في ذكرى رحيل المليجي : سخر منه الأجانب ولم يرحبوا به في الاستديو فعلمهم التمثيل !
كتب : أحمد السماحي
نحيي غدا الاثنين 6 يونيو الذكرى الـ 39 لرحيل عملاق التمثيل محمود المليجي، أحد أسطوات التمثيل الكبار في مصر المحروسة، الذي يطول ويطول الحديث عنه، وعن أفلامه، ومسرحياته وأعماله التليفزيونية والإذاعية، والذي وقف المخرج الأمريكي (أندرو مارتن) مشدودوا وهو يراه يؤدي دوره في فيلم (وإسلاماه) وقال له: (إنني لم أفهم كلمة مما قلت!، ولكن وجهك وعينيك قالا كل شىء!).
هذا الموقف لم يكن جديدا على صاحب أقوي العيون المعبرة التى مرت على شاشة السينما، فقد حدث له أيضا موقف مشابه في نهاية الأربعينات، أثناء مشاركته في أحد الأفلام المصرية العالمية المشتركة، وحكى عنه (محمود المليجي) بنفسه في مجلة (الكواكب) عام 1956، حيث قال : كانت رحلتي إلى أسبانيا رحلة موفقة أديت فيها دورا في فيلم عالمي ساهمت السيدة (ماري كويني) فى إنتاجه، وتعلمت في هذه الرحلة الكثير مما يجب أن أقوله لمواطني بصراحة.
ذهبت أول الأمر إلى إيطاليا وما كدت أحتل غرفتي في أحد فنادق روما حتى فكرت في أن أتصل بشركة (روما فيلم) المنتجة حتى لا أضيع وقتا أنا في أشد الحاجة إليه، ورد على أحد المسئولين في الشركة قائلا من أنت؟! فقلت له : أنا محمود المليجي جئت من مصر لأقوم بدوري في فيلم (غرام بنت الشيخ) المشترك، فقال لي : نحن لا نعرف هذا الاسم!، فاندهشت وصمت!.
وفي اليوم التالي مباشرة حملت حقيبتي إلى أسبانيا حسب الاتفاق وتحدثت إلى المسئولين عن الإنتاج فقلت لهم : أنا محمود المليجي، فضحك واحد منهم في سخرية وقال : نحن لا نعرفك!
فقلت له : أن لي دورا في فيلم (غرام بنت الشيخ).
فقال لي : أي دور؟
قلت : دور إبراهيم
فقال : اه ولماذا لم تقل هذا من البداية؟!
قلت له : لأن أسمي الأصلي محمود المليجي وليس إبراهيم!
فقال : نحن لا نعرف غير إبراهيم!
وابتلعت الإهانة وسكت، والحقيقة أن أسماءنا مجهولة تماما في هذه البلاد، والسبب في ذلك أن أفلامنا لم تتجه وجهة عالمية، والدعاية حول أسمائنا تافهة.
وفي أسبانيا لم يعتني بي أحد، وكان معي عملة إيطالية ولم أجد مصرفا استبدل فيه العملة، وذهبت إلى الاستديو وشعرت إنني في حاجة إلى فنجان من القهوة، وانتظرت أن يؤدي لي الاستديو تحية الضيف ولكنهم لم يفعلوا.
وقررت أن أقاوم رغبتي في شرب القهوة، ولكن الإيحاء لي بأن رأسي يكاد ينفجر لأن كيف القهوة استولى على، فجلست مسندا رأسي بين يدي، وفجأة هز الجرسون ذراعي وقال لي عبارة أسبانية فهمت أن معناها اتفضل، لأنه أعطاني فنجان قهوة، ونظرت حولي لأكتشف الذي تكرم بهذه التحية فوجدت أحد عمال الكهرباء في الاستديو يهز لي رأسه ويبتسم، وعرفت أنه هو الكريم الذي فعل ما لم يفعله رجال الاستديو.
وفي البداية كنت أذهب إلى الاستديو يوميا دون أن يكون لي عملا لمعايشة أجواء التصوير، وكنا ننتهي من العمل في الليل فنخرج دفعة واحدة، وينصرف كل فنان إلى سيارته فيركبها، ويتركني تحت وابل من المطر، وشاهدني عامل الكهرباء انتظر في الصقيع فسحبني من يدي وعاد بي إلى داخل الاستديو، ووقف عند التليفون وأدار رقم 28 وأشار بيديه أن تاكسيا سيصل خلال دقائق.
ووقفت عند باب الاستديو فأقبل تاكسي وتوقف عنده، وأوصلني إلى الفندق بعد أن أضاف إلى الحساب ما يعادل خمسة قروش مقابل الاستدعاء.
وعندما ذهبت إلى الاستديو في اليوم التالي لم أمثل أيضا، ولكن تركوني اتفرج على ما يحدث أمامي، وفعلوا نفس الشيئ في اليوم التالي، وكنت في كل يوم أضع الماكياج كاملا وأقضي اثنتي عشرة ساعة تحت الأضواء التى تتولد عنها في البلاتوه حرارة شديدة، وكنت أظل واقفا لا أجد مقعدا أجلس عليه!
وحكاية المقعد هذه لها قصة فقدت وجدت في اليوم الأول لي في الاستديو عددا من المقاعد جلست على إحداها فأقبل على عامل من عمال الاستديو وأشار لي أن أقف، وجلست على مقعد آخر ففعل نفس الشيئ، وأفهمني بالإشارة أن كل المقاعد لها أصحاب.
وتلفت حولي لأبحث عن مكان أجلس عنده، وجدت درجا مصنوعا ليكون جزءا من ديكور الفيلم فجلست عليه، وأنا أنظر للعامل وأقول له بالعربية: السلم ده بتاع حد؟! أنا حاقعد عليه!، وهكذا صار من حقي أن أجلس على السلم، والسادة النجوم الكبار يجلسون على المقاعد.
وفي اليوم الثالث شاهدت (فرنتشو) المخرج الإيطالي الصديق الذي عمل في السينما المصرية، والذي يعرفني حق المعرفة، وشكوت له مما أنا فيه من ضيق فقدمني للمخرج الأسباني، وأفهمني عن طريق (فرنتشو) أن ممثلا أسبانيا سيؤدي دورا أمامي، وأن علي أن أنظر إلى ما يفعله لأنني سأقلده تماما، وأطعت رغم غيظي، وأدى الممثل الدور فقلت للمخرج الأسباني: أن هناك بعض الأخطاء!، فنظر لي في دهشة وقال فيما يشبه (التريقة): أننا لا نطلب منك غير تقليد ما رأيت فقط!.
فقلت له في ضيق وغضب: أنني سأمثل دوري بالطريقة التى أريدها! وهز الرجل رأسه وقال: دعنا نرى الطريقة التى تريدها؟!، وأديت بروفة أمامهم، ونظرت لوجه المخرج فقرأت فيه الإعجاب والذهول معا، ولم أستطع أن أحدثه على الفور إذ دخل في هذه اللحظة ممثل طويل القامة، صارم تقاطيع الوجه، حاد النظرات، وعرفت من (فرنتشو) أنه معبود الجماهير هناك لأنه يقوم بأدوار الشر ببراعة.
وأحسست رهبة الموقف عندما قال لي (فرنتشو): أنني سأودي دوري أمام هذا الرجل، وعندما بدأنا العمل، أديت دوري بطريقة رائعة وفقني الله فيها، وجعلت من البطل الأسباني تلميذا مبتدئا، لا أقول هذا من غرور ولا أقوله من مبالغة، فلم يكد دوري ينتهي حتى صفقوا لي كلهم، حتى بطلهم صفق لي وواحتضنني.
وتحولت نظرات التجاهل في أعينهم إلى إكبار وإعجاب ودهشة، وحدث إنقلاب كامل في المعاملة لأنني ما كدت أقف بعيدا عن البلاتوه حتى وجدت عامل الاستديو الذي منعني من الجلوس على المقعد يتقدم نحوي ومعه مقعد وعليه اسمي، وهكذا أصبحت من أصحاب المقاعد في ستديوهات أسبانيا.
شيئ أخر حدث عندما خرجت من الاستديو وجدت سيارة الاستديو، وسيارة خاصة في انتظاري لتذهب بي إلى الفندق، وتقدم مني سائقها ليشير إلي بالركوب وهو ينحني في أدب جم، ولكنني تجاهلته وأدرت الرقم 28 وأقبل تاكسي فاستقللته إلى الفندق، وفي الصباح اتصل بي المخرج في الفندق وقال لي: إنه وضع سيارة خاصة تحت تصرفي، وخرجت من الفندق لأذهب إلى الستديو واستقللت تاكسيا، وتركت سيارتهم واقفة عند الباب، حيث أردت أن أعطيهم درسا في كيفية معاملة الفنان خصوصا إذا كان ضيفا.
فإننا في مصر نضع الضيوف فوق رؤوسنا، وحاولوا استرضائي بكل الوسائل ولكنني أصررت على شيئيين أن أجلس على الدرج دون المقعد، وأن أتنقل بالتاكسيات دون سياراتهم، وظل الوضع على ما هو عليه حتى انتهى التصوير ورجعت إلى أم الدنيا مصر، بعد أن أعطيت أخواننا الأجانب درسا في التمثيل والأخلاق.