بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
معلومة بدهية نعرفها جميعا ومع ذلك أبدأ بها مقالي: (الشعوب هي التي تصنع تاريخها، وهي التي تصنع أبطالها أيضا)، أما عن التاريخ فهو يخضع أولا للتوثيق والتأريخ من جانب المتخصصين، ولكن الشعب له توثيق آخر قد يتفق مع ما أثبته المؤرخون وقد يختلف، وما توثقه الشعوب يخرج غالبا في صورة الأدب الشعبي وهو أدب شفهي يتم تناقله من جيل إلى جيل إلى أن يتم إخضاعه للكتابة والدراما، وهذا هو أصدق ما يستقر في ضمير الشعب، هو الذي يعبر عن مآثره وموضع فخره، هو الذي يوثق بطولاتت قادته ويأسى لما تعرضوا له، وقد رأينا الشعب المصري في نهاية القرن الثامن عشر وهو يقاوم الحملة الفرنسية، ثم رأيناه في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ثم إلى منتصف القرن العشرين وهو يجاهد ضد الاحتلال الإنجليزي، واستمر في جهاده إلى الآن يقاوم تحديات ويصنع معجزات، وكان من جهاده تلك الملحمة التي قام بها وهو يحفر قناة السويس، ثم وهو يقيم السد العالي ، ثم وهو ينتفض ثائرا ليصنع أعظم الثورات المصرية في يونيو 2013 ، ثم تناقل الأدب الشعبي تلك البطولات وصاغها في صورة ملاحم عظيمة.
وللتاريخ لم يكن الشعب المصري في كل جهاده عبر التاريخ بلا أبطال، بل إن أبطاله كانوا في المقدمة، يقودون ويلهبون حماس الجماهير، يضحون بحياتهم وأموالهم، وفي سبيل ذلك دخلوا السجون، وتم تعليقهم على أعواد المشانق، وبعضهم تم نفيه خارج البلاد كأقصى عقاب يمكن توقيعه على إنسان مصري يؤمن بوطنه كما يؤمن بدينه، فرفع المصري أبطاله فوق الهامات، ووضعهم فوق جبل المجد؟، ولكن في كل الأحوال كان المصري هو الذي يصنع من أبطاله أسطورة؟، ولكن التاريخ تذكر بعض أسماء هؤلاء الأبطال، ونسي البعض الآخر !! ثم قام (الدراميون) وصناع الفنون والأفلام والمسلسلات بتوثيق تلك البطولات والملاحم في أعمال فنية أخذت خاتم الخلود.
كانت الدراما ولا زالت توثق تاريخنا، ولكنها لم تصنعه، وإن كان البعض يقول إن من يوثق التاريخ هو في ذات الوقت صانع له، فبدون التوثيق سيظل التاريخ نائما في كهوف الزمن لا يراه أحد من الأجيال الجديدة، الدراما إذن هى النور الذي يضيء لنا الوقائع التي حدثت فنراها رأي العين، فكان أن رأينا من خلال الدراما ملحمة ومأساة حفر قناة السويس، كان التوثيق الشعبي سابقا للتوثيق الدرامي، فمن رحم مأساة حفر قناة السويس وما كابده الفلاحون البسطاء من السخرة والتنكيل وضع الضمير الشعبي قصة (شفيقة ومتولي)، متولي الشاب الذي يعيش في قريته آمنا مطمئنا ولكن الحكومة تقوده جبرا من ضمن آلاف الشباب لحفر قناة السويس، ثم تنشأ مأساة اخته شفيقة التي تخضع لجبروت الحاجة وطغيان السادة، وفي نهاية السبعينيات أخذت السينما تلك القصة لتسجل بها تاريخا دراميا، فكان فيلم (شفيقة ومتولي) الذي أخرجه علي بدرخان وكتب قصته المبدع صلاح جاهين، وقام بالبطولة أحمد زكي وسعاد حسني وجميل راتب وأحمد مظهر، وحقق الفيلم نجاحا كبيرا حيث أيقظ مشاعر الناس وصنع عقلا جمعيا يكره الظلم ويقاوم الظالم.
ورأينا من خلال الدراما التلفزيونية مسلسل (بوابة الحلواني) وهو من أهم المسلسلات التلفزيونية التي قصت علينا تاريخ قناة السويس وكيف عانى العمال المصريين شبابا وشيوخا أثناء حفر القناة وكيف مات منهم الكثير، وقد كان هذا المسلسل ترجمة لرواية حقيقية عاشت في ضمير الشعب ثم انتقى منها الكاتب والمؤرخ والقاص المبدع محفوظ عبد الرحمن، أقول انتقى منها قصة وضع لها سلسلة تاريخية عن فترة حكم الخديوي إسماعيل من خلال سيرة إحدى العائلات، وقد أجاد المخرج إبراهيم الصحن في ترجمة تلك القصة فنيا في هذا المسلسل، وكان فريق التمثيل يتقدمه الراحل المبدع محمد وفيق ومعه أحمد راتب وحسن كامي وعلي الحجار، ولم يكن غريبا على محفوظ عبد الرحمن أن يكتب تلك القصة، فقد كتب قصة فيلم ناصر 56 وعن مقاومة المصريين للحملة الفرنسية والشعور العربي الجارف وقتها الذي ملأ الأفئدة خلَّد التاريخ بطولة سليمان الحلبي الذي أصبح وهو الحلبي من أبطال عاشوا في ضمير الشعب باعتباره أحد الأبطال الذين قاوموا الحملة الفرنسية على مصر بقتله الجنرال كليبر، وقد حرك محفوظ عبد الرحمن مشاعرنا الوطنية عندما أخذ هذه القصة من الضمير الشعبي ووضعها في صورة مسلسل عام 1976 وشاء حظنا أن نستمتع في هذا المسلسل بممثلين عظماء يتقدمهم الراحل العظيم يوسف شعبان واحمد مرعي وعماد حمدي وكبير المقام رشوان توفيق .
وكان من إبداعات محفوظ عبد الرحمن أيضا مسلسله التاريخي (ليلة سقوط غرناطة) الذي خرج إلى النور في آواخر السبعينيات وقام ببطولته ثلة من الممثلين الذين لم يجد الزمان بمثلهم، وكان يتقدمهم (عبد الله غيث وأحمد مرعي ومحمد وفيق وأمينة رزق وتوفيق الدقن وعبد الرحمن أبو زهرة وعبد العظيم عبد الحق)، والحق أن محفوظ عبد الرحمن كان كاتبا موسوعيا متنوع المعرفة شغوفا بالتاريخ افتقدناه وعرفنا قيمته عندما رأينا أشباه المؤلفين وهم يكتبون مسلسلات توثق التاريخ فيرتكبون فيها التزييف والسطحية والتفاهة، ولأننا في عصر الأقزام رأيتنا ونحن نصفق لأشباه المؤلفين، فرحمة الله عليك يا سيدي وأستاذ الأجيال محفوظ عبد الرحمن.
ومع ما سبق رأينا كيف أن الدراما هى حاليا السجل الحي لذاكرة الشعوب، ومن خلالها رأينا أبطالا شعبيين، فعرفنا أدهم الشرقاوي، وعرفنا جوانب وطنيه في شخصية الموسيقار سيد درويش، وشيخ العرب همام، وعرف جيلنا من خلال الدراما البطل الشعبي (علي الزيبق)، ثم رأينا الدراما وهى تقدم لنا بطلا مجهولا لم يكن أحد يعرفه هو (رأفت الهجان) وكيف أبدع الراحل محمود عبد العزيز وهو يمثل تلك الشخصية، بحيث أنني أعتبر أن موهبة محمود عبد العزيز الشامخة ولدت في هذا المسلسل، وبه أصبح واحدا من العلامات المصرية المضيئة في فنون التمثيل.
وما كان لنا أن نعرف هؤلاء الأبطال إلا من خلال الدراما التي جسدت لنا تلك المواقف الوطنية وهؤلاء الأبطال في أعمال فنية لن ينساها الزمن، ولكن لماذا عاش هؤلاء في ضمير الشعب؟ لأن هؤلاء الأبطال كانوا (ضد الاحتلال والظلم)، وهذه هي الترجمة الحقيقية للنفسية المصرية التي ذاقت الويلات من سلطات الاحتلال، لذلك كان من يقف ضد هذا الاحتلال بطلا ولو كان لصا، أو قاتلا، أو سفاحا، أو عربيدا، لا يهم، فالمهم أنه ضد السلطة، وفي أوائل القرن العشرين كان (أدهم الشرقاوي) بطلا لأنه كان ضد السلطة، وأيا كانت الوسيلة التي عبَّر بها عن تمرده، سواء كانت بالقتل أو السرقة أو غيرها، إلا أنه تحوَّل في خيال الجماهير إلى بطل شعبي.
وإذا نظرنا للدراما قبل ثورة 1952 وصلتها بتوثيق التاريخ الوطني والاجتماعي سنجد أن السينما والإذاعة والمسرح لم يكن لهم أي اهتمام بهذا التوثيق، إلا أن ثورة 1952 أعطت للدراما وعيا جديدا، إذ أصبح رئيس السلطة جمال عبد الناصر هو بذاته البطل الشعبي الذي نصرهم ضد المحتل وأتباعه، وضد سلطة سابقة حرمتهم من حقوقهم، وحينما جاء العدوان الثلاثي يستهدف مصر عام 1956 استطاع الفنان فريد شوقي توثيق أحداث هذا العدوان في فيلمه (بور سعيد) الذي أخرجه عز الدين ذو الفقار، وشاهد المصريون هذا الفيلم في دور السينما عام 1957 بعد عام واحد من انتصارنا السياسي على المعتدين، وقد كان هذا الفيلم توثيقا للتاريخ، وحينما كبرنا وشببنا عن الطوق رأينا هذا الفيلم وأدركنا حجم البطولات التي قام بها جيل 1956.
وفي عام 1962 كانت الحياة تتوقف في مصر كل يوم جمعة عند إذاعة مسلسل (أدهم الشرقاوي) في الإذاعة المصرية، وقد كان هذا المسلسل الإذاعي عبارة عن ملحمة غنائية أداها المطرب الشعبي محمد رشدي، وكانت هذه الملحمة هى سلم النجاح بالنسبة له، إذ ذاعت شهرته بعدها وأصبح من كبار المغنيين، وقد شارك في ملحمة أدهم الشرقاوي مجموعة من كبار الفنانين على رأسهم محمد السبع صاحب الصوت العميق، اهتم المصريون وهم يستمعون للمسلسل بالبطل أدهم الذي وقف ضد الظلم وتحمَّل السجن، وقاوم السلطة والمحتل، ووقف مع أهل قريته ليدفع عنهم استبداد الاحتلال، وينجح في تحطيم قضبان السكة الحديد، لينقلب القطار المحمل بالجنود الإنجليز، وبطولات أخرى كثيرة، ولاشك أن الشعب المصري عند إذاعة تلك الملحمة كان فخورا ببطله الشعبي جمال عبد الناصر، معتقدا أنه نبت من تلك الأرض التي نبت منها أدهم، لذلك كانت المقاربات في أذهان الناس تدور بين أدهم الشرقاوي وجمال عبد الناصر، وستظل هذه المقاربات في الخيال الجمعي للمصريين.
قد نكتب كثيرا وكثيرا عن توثيق الدراما للتاريخ، وقطعا فاتنا أن نكتب عن عشرات المسلسلات والأفلام، ولكن مسلسل الاختيار في الجزأين الأول والثاني كان متميزا، إلا أن التفكك الدرامي أصاب الجزء الثالث، بالإضافة إلى التصنع وضعف السيناريو وقلة الوعي الفني عند المخرج، ومع ذلك استمد الجزء الثالث أهميته من الأحداث التي قام بتوثيقها، إذ أنه يجسد أحداثا رأيناها وعايشناها وكابدنا المُر ونحن نقاومها، في هذا المسلسل لم نر فقط تأريخا لأحداث، ولكننا رأينا تأريخا لبطولات قدمها أبطال الظل ولقادة القوات المسلحة، وللأمن المصري بقياداته ورموزه، من عرفناهم ومن كنا نجهلهم ونجهل تاريخهم.
لم يكن هذا التوثيق لنا، فقد كنا جميعا شهودا على تلك الأحداث، ولكنه توثيقا ستراه أجيالا جديدة ستأتي في مستقبل الأيام، وأتمنى أن يخرج للنور في مستقبل الأيام أعمال أكثر حرفية من الناحية الفنية نقول من خلالها للأجيال التي لم تر هذه الأيام إنه: عندما خيَّم وطوايط الظلام على سماء بلادنا، ووصل تنظيمٌ شيطاني لحكم البلاد، وكان مخططه أن يمص دماء المصريين ويفتت بلادنا ويجعلها أقاليم تابعة لهيمنة قوى الشر الخارجية بمظهرها الأنيق وعيونها الخضراء، آنذاك كان في مصر من كان له (الاختيار) فاختار أن يقف مع مصر بتاريخها وعمقها الممتد في جذور الزمن، واستطاع أن يحافظ على مصر وينقذها، كان له الاختيار رغم المشقة، فاختار وجاهد وخطط وضحى ولم يتراجع، وستصل رسالتنا للأجيال القادمة، تلك الرسالة التي نقول فيها: (كان في مصر أبطالٌ بعضهم عرفناهم والبعض الآخر سيظل مجهولا، فقد كانوا يعملون في الخفاء من أجل مصر لا من أجل الشهرة).