بقلم : محمد شمروخ
لم أستغرب من إعلان الشركة المتخصصة في تجهيز الموتى ودفنهم والقيام باللازم في الجنائز من وقت طلوع الروح وحتى آخر المعزين في القاعة، مرورا بتصريح الدفن وتجهيز المقبرة وشهادة الوفاة وحجز قاعات العزاء والنعى!.
بل استغرابى أنها حتى الآن شركة واحدة فقط، فما زال بقية العاملين في استثمارات الموت يتعاملون من منطلق أن العملاء من أهل المرحوم هم الذين يبادرون بالاتصال بهم والبحث عنهم الوصول لهم متاح طوال الوقت.
لكن صاحب فكرة الإعلان، بادر بهذا التقليد الجديد عقب تكوين شركته بعامين تقريبا.. ولماذا لا؟!، فالموت يحتاج إلى خدمة وخدمة عاجلة وملحة وبالتالى لابد أن يصبح سلعة، ومادام سلعة فلابد له من سوق وفي السوق لا مفر من أن تحكم قواعد السوق كل شيء.
سيبك من الدمعتين والصرختين والشحتفة.. هما يومين تلاتة وكل شيء سيكون على ما يرام.. وهذا العم (يرام) دائما منتظر ليريح الجميع.. بلا حزن بلا وجع قلب.. هى ناقصة؟!
المهم إن حالات الموت لا تعنى في النهاية إلا أموالا سائلة، والعاملون في مجال الموت من مغسلين وسائقي سيارات تحت الطلب وتربية وبتوع فراشة ومقرئين، لا يترددون بمنتهى الصرامة في المغالاة انتهازا للظرف العصيب هذا غير أن سائق السيارة تحت الطلب، لا يتورع عن طلب الإكرامية الزيادة من صاحب الميت قبل أن يغلق عليه باب السيارة الخلفى!.
حدث أمامى في أثناء تجهيز جثمان أحد أصدقائي رحمة الله عليه، إذا بالمغسل يطلب البقشيش لزوم الوصاية بالميت قبل أن يبرح ترابيزة الغسل وبعد أن أنهى مهمته تكرم بأن أخرج موبايله ليتصل بسيارة نقل الموتى وحدد نصيبه بعد مجادلة مع صاحب الشركة المالكة للسيارة الذي راح يساوم بدوره، ولما جاء السائق إذا به يشترط الحصول إكراميته خارج المبلغ المتفق عليه قبل الاتفاق على التوصيل والكل يضغط على أن الأمر لن يحتمل فصال فإكرام الميت دفنه والمهم نوصل في البدرى بدرى.
وأتارى عمال المشرحة في كل مستشفى يتعاملون مع الحانوتية بالحتة.. والحتة يعنى جثة، فكل موتة هى بمثابة فرصة جديدة للكسب.
حتى الجمعيات الخيرية التى تجوب سياراتها الشوارع، أتاريها هى كمان بزنس كبير يرفع راية الخير.. آه يا ولاد الـ….
لكن نرجع ونقول إنه الحكاية من الآخر كده مسألة سلعة وسعر وهنا المكسب مضمون، لأن الزبون حاضر وأهله مضطرون وواقعون تحت ضغط الرغبة في الإسراع بالتخلص منه!
ولم أعد ألوم كثيرا على العاملين في هذا المجال، فلأنهم اعتادوا الموت، لم يعد يرهبهم فلا ترى في وجوههم أى أثر للحياء ولا للحياة، وجوه جامدة جافة صامته باردة، لا تعرف شيء إلا الانتهازية والمتاجرة بالحزن.
وتجارة الحزن تعنى فلوس بالملايين تتحرك كل يوم في السوق وتصب في جيوب القائمين على سلسلة المهن المتصلة بعملية الموت، أى أنه مال متحرك ولابد أن يجد هذا المال مستثمرين أما الموت نفسه فلا أحد يفكر فيه، وأما الميت فسرعة الخلاص منه هى المطلوبة وأما العزاء فليس إلا لزوم الوجاهة والرياء الاجتماعى والفشخرة الكدابة.. حتى المصاحف يا مؤمن أصبح توزيعها من لوازم الفشخرة.
أما المقابر فقد انتقلت إليها قواعد الزيف الاجتماعى سوف تسمع قريبا عن كمباوندات لمقابر مكيفة الهواء وكمان مزودة وأمن خاص وكاميرات مراقبة وإنتركم لكل مدفن!.
ومع ذلك وبعد كل هذا.. صدقنى شعرت بارتياح شديد مع هذا الإعلان، على الأقل لأن العملية واضحة و(بزنس إذ بزنس) وانتم هتدفعوا كذا حسب طلب كذا (عادة – سوبر- ميجا)، ولكن ارتياحي لم يكن إلا لأن هناك كثيرين لن يجدوا أحدا إذا ما وقع بينهم ميت فجأة، فحالات العزلة والتباعد العمدى التى يعيشها الناس عن بعضهم البعض، تعطى فرصا ذهبية لزيادة هذا النشاط الإعلانى عن هذه المهمة لتكون المنقذ (الدليفرى) الوحيد، شأن كل شي، بل سيكون هذا (الدليفرى) مفتوحا طوال اليوم حتى في أيام العطل والإجازات ولا شيء هناك يدعى بالـ (لاست أوردر).
لم يعد الناس لبعضيها وليس ثمة فرص للاستعانة بجار أو الاتصال بقريب عند سقوط ميت مفاجئ!.
ودعنى أسألك: كم مرة سيادتك فوجئت شخصيا بأن جار لك في نفس العمارة التى تسكنها قد مات من أسبوع على الأقل ولم تسمع عنه، أنت شخصيا لا تعرفه وربما كنتما تتبادلان ابتسامات شبحية في مدخل العمارة أو أمام الأسانسير وربما لا تتبادلان كلمة واحدة.
ليه؟!.. هو أنتم لامؤاخذة بينكم قضايا.. ياراجل ده أنت ما تعرفش هو ساكن في أنهى دور إلا لما ضغط على زرار الأسانسير!، ثم إنك يعنى لو سمعت إنه مات، فماذا أنت بفاعل، هه، هل ستبادر بالذهاب لعرض المساعدة؟!.. ولو حدث.. ما ضماناتك بأن لن يتوجسوا من تدخلك السافر وتدخلك في شئونهم باقتحامك المفاجئ في هذا الظرف العصيب؟!.
هذا يا صديقي لا يحدث في الأحياء الموصوفة بالراقية، بل في الأحياء المتوسطة والشعبية وزاد أنه بدأ يغزو القرى والعزب والنجوع.
كل واحد قافل عليه بابه وفي حاله.. أحسن برضه من المشاكل والقول والعيد، والخلاصة صار الصمت في المسافات البينية بين البيوت كصمت المقابر نفسها وكل ساكن لا يدرى عن جاره شيئا.
لم يعد أحد يهتم بشأن غيره، حتى قاعات العزاء تجاور قاعات عقد القران في ملحقات المساجد والكنائس، تجاورت الزغاريد مع الدموع، لا مراعاة حقيقية لقيمة الموت منذ أن صار الموت سلعة لها أثمانها.
وربما في رمضان القادم ستجد نجوما يعلنون عن شركات (موت دليفرى).. (نحن خدمتك اتصل بنا نصلك قبل عزرائيل، نحن الوحيدون الذين نضمن لك حياة سعيدة فى الآخرة، فلدينا مغسل وضامن جنة بس موت أنت وخلى الباقى علينا!).