بقلم الإعلامية الكبيرة : هدى العجيمي
عندما دخلت الإذاعة لأول مرة لم أدخلها لكي أصبح مذيعة في الراديو ولكنني دخلتها بعد أن اجتزت امتحان البرامج الإخبارية، فعندما أنهيت العام الدراسي الأخير وكنا في انتظار إعلان نتيجة الليسانس في كلية الآداب جامعة القاهرة نشرت الصحف إعلانا من الإذاعة والبرامج الإخبارية عن حاجتهم لمحررين لنشرة الأخبار في الراديو وفي نفس الوقت مترجمين وكتاب تعليقات سياسية.
ولما كنت علي وشك التخرج والبحث عن عمل فقد تقدمت لهذا الامتحان رغم أنني كنت في قسم اللغة العربية بالجامعة ثم ظهرت النتيجة ونجحت وحصلت علي الليسانس وذهبت إلى امتحان الإذاعة لم أدخل يومها من بوابة ماسبيرو إنما دخلت من باب الإذاعة في 4 شارع الشريفين، وكان مبني ماسبيرو ما يزال في طور البناء واجتزت الامتحان التحريري بما فيه من صعوبة بالغة مثل الترجمة وكتابة تعليق سياسي وتحرير إحدي النشرات ومعلومات عامة وتبعه لقاء شخصي مع أبرز قيادات الأخبار في الإذاعة في وقتها وامتحان شفهي، ويالدهشتي حقيقة لم أتوقع أو أحلم بأن أكون الأولي على آلالاف الذين تقدموا للامتحان ومعي أربعة من الشباب فقط.
وفعلا تم قبولي في هذا القسم (قسم الأخبار) في الإذاعة وكان قسم الاستماع السياسي الذي عملت فيه حوالي عام واحد وفي آخره دخلت امتحانا آخر أعلنت عنه الإذاعة لطلب مذيعين واستمر هذا الامتحان ثلاثة أشهر، كان يبدأ بامتحان تحريري يقيمه ديوان الموظفين وهو أصعب كثيرا مما سبقه ومن ينجح فيه ينتقل إلى امتحان شفهي في الإذاعة نفسها يقف أمام عمالقة الإذاعة (بابا شارو أو محمد محمود شعبان، عبد الحميد الحديدي، جلال معوض، الهندسة الاذاعية، الدكتور مهدي علامالمفكر والعلامة في اللغة)، وقفت أمامهم فى سؤال وجواب استكمله في حديث آخر.
قبل أن أقف أمام اللجنة المشكلة من إذاعيين كبار كنت أجلس في الاستراحة مع عدد كبير من الشباب والشابات وكلهم علي درجة كبيرة من التوتر ويطلقون الشائعات حول مدى صعوبة الامتحان، مما أدخل الخوف إلى قلبي خصوصا عندما قال أحدهم إن رئيس الإذاعة الأستاذ عبد الحميد الحديدي يوجه أسئلة غريبة فهو مولع بالجغرافيا ويسال عن الأماكن، وهنا كانت المأساة حيث انني في القاهرة كمغتربة ولا أعرف شوارعها ولا ميادينها فكنت من البيت إلى الجامعة فقط ولو سالني عن ميدان الفلكي مثلا لما أجبت.
وعندما جاء دوري للمثول أمام اللجنة توجست وتوقعت الرسوب لا محالة لكنني عندما دخلت اللجنة وذكرت اسمي بادرني الدكتور مهدي علام بالتحية وقال بالحرف أهلا يا ست هدى: هل تعرفين من هى الست هدى في حياتنا الثفافية؟، أجبت بثقة شديدة نعم أعرفها.. الست هدى هى مسرحية شعرية كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي وهى مسرحية فكاهية عن سيدة مزواجة تزوجت تسع مرات، وظللت أحكي بقية القصة التي كنت قد قرأتها من قبل وتعرفت علي أشعارها وقيمتها الفنية وكانت إجابتي سريعة وواثقة وكاملة بحيث أن أحدا لم يسالني عن شيء بعدها، بل مجرد قراءة نصين أحدهما لغة عربية والآخر بالإنجليزية ونجحت.
بعد أن أعلنت النتيجة وكنت الفتاة الوحيدة التي فازت بالوظيفة مع 19 شابا كلهم من الرجال، قابلنا رئيس الإذاعة وتم توزيع الجميع على أقسام العمل الإذاعي، وزع بعض الشباب أصحاب الاصوات القوية المميزه علي قسم المذيعين لقراءة نشرات الأخبار، أما أنا فقد عقدت لي لجنة استماع خاصة شارك فيها الإذاعي الشهير جلال معوض، وعندما استمع إلى قام بتوزيعي على برامج المنوعات فبكيت!، كيف أكون ناجحة مثل الشباب ولا أذهب مثلهم إلى قسم قراء النشرة الاخبارية؟، قام جلال معوض بتهدئتي وتفسير الموقف وهو نوعية الأصوات بالنسبة للميكروفون، وقال بالحرف هل تعرفين آمال فهمي المذيعة الشهيرة هى في قسم المنوعات الذي اخترته لك، وطلب مني الأستاذ الحديدي أن أذهب إلى الأستاذة صفية المهندس مديرة المنوعات لكي تقابلني وتجري معي حوارا ثم تصدر حكمها إذا كنت أنفع في برامج المنوعات أم لا، وذهبت إلى مكتب نجمة الإذاعة الكبيرة (صفية المهندس).
لم يكن مكتب صفية المهندس في نفس مبني الإذاعة 4 شارع الشريفين بل كان في عمارة مجاورة استاجرتها الإذاعة لكي تصبح مكاتب للقيادات الإذاعية فكانت تضم إلى جانب صفية المهندس (فهمي عمر، المامون أبو شوشة، علي فايق زغلول، فاروق خورشيد) وعدد كبير من المخرجين وكانت تقع في شارع صغير يفصل ما بين ستوديوهات الإذاعة في علوي وشارع الشريفين.
طرقت باب صفية المهندس فوجدتها بصحبة الإذاعية الكبيرة عواطف البدري، استقبلتني كعادتها بابتسامة صافية وبدأنا نتبادل أطراف الحديث وكان بوتقة من الكيمياء ألفت بين قلوبنا وضحكنا معا وتعرفت علي كطالبة جامعية كنت منذ أيام وعن أسرتي، وبعد وقت من هذا اللقاء الجميل لم تصدر صفية المهندس أي قرار رسمي بخصوصي بل اصطحبتني من يدي إلى احدي الغرف وأشارت إلى مكتب صغير وقالت هذا هو مكتبك، وجلست على هذا المكتب إلى أن انتهت ساعات العمل في صباح اليوم التالي، فوجئت بالإذاعي الكببر المأمون أبو شوشة يزورني في ذلك الصباح ويقدم لي وردة حمراء ترحيبا بي وبأول زميل لي في الإذاعة كمذيعة في إدارة المنوعات في
البرنامج العام وزميلة له ولقمم إذاعية شهيرة مثل سامية صادق، ثريا عبد المجيد، علي فايق زغلول، وعواطف البدري، وكانت هذه أكبر خديعة حدثت لي في بداية حياتي المهنية أن تقدم لي وردة جميلة وكأنها بشرة خير لحياة مهنية كلها محبة ومودة، وطبعا لم تكن حياتنا الإعلامية هى شهر عسل ممتد بل تخللتها المنافسة العقيمة والحقد احيانا والغيرة و.. و.. إلى آخره .
كانت صفية المهندس مديرة لإدارة المنوعات وفي الوقت نفسه مقدمة لبرنامج من أهم برامج الإذاعة هو (إلى ربات البيوت)، ومن قبله كانت تقدم برنامج (ركن المرأة)، وعملا بأسلوب الإذاعة وبرامجها كانت الإذاعة مولعة ببرامج الأركان، هذا ركن العمال، وهذا ركن الريف، وهذا ركن الطفل، وركن المراة منذ الاربعينيات من القرن الماضي، وفي عام ١٩٥٩ فكرت صفية المهندس في تطوير برامج المراة فاستحدثت شكلا جديدا للبرنامج يجمع ما بين المنوعات والبرامج الاجتماعية وأطلقت عليه اسم (إلى ربات البيوت)، وكان يضم كلمة إلى المستمعات، وبرامج درامية وحوارات حول المنزل والموضة والتنظيف والعلاقات الاجتماعية، واستحدثت دراما لمسلسل عاش إلى الآن وهو (عيلة مرزوق أفندي).
واستوحت فكرة (العيلة) من أطول مسلسل إذاعي في التاريخ كانت تذيعه اذاعة البي بي سي البريطانية في صباح كل يوم موجه للأسرة كان يكتبه الأستاذ محمود صبحي ويشارك فيه الممثلون (فرج النحاس، عزيزة حلمي، فؤاد المهندس، نادية رفيق، محمود عزمي، عايده كامل، الشقيفتان جمالات زايد وآمال زايد، وتخرجه صفية المهندس، كان هذا المسلسل هو عمود برنامج (إلى ربات البيوت) وسبب نجاحه،
وكان من عادة السيدة صفية المهندس أن تختار من تعمل معها في هذا البرنامج اليومي المهم، وكانت مدته نصف ساعة كل يوم في الصباح الساعة التاسعة والربع، وعندما اختارتني في برامج المنوعات كان علي أن أتدرب في هذا البرنامج الذي سبقتني إلى العمل فيه السيدات (ليلي عجرمة ومشيرة نجيب)، وهنا بدأت تدريبى في البرنامج وأقدم بعض فقراته تحت إشراف العزيزة صفية المهندس كأول خطوة أخطوها في الإذاعة في بداية الستينيات، فقد لحقت عيد ميلاد البرنامج الثالث أو الرابع .