بقلم : محمود حسونة
ما أجمل الرجوع إلى الماضي، والتذكير بقيم الماضي التي ضاعت في زحام حياة تسودها القيم المادية وتتحكم فيها التكنولوجيا، وما أجمل بعث روح الكاتب الكبير (أسامة أنور عكاشة) عميد الكتابة الدرامية وصاحب العلامات التي ستظل خالدة في وجدان معايشيها، وسيد التحليل الأعمق للعلاقات العائلية بكل ما تحويها من جشع وطمع وأنانية وما يلزمها من ترابط وتضحية ومودة ورحمة.
إلى قيم الماضي عدنا، ومع (أسامة أنور عكاشة) عدنا، من خلال مسلسله الاذاعي (راجعين يا هوى) الذي تمت إذاعته عام 2004 وكان آخر ما كتبه عكاشة للإذاعة؛ عدنا معه عبر التليفزيون بعد أن كتب له السيناريو والحوار (محمد سليمان عبدالمالك) وصاغه في قالب يتناسب ومستجدات عصرنا، حيث كتب الراحل (أسامة أنور عكاشة) رؤيته في ظل عالم لم تخترقه السوشيال ميديا وصاغه عبد المالك لمشاهد استحوذت السوشيال ميديا على مساحة كبيرة من وقته، وأصبحت مصدراً رئيسياً للتنمر على خلق الله وفبركة الفضائح وتشويه صورة الناس والطعن في أخلاقهم وشرفهم أحياناً، ولذا فقد كانت أحد الوسائل التي حرص (عبدالمالك) أن تكون من أدوات النيل من بطل المسلسل الساعي للم شمل أسرته الممزقة، ومن خلال فضح صديقة بنت شقيقه المضطربة نفسياً له وادعائها عبر السوشيال ميديا الحمل منه.
نادراً ما يرتبط المشاهد بعلاقة مع أبطال مسلسل يتابعه، وعندما ينتهي عرضه ينتابه إحساس أنه سيفتقد اللقاء اليومي مع أصدقاء أو أهل أو خلافه، حسب العلاقة التي حددها لتربطه بأبطال هذا العمل، وهو ما حدث بين كثير من المشاهدين وأبطال (راجعين يا هوى)، ولست أدري إذا كان المخرج (محمد سلامة) والسينارست (محمد سليمان عبدالمالك) والنجم (خالد النبوي) أدركوا هذا الارتباط فجعلوا نهايته مفتوحة بما يوحي بوجود جزء ثان منه، أم أن هذه النهاية المفتوحة والجزء الثاني قرار مسبق، ورغم أن المسلسلات الاجتماعية عادة تحتمل أجزاء تالية تضيء على تطورات في حياة أبطالها إلا أن اللجوء لهذا الخيار أثبت فشله مع الجميع بما في ذلك امبراطور الدراما الذي جاءت الأجزاء الأخيرة من أعماله فاشلة في حين أن مسلسلات الجزء الواحد ظل نجاحها في الذاكرة الجمعية للمشاهدين سنوات بل عقود.
(راجعين يا هوى) اتخذ من أغنية السيدة فيروز عنواناً له، وكأن دار الهوى في الأغنية يمثلها في المسلسل مصر التي عاد إليها (بليغ أبو الهنا) بطل الأحداث بعد غربة طويلة، وهي أيضاً شقة (آل أبو الهنا) التي اتخذ منها بليغ مسكناً له وحاول أبناء شقيقيه المتوفيين سلبه إياها، وأيضاً ترمز دار الهوى للقصر الذي قسّمته زوجتا الشقيقين وأقامتا في منتصفه جداراً عازلاً ليتحول إلى سجنين منفصلين، وأصبح سجناء كل جزء يتخذون من أبناء عمومتهم أعداءً لهم، وبعد عودة (بليغ) صار همه إعادة الدفء المفقود بين أولاد العم وتحطيم الجدار العازل، بينما كل من الطرفين يحاول استعداءه والتخلص منه بعد السطو على ميراثه، لكنه ينجح في النهاية في تحقيق مأربه وإعادة اللحمة المفقودة بين أبناء شقيقيه واستعادة العائلة الموحدة في مواجهة الطامعين في ثرواتها والساعين لتفرقتها واستعادة قيم الأجداد التائهة وسط تفاصيل الصراعات.
حكاية سلسة قد تراها خفيفة وبسيطة ولكنها في جوهرها دسمة ومعقدة بما فيها من علاقات متشابكة وقيم ضائعة وأطماع وأحقاد ومؤامرات، ولكن الصياغة الدرامية والأداء التلقائي واللاأنانية، جعل الرسائل المختلفة تصل بسلاسة في جو رومانسي كوميدي إنساني، فرغم أن المسلسل يدعو للتشبث بقيم العائلة المفقودة، إلا أنه في ذات الوقت يدعو للتعامل مع مشاكل الشباب والأبناء بلغة المستقبل واحترام مشاعرهم ومنحهم حق تقرير المصير، وهو ما تجسد في العلاقة الجميلة التي ربطت بين طارق (نور خالد النبوي) وابنة عمه ولاء (سلمى أبو ضيف) والتي رفضتها عائلتا الشقيقين ولم يؤيدها سوى العم بليغ، ليحترم الجميع إرادة الحب بين طارق وولاء في النهاية، وقد شكل نور وسلمى ثنائياً ناجحاً ويمكن أن يكون هذا المسلسل نقطة انطلاق لأعمال عدة تجمع بينهما في المستقبل.
(خالد النبوي)، كبير في مكانه ومكانته، باعتماده الأداء السهل الممتنع الذي يصل به إلى قلب المشاهد بسهولة، من دون أن تعترضه أي عوائق، حيث قدم شخصية بليغ بأداء عال المستوى وجسد معاناته من الدين الذي عاد من الغربة محملاً به ومطاردات دائنه له، وأيضا معاناته من تفتت عائلتي شقيقيه، ومعاناته من ملاحقات أبناء أشقائه للتخلص منه، وصراعه بين حبه القديم وحب جديد يعيشه وخوفه من الزواج وقيوده، في مقابل تفاؤله بالقدرة على حل كل ذلك وهدم جبل المشاكل الذي يلاحقه وهو ما تحقق مع هدم الجدار العازل والفاصل، ولكن رغم ذلك فلو بحثت عن نموذج (بليغ أبو الهنا) فلن تجده، وهو مثال أفلاطوني لا يشبه سوى العالم الذي كان يعيش فيه عمه الفيلسوف جابر أبو الهنا، والذي جسده باقتدار الفنان الكبير أحمد بدير.
شخصيتا (فريدة وماجي) اللتين تتصارعان على بليغ، تتقاطع كل منهما مع شخصيته في أحد جوانبها. ماجي، الطبيبة النفسية تخشى أيضاً الزواج مثله وقد أدتها الفنانة اللبنانية (نور) بسلاسة نمطية، أما (فريدة) وهى محبوبته القديمة التي تركها يوم عقد قرانهما وهاجر إلى الخارج، فهي شخصية ثرية، مليئة بالتناقضات، مضطربة وتعيش أسيرة حبه، متهورة وحادة الطباع وفي ذات الوقت طيبة القلب وجسدتها بعبقرية الفنانة (حلا شيحة) لتقدم نموذجاً غير مسبوق بالنسبة لها في طريقة الكلام والتعبير الجسدي وأيضاً الملابس، وكانت من مفاجآت المسلسل.
(أنوشكا)، قدمت شخصية شريفة الأرستقراطية بتمثيل أرستقراطي، أما وفاء عامر فقد جسدت شخصية الأم وزوجة الأخ الشعبية الجاهلة الجشعة بطريقة متفردة تمنح المشاهد احساساً بأنه التقى هذا النموذج في سوق شعبي أو شاهدها في خناقة بالحارة.
المسلسل متميز وممتع، ولكن شخصية بليغ وهمية وبعيدة تماماً عن الواقع، وقد أجاد رسم المشاهد المخرج (محمد سلامة) وإن كان قد وقع في بعض البطء في الإيقاع الذي أفرز القليل من الملل.
mahmoudhassouna2020@gmail.com