بقلم : هدى العجيمي
عندما أبلغت بخطاب رسمي بأمر ترشيحي لمنحة دراسية في ألمانيا سعدت سعادة بالغة لأنني اخترت من بين كل زملائي وزميلاتي الذين تنطبق عليهم شروط المنحة، إلا أنني تحيرت كثيرا لأن المنحة والسفر يستغرق وقتا طويلا حوالي أربعة أشهر أو يزيد، فماذا أفعل وكيف أدبر أموري وأنا قد تزوجت وأنجبت طفلا لم يكمل عامه الثاني بعد.
ثم ما هو رأي زوجي وهل سوف يوافق على أن أترك طفلي الرضيع وأسافر لعدة أشهر؟، لذلك كان على أن أتحدث إلى زوجي وأشرح له ملابسات المنحة واستعطفه بشرحي أنني حصلت على هذه المنحة التي يطمع فيها كل الزملاء ولكنني أنا التي فزت بها وحدي، فعلا تحدثت إليه وتعاطف مع مصلحتي المهنية وأشار إلى موضوع طفلي الصغير الرضيع فاقترح على أن أسال والدتي إذا ماكانت تتحمل مسئولية الطفل إلى أن أعود من المانيا.
ولقد كانت الصدفة قد لعبت دورا كبيرا في حياتنا وأراد الله أن تكون البعثة من نصيبي كنا في بداية السبعينيات بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وتولي الرئيس السادات رئاسة الجمهورية، وكانت البلاد تعيش محنة النكسة وفترة الاستنزاف وكانت مدن القناة قد أصابتها الحرب بالدمار والخراب وهاجر سكان تلك المنطقة في بورسعيد والإسماعيلية والسويس، ومن بين من هاجروا وتركوا مساكنهم ومدينته بورسعيد كانوا أهلي .. أبي وأمي وإخوتي الصغار، وأقاموا في القاهرة في مسكني الذي تعاقد عليه أبي عندما حضرت إلى القاهرة للدراسة بالجامعة وتركته بعد الزواج وانتقالي إلى مسكن الزوجية، فاحتضن هذا المسكن القاهري أسرتي المهاجرة من بورسعيد وأصبحت أمي قريبة جدا مني لترعي ابنائي.
سألت أمي وحدثتها عن حصولي علي منحة دراسية إلى المانيا وعن حيرتي بالنسبة للطفل فوجدت منها كل ترحيب واستعداد لرعاية الطفل الذي كان قد تعود عليها وعلي حنانها وحبها ويأنس إليها، وخصوصا أن له مربية يحبها أيضا وهى فتاة حنون وتعتني به عناية فائقة، وعلي هذا وجدت حلا لهذه المشكلة وبدأت أستعد للسفر ثم سافرت إلى برلين في ألمانيا الديموقراطية فوجدت زملاء جدد يرحبون بي ترحيبا كبيرا ويساعدونني مساعدة فائقة، أما التدريب هناك والدراسة فكانت على أعلى مستوي من الجدية كعادة الألمان.
وكانت الاستوديوهات عندهم متقدمة كثيرا عنها في ماسبيرو، وقام بإلقاء المحاضرات أهم الإعلاميين هناك وكان منهم المخرج الذي استطاع أن يقدم للفن الإذاعي موضوع المؤثرات الصوتية الشهيرة الآن في كل الاذاعات، مثلا كيف يظهر صوت المطر في الإذاعة أو صوت الخطوات الإنسانية وصوت الرياح كل هذا لايقدم بطبيعته أو بصوته الطبيعي لكنه ينظم ويرتب ويخترع بشكل ما.
المهم أنني استمتعت بهذه الدراسة الجادة وما حولها من رحلات إلى كل مدينة من مدن القسم الشرقي من ألمانيا، وقد أفدت كثيرا من ذلك كله، فمثلا كانت الإذاعة وبرامج الشباب التي عملت بها يحرصون على الاهتمام بالمواهب لدي الشباب خصوصا في الأقاليم وفي المدن النائية فكنت أذهب معهم في سيارة الإذاعة ونقطع ست أو سبع ساعات لكى نصل إلى مصنع في مدينة بعيدة لكي نلتقي بشاب صغير قام بتعديل فى ماكينة بالمصنع أفادت الصناعة هناك، ربما اللقاء لا يزيد عن عشر دقائق لكنهم يقطعون كل المسافة من أجله.
أفدت من هذا فيما بعد عندما قدمت برنامج (مع الأدباء الشبان) فتجولت في الجنوب ومدن الصعيد لاكتشاف المواهب الأدبيه كل أعمالهم الجادة ونشاطهم العلمي المدروس يتم على أكمل وجه، لكنهم أبدا لم ينسوا الترفيه فكان مجموعة الشباب من المذيعين بعد أن تتم تسجيلاتهم يسرعون في عمل حلقات للترفيه، فتبدا الموسيقى بالعزف والكل يشارك في الغناء والرقص لوقت محدد ويأكلون ويشربون في سعادة ومرح الشباب السعداء بوظيفتهم ومهمتهم ودولتهم.
ومن أطرف ما حدث لي هناك أنني في أول يوم وصلت إلى ألمانيا والي مدينة برلين اختاروا لي مسكنا في شارع اسمه (تحت ظلال الزيزفون) فاعتبرت ذلك بشرة خير لأنني كنت قد قرأت رواية بهذا العنوان (تحت ظلال الزيزفون) ترجمها أديبنا الكبير مصطفي المنفلوطي، وكانت رواية رومانسية جميلة .. لكنني في أول يوم فوجئت بالامطار الغزيرة تهطل بدون توقف ليلا أو نهارا، وفي الصباح لم أستطع أن أذهب للإذاعة نظرا لشدة المطر وانتظرت أن تتوقف الأمطار لكي أخرج من المنزل وأذهب إلى الدراسة، لكنها لم تتوقف ابدا ولا دقيقة واحدة .. واليوم الثاني أيضا ازداد المطر فلم أخرج للذهاب إلى الإذاعة، وفي اليوم الثالث كان القلق قد تمكن من المسئولين عن التدربب وهم ينتظرونني في الميعاد فجاء أحدهم إلى منزلي (تحت ظلال الزيزفون) وهو يتصور أن ضررا قد لحق بي فلما أخبرته عن خوفي من المطر ضحك كثيرا وقال إنه لن يتوقف أبدا وكان عليك الإمساك بالشمسية ورفعها فوق رأسك وتذهبي إلى دراستك في الإذاعة من أول يوم . .. ففعلت ذلك وأكملت مشواري اليومي تحت الامطار كل يوم.