بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
غريبٌ أنت أيها البيانو، نحبك ونلعب بمفاتيحك والزهو يتملكنا، ولكنك لست إبنا لنا، أنت إبنٌ للموسيقى الغربية، صنعك في البداية رجلٌ إيطالي اسمه (بارتولوميو كريستوفوري) ويا له من إسم طويل ومعقد، لا أتصور كيف كان أبوه ينده له ؟! فإذا قال له: تعالا يا ولد يا بارتولوميو بسرعة، فبمجرد أن ينطق الاسم بهذا الطول سيكون السبب الذي استدعاه لأجله قد انتهى! خصوصا إذا رد عليه ابنه وقال له: حاضر يا أبي كريستوفوري، حينئذ سيكون الأب قد نسي لماذا نده على ابنه!، ما علينا المهم أن الأخ الإيطالي هذا كان صانعا للآلات الموسيقية وتفتق ذهنه منذ أربعمائة عام عن فكرة، فكان أن صنعك أيها البيانو، ويقال إن البيانو الإيطالي الأول هو جدك أو جد جدك، وكذلك أنت الآن بذات نفسك قد تطورت وتغيرت عن البيانو الجد، وأصبحت شيئا عظيما مصنوعا من خشب الأبنوس، ومفاتيحك الجميلة مصنوعة من العاج الثمين، أنت الآن في أحسن حالاتك فقد تطورت وتغيرت وواكبت المدنية الحديثة، ولك أن تعلم أيها البيانو أن جدك البيانو الأول كان بدوره مجرد تطوير لآلة موسيقية قديمة اسمها (الهاربيسكورد) والتي يضرب عمرها في جذور الزمن، ثم آلة (الكلافيسان)، ولا تسألني عن تلك الآلتين فلا أعرفهما ولم يسبق لي أن تعاملت معهما فهما مجرد سلف لبيانو العصر الحديث، كما أن هاتين الآلتين هما بدورهما تطوير لآلة موسيقية أقدم.
المهم في هذا الموضوع يا أخي البيانو الفخم هو أن المؤرخين اختلفوا، ونحن نعلم أن أي عدد من المؤرخين أو المفكرين أو الفقهاء إن اجتمعوا على شيء فلابد وحتما أن يختلفوا فيه، فالبعض قال إن البيانو هو ابنٌ للسلفية الموسيقية اليابانية، يقصدون من ذلك أن السلف القديم الذي صنع أول آلة وترية تطورت عبر التاريخ وأصبحت بيانو هم أهل الحضارة اليابانية التليدة، ولكن علماء المصريات يقولون كلا وألف كلا، إن الحضارة المصرية القديمة هى صانعة البيانو الأول، ولكن علماء الانثربولوجيا (علم الإنسان) يقولون إن الجيل السادس بعد سيدنا آدم هو الذي صنع أول آلة خشبية فيها أوتار موسيقية تطورت مع التاريخ وأصبحت الآن حضرتك بذات نفسك أيها البيانو المحترم.
دعك الآن من تلك الاختلافات، فلا تهمنا تلك السلفية الموسيقية ولا أي سلفية أخرى، فسلفنا البشري صنعوا سلفك الموسيقي وفق معارفهم وعلومهم وأفكارهم ومشاعرهم وعلاقتهم بالموسيقى التي استمدوها من النغمات الكونية، وكل هذا تطور وتغير وتقدم، لذلك لا شأن لنا بأسلافك ولو كانوا مقدسين أو أطهارا ولندخل في موضوع حبنا لك مع أنك لست محسوبا على موسيقانا الشرقية، ويبدأ أصل المشكلة من أنك آلة موسيقية عاجزة، أي نعم أنت عاجز أيها البيانو، فأنت لا تستطيع أن تُصدر لنا نغمة الربع تون، بينما آلات الشرق تحب الربع تون وتجيد إصدار نغمته، أما التون لمن لا يعرف فهو المسافة الصوتية بين النغمة والنغمة، أما النصف التون فهو نصف مسافة صوتية، أما الربع تون فهو طبعا مسافة صوتية أقل من النصف تون، ولمن لا يعرف – وللعلم أنا أيضا لا أعرف – فإنك عندما تضرب بإصبعك على المفتاح الأبيض في البيانو فأنت بذلك قد أصدرت نغمة، ماشاء الله عليك، عازف ولا أحسن، لا تقل لي بيتهوفن ولا شوبان، فإذا طرقت على المفتاح الأبيض الذي يجاور المفتاح الأول الذي ضربت عليه فأنت بذلك ستصدر نغمة أخرى، ولكن دقق السمع يا صديقي، ستجد حتما اختلافا بين نغمة المفتاح الأبيض الأول ونغمة المفتاح الأبيض الثاني، هذا الاختلاف هو مسافة صوتية، وهى تعتبر في لغة الموسيقى (التي لم أفهمها إلى الآن) تونا كاملا بجلالة قدره، مسافة واضحة تمام الوضوح، يستطيع الأطرش أن يفرق بينهما، تلك المسافات كما قال لي أحد العارفين ببواطن الموسيقى هى ما تُكوِّن السلم الموسيقي، الذي هو (دو ري مي فا صو لا سي دو) أظن كلنا يحفظ السلم الموسيقي ولكني أراهن أن غالبيتنا العظمى يا ولداه تحفظه دون أن تفهمه، ويبدو أن هذه هي مشكلة عويصة من مشاكلنا الحضارية، الحفظ دون الفهم !!.
لكننا نعرف أن البيانو يوجد به أصابع سوداء، يطلقون عليها مفاتيح، المهم أنك الآن عرفتها بغض النظر عن اسمها، هذه الأصابع مرتفعة مكانيا نوعا ما فوق الأصابع البيضاء، ولكن هذا الارتفاع المكاني لا يدل على أنها أعلى قيمة، أبدا أبدا يا سيدي العزيز، بل إن الإصبع الأسود لا يصدر منه إلا نصف مسافة صوتية، أي نصف تون، يعني لو ضربت بإصبعك على المفتاح الأبيض ثم طرقت على المفتاح الأسود فإن الفارق الصوتي أو المسافة الصوتية ستكون أقل من المسافة بين الأبيض والأبيض، ومن ذلك نعرف أن الإصبع الأسود بهذه الحيثية هو أقل من صاحبه الأبيض الأدنى منه في جهاز البيانو، وهذه ليست تفرقة عنصرية، ولكنها إشارة واضحة لكل لبيب يفهم بالإشارة أنه أحيانا يجلس في القمة من هو أقل ممن يجلس في القاع، بل إن الذي في القمة قد يمثل نصف قيمة من يجلس في القاع.
وبالرغم من أن عدد الأصابع السوداء التي تجلس في القمة أقل من الأصابع التي تجلس في القاع، إلا أن العدد لا يهم، المهم أن الأعلى ليس سيدا والأدنى ليس عبدا، وآه منك أيها البيانو!! فإنك أيضا كنت مجاملا غاية المجاملة، لذلك فإنك كما اعتمدت على أصابع العازف فإنك لم تنس قدمه، بل جاملتها وجعلت لها مقاما محفوظا، فمن أجل القدم يوجد فيك دواسات يجب على العازف أن يضغط عليها بقدمه، ولا يمكن أن يستقيم العزف دون أن يتم الضغط بالقدم على دواساتك، تلك الدواسات المسكينة التي لا حول لها ولا قوة هي بذاتها قابلة للضغط، بخاطرها وبغير خاطرها، ولذلك لا ينبغي أن تكون عصية جامدة، بل يجب أن تكون تحت طوع القدم، فحينما تضغط أصابع العازف على المفاتيح بيضاء كانت أو سوداء، فإن القدم للدواسات، ولكن هل لتلك الدواسات قيمة ما؟ طبعا لها قيمة كبيرة، وقيمتها تكون على حسب هوى العازف ورغبته، فحينما يريد أن يخفف من صدى صوت الوتر الذي يُصدر الموسيقى، لأن الصوت أحيانا يكون مزعجا، فما عليه إلا أن يضغط بقدمه على الدواسة التي توجد في الجهة اليمنى، أما إذا أراد أن ينتقل من نغمة لأخرى من باب التنويع والإمتاع فما عليه إلا أن يضغط على الدواسة التي توجد في الناحية اليسرى، الأمر إذن في منتهى اليسر.
ومع هذا توجد أجزاء أخرى في منتهى الأهمية، وبدونها لن تعمل أيها البيانو، ولكنها مخفية لا يراها أحد، توجد داخل الجهاز نفسه، أهمها طبعا الأوتار التي تصدر النغمة، وعددها مائتان وعشرون وترا، وهى لعلمك مصنوعة من الفولاذ، فهل تظن أن البيانو سيعمل دون تلك الأوتار الفولاذية؟ بالطبع لأ، ثم توجد أيضا لوحة تُسمى (لوحة الصوت) هى بمثابة الجهاز الإعلامي للبيانو، فمهمتها هى تضخيم الصوت، بمعنى أن القدرة على تضخيم الصوت موجودة في تلك اللوحة في حين أن القدرة على تخفيف الصوت تكون تحت قدم العازف من خلال الدواسة التي يضغط عليها بقدمه.
الآن فهمناك أيها البيانو الفخم المحترم، وعرفنا طبيعتك التي صنعك بها الأخ الإيطالي صاحب الاسم الطويل، ولكن لماذا أنت غريب علينا؟ لأنك صاحب التون والنصف تون فقط ونحن نحب الربع تون، فأنت يا صديقي البيانو لا تصدر إلا اثنتي عشرة نغمة أساسية، نغمات السلم الموسيقي السبعة وهى (دو ري مي فا صو لا سي دو) والمسئول عن إصدارها المفاتيح البيضاء، أما المفاتيح السوداء فلا يصدر منها إلا أنصاف التونات، وهى خمسة أنصاف أطلق عليها الموسيقيون خمسة أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فلا تهتم بحفظها ولكنها عموما مستمدة من أسماء السلم الموسيقي، ولأنه سلم موسيقي لذلك تختلف سماكة الصوت وحدته إذا بدأنا من اليمين وهى الناحية الخاصة بأصوات النغمات الموالية، هذه النغمات يجب أن يكون صوتها واضحا، ثم تبدأ أصوات النغمات المعارضة تنخفض حدتها كلما اتجهنا إلى اليسار، فالمعارضة كما تعلمون يجب أن تكون خافتة الصوت.
أنت يا بيانو فيك التون ونصفه، ولكن أين ربعه يا جهاز؟!، ذلك الربع لا يكفيه أن يتم الطرق على المفتاح، ولكن يجب أن يكون الوتر تحت يد الموسيقي لكي يصل بتحريكه إلى الربع تون، هى براعة من العازف إذن، والعازف الشرقي يستطيع ذلك وهو يعزف بالعود أو الناي أو الكمان، فيقوم بعزف مقامات لا يمكن أن تكون إلا بالربع تون، مثل مقام (السيكا، أو الصبا، أو البياتي)، هذه مقامات شجية حزينة، الربع تون إذن هو شكل من أشكال إزالة الفوارق بين الطبقات النغمية، أو جعلها قريبة جدا من بعض، وهذا يجعل بين النغمات الموسيقية صلة حميمة، وكأن النغمة تأخذ النغمة الأخرى في حضنها، هذا الحض ليس عن بُعد مثل أحضان الغرب التي هى أحضان نص تون، ولكنها أحضاننا الشرقية التي يضم الواحد صديقه ضما جميلا، هذا الضم لا يكون إلا بالربع تون، لذلك هو ممتع.
وقد حاول سيد الموسيقى العربية سيد درويش عام 1920 أن يستخدمك أيها البيانو وهو يقوم بعملية تحديث الموسيقى الشرقية، فأدخلك في أغنيته (على قد الليل ما يطوِّل) في أوبريت (العشرة الطيبة) مع المغنية (حياة صبري)، وعزف عليك وقتها عازف البيانو السوري الموسيقار الأشهر في زمنه (كميل شمبر) إبن مدينة حلب، وفي هذا الأوبريت غنى درويش تلك الأغنية التي فيها المقطع الشهير (شفتي بتاكلني أنا في عرضك خليها تسلم على خدك)، فترد عليه حياة صبري (يوه يا دين النبي تنك سارح مانا لسه مجابلاك امبارح)، وهى أغنية لو غناها أحدهم اليوم لتم تعليق المشانق له بحجة الأخلاق، وإن كان الموثقون الموسيقيون في زمننا قد قاموا بإجراء تعديلات على كلمات الأغنية حتى تتناسب مع الأخلاق، وليذهب النص المسرحي وسياقه إلى الجحيم.
ثم دخلت أيها البيانو مع الموسيقار الأعظم (مدحت عاصم) عام 1938 حينما لحن مونولوج (دخلت مرة في جنينة) للمطربة الفريدة (أسمهان) فكنا نسمع نغماتك مع الكمنجة والعود وكأنكم أبناء عائلة واحدة، وعلى الفور قام الكبير (محمد عبد الوهاب) باتباع مدحت عاصم فأدخلك في أغاني فيلم (يوم سعيد) عام 1938، ثم تبعه (فريد الأطرش) في العديد من أغانيه، ثم كانت المفاجأة اللحنية التي هبطت علينا من سماء الإبداع مع رياض الشنباطي مع أغنية (أراك عصي الدمع) للسيدة أم كلثوم، إذ أن لك أيها البيانو صوت ضخم يعبر عن الكرامة، وعن كبرياء أبي فراس الحمداني الذي أهدره ابن عمه سيف الدولة الحمداني، فلم يكن لرياض السنباطي من بد إلا أن تكون أنت أيها البيانو الذي يُعبِّر عن هذه الكرامة المهدورة.
وبعد نهاية الثلث الأول من القرن العشرين نجحنا أيها البيانو في ضمك للعائلة الشرقية، فقد أدخلنا في مصر وبعض بلاد الشرق على أوتارك تعديلات تجعلنا نعزف النغمات الشرقية وكأنك من أبناء التخت الشرقي، ولا يمكن أن نقول إنك (عفا) عليك الزمن بدخول الأورج بتعديلاته التي تضم الربع تون، فستظل أنت الأصل ولا يمكن أن نستغنى عنك، فالأورج آلة كهربائية أما أنت فأعلى من الكهرباء قدرا وقيمة، الآن أنت لست غريبا، بل لك ما لنا وعليك ما علينا.