابك بالغرور وجعلك تمشي بين الناس مختالاً فخورا ، فإن أصابتك الشهرة بداء الغرور تذكر قول الله: (ولا تمشِ في الأرضِ مَرَحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا).
الفنان الحقيقي ، ومن قبل أن يمتلك ثروته المالية ، هو بحد ذاته ثروة فنية كبيرة بالنسبة لوطنه وكذلك لجمهوره في أي مكان من العالم ، وكأبسط تقدير منه لمحبيه لا ينبغي أن يستخدم ثروته الخاصة في تبديد ثروة الناس فيه ، فإن كانت ثروته ملكاً له إلا أنه بآدائه المتميز وتأثيره في المجتمع ثروة مملوكة للناس ، فهى مصدرٌ ثري لإسعادهم والارتقاء بفكرهم ووجدانهم.
كم من فنانٍ أفل نجمه بالغرور؟! وكم من فنانٍ اعتاد أن يفرح ويفخر بنفسه بدلاً من فرحته وفخره بمستوى خلقه وفكره فيما يقدمه للناس ، فهوت نجوميته إلى غيابة الجب؟! أعتقد أنني لا أحتاج للإشارة إلى أحدٍ بعينه من بين نجوم الفن في مصر أو بأي مكانٍ في العالم .. فبرغم علامات الاختيال والغرور (الواضحة للعامة) على بعض النجوم الحاليين إلا أن التقييم العادل لا يحق إلا لكل من تعامل مع أحدهم أو عرفه عن كثب.
وكم من فنانٍ دمر نفسه وفنه أو انتحر أو فارق الحياة بسبب إدمانه للكحوليات أو المخدرات أو بسبب تناوله جرعة زائدة من تلك السموم؟! سنلقي الضوء فيما يلي على بعض النجوم العالميين الذين توقفت مسيرة عطائهم الفني المتميز وأنهوا حياتهم بسبب سموم العقل والبدن .
جيمي هندريكس Jimi Hendrix (نوفمبر 1942 – سبتمبر 1970)
يعتبر الموسيقي والمغني الأمريكي ذو الأصول الأفريقية (جيمي هندريكس) أقوى وأعظم عازف جيتار لموسيقى الروك في العالم ، وقد ذاعت شهرته العالمية من خلال حفلاته بالولايات المتحدة ودول أخرى حول العالم . قتلته جرعة زائدة من المخدرات وهو في لندن عام 1970 وكان عمره 27 عاماً.
جانيس جوبلن Janis Joplin (يناير 1942 – أكتوبر 1970)
كانت (جانيس جوبلن) تملك صوتاً مميزاً وحساً عالياً في آدائها الغنائي ، وتعتبر إحدى أنجح وأشهر نجمات موسيقى الروك في عصرها ، وُجدت ميتة بغرفتها بأحد الفنادق بمنطقة هوليوود في الرابع من أكتوبر عام 1970 وعمرها 27 عاماً إثر تناولها كميات كبيرة من الهيروين والكحول.
إلفيس بريسلي Elvis Presley (1935 – 1977)
النجم الأسطوري في عالم التمثيل والموسيقى والغناء (إلفيس بريسلي) الذي وصلت شهرته إلى كل شعوب العالم ، وُجد ميتاً يوم 16 أغسطس من عام 1977 وعمره 42 عاماً ، وكان التقرير الأولي لسبب الوفاة هو اضطراب وعدم انتظام في ضربات القلب ، ثم جاءت نتائج مركز السموم لتؤكد أن توقف عضلة القلب قد حدث بسبب وجود 14 مادة مخدرة في دمه .
ريفر فينيكس River Phoenix (أغسطس 1970 – أكتوبر 1993)
النجم الشاب الواعد (ريفر فينيكس) الذي ترشح عام 1989 لجائزتي الأوسكار وجولدن جلوب كأفضل ممثل في دور مساعد عن فيلم Running on Empty (إنتاج 1988) هو شقيق النجم الشهير (خواكين فينيكس) الحائز على جوائز الأوسكار وجولدن جلوب و BAFTA في عامٍ واحد كأفضل ممثل في دور رئيسي عن فيلم (الجوكر Joker – إنتاج 2019) والحائز على جائزة جولدن جلوب عن فيلم Walk The Line (إنتاج 2005) والمرشح ثلاث مرات أخرى لجائزتي الأوسكار و BAFTA وأربع مرات أخرى لجائزة جولدن جلوب . كانت توقعات هذا النجم الكبير (خوان فينيكس) لأخيه الأكبر(ريفر) تفوق ما توقعه لنفسه من نجاح في عالم السينما ، ولكن جرعة زائدة من الهيروين والكوكايين قضت على كل هذه التوقعات العظيمة وقتلت (ريفر) في 31 أكتوبر من عام 1993 وعمره 23 عاماً فقط .
كريس فارلي Chris Farley (فبراير 1964 – ديسمبر 1997)
النجم الأمريكي الكوميدي (كريس فارلي) الذي بدأ مسيرته الفنية عام 1982 ، ومن بين أشهر أعماله الكوميدية التي قام ببطولتها فيلم Tommy Boy عام 1995 وفيلم Beverly Hills Ninja عام 1997 ، وكان آخر أعماله فيلم Almost Heroes الذي تم عرضه بدور السينما عام 1998 (بعد رحيله). تفاجأ شقيق (كريس فارلي) بجثة أخيه في صباح يوم 18 ديسمبر من عام 1997 بعد وفاته إثر تناول جرعات كبيرة من الهيروين والكوكايين معاً .
هيث ليدجر Heath Ledger (أبريل 1979 – يناير 2008)
النجم الشاب (هيث ليدجر) الذي ترشح لجوائز الأوسكار وجولدن جلوب و BAFTA كأفضل ممثل في دور رئيسي عن فيلم Brokeback Mountain (إنتاج عام 2005) وفاز بثلاث جوائز من نفس الجهات الثلاث كأفضل ممثل في دور مساعد عن فيلم The Dark Knight الذي عرض بوقتٍ لاحقٍ من نفس عام وفاته . وُجد (هيث ليدجر) جثة هامدة في سريره بشقته في مدينة نيويورك في 22 يناير من عام 2008 وعمره 28 عاماً بسبب تعرضه لحالة تسمم حاد بالدم نتيجة تداخل تفاعلات كيميائية بين جرعات كبيرة من 6 أنواع من المخدرات تناولها في آنٍ واحد .
مايكل جاكسون Michael Jackson (أغسطس 1958 – يونيه 2009)
أسطورة الموسيقى والغناء والرقص والنجم الأشهر بكل أرجاء العالم (مايكل جاكسون) الذي لا يحتاج إلى التعريف به وبنجوميته الساحقة ، سحقته جرعات زائدة من مادتي البروبوفول والبنزوديازيبين اللتين سببتا له تسمماً حاداً بدمه مما أدى إلى وفاته في 25 يونيه من عام 2009 وعمره 50 عاماً .
إيمي واينهاوس Amy Winehouse (سبتمبر 1983 – يوليو 2011)
المطربة وكاتبة الأغاني البريطانية العالمية (إيمي واينهاوس) التي أصدرت 150 عملاً غنائياً خلال مشوارها الفني القصير ، ومن بينها أغنيتها الأكثر شهرة Back To Black ، وجدها حارسها الخاص جثة هامدة بمنزلها بمنطقة (كامدن تاون) في لندن في العاشرة صباحاً من يوم 23 يوليو 2011 ، وأفاد تقرير فحص الطب الشرعي بأن سبب الوفاة هو تسمم كحولي وصلت حدته إلى احتواء كل 100 ميلليلتر من الدم على 416 ميلليجرام من الكحول ، وهكذا فارقت هذه النجمة اللامعة الحياة وعمرها 27 عاماً .
ويتني هيوستن Whitney Houston (أغسطس 1963 – فبراير 2012)
عملاقة الطرب العالمية (ويتني هيوستن) صاحبة الصوت الرومانسي المخترق لكل القلوب ونجمة الفيلم الشهير The Bodyguard مع النجم (كيفن كوستنر) والذي قدمت فيه بالإضافة إلى آدائها الرومانسي الرائع واحدة من أفضل أغانيها بعنوان I have Nothing if I don’t have you ، كانت تعاني في أيامها الأخيرة من مرض في الشريان التاجي ، وفي يوم 11 فبراير من عام 2012 وأثناء تواجدها مسترخية في حوض الاستحمام بجناحها في فندق (بيفرلي هيلتون) بمنطقة بيفرلي هيلز بهوليوود ، تناولت جرعة من الكوكايين وغابت عن الوعي فغرقت في حوض الاستحمام وفارقت الحياة خلال وقتٍ قصير وعمرها 48 عاماً.
فيليب سيمور هوفمان Philip Seymour Hoffman (يوليو 1967 – فبراير 2014)
الممثل صاحب الآداء الفريد الساحر (فيليب سيمور هوفمان) الحائز على جوائز الأوسكار وجولدن جلوب و BAFTA في عامٍ واحد كأفضل ممثل في دور رئيسي عن فيلم Capote (إنتاج 2005) والمرشح لثلاث جوائز أخرى من الأوسكار وجولدن جلوب وأربع جوائز أخرى من BAFTA ، وُجد ميتاً يوم 2 فبراير من عام 2014 وعمره 46 عاماً إثر حالة تسمم حاد بالدم نتيجة تناوله جرعات متوالية من الهيروين والكوكايين والأمفيتامين والبنزوديازيبين .
هناك أمثلة أخرى كثيرة حول العالم تبرهن على ضعف نفوس بعض نجوم وصفوة المجتمع أمام الشهرة والنجومية والمال والسُلطة، ومن بينهم مشاهير في عوالم السياسة والفن والإعلام وحتى الرياضة.
وبينما أدعو الله لي ولكم أن يحفظنا ويحفظ أبناءنا جميعاً من كل مكروه ، مازلت أسمع صوت أبي يدوي في رأسي وكأنه يريد أن يحذرني وإياكم للمرة الأخيرة: (إوعى ربنا يسلطك على نفسك) .