بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
(آآلو يا همبكة).. هل تتذكرون ذلك الإفيه العبقري الذي أصبح أغنية أمتعنا بها المطرب الشعبي الكبير محمد عبد المطلب وهو يرد على عبقري من عباقرة السينما (توفيق الدقن) الذي دخل الفرح في فيلم (بنت الحتة) عام 1964 وهو يقول أحد أفيهاته الشهيرة: (آآآلو يا طلب ، آآلو يا أمم).
يقول العارفون بلغات الأمم أن أصل كلمة (الهمبكة) مستمد من الكلمة الإنجليزية (humbug) هى تعني بالعامية المصرية (الفهلوة) أو (الكلام الفارغ)، وبالعربي الفصيح تعني (هراء) وأصبح توفيق الدقن الشهير بهمبكة عليه رحمة الله هو العلامة التجارية لكل رجل جاء يهمبك علينا فأصبح (همباكا) وقد أجاد الدقن تصوير تلك الشخصية، أجاد للدرجة التي جعلت رجالا كبارا ينتسبون للسينما المصرية يعيشون (الهمبكة) في كل أعمالهم، وقد خدعتنا همبكاتهم لدرجة أننا أعطيناهم قفاز الإجادة، مع آيات العرفان والتقدير والتبجيل.
ويح كلماتي التي لا تعرف سبيلها للمجاملة والمدح، لقد أغضبت الكثيرين ولكن الله جبلني على هذا، ولنا في كبير آل همبكة المرحوم وحيد حامد، عظة وعبرة، نحن أولا نترحم على وحيد حامد الإنسان ونتمنى له مكانا فسيحا في جنات النعيم، ولكن وحيد حامد السيناريست لم يمت، ولن يموت، وسيظل يحيى بيننا، فهو علامة من علامات الفهلوة وسلق البيض والفبركة والقص واللصق دون أي مجهود يُذكر، ودون أي تدقيق وتوثيق وضبط وإتقان، ولأن الرجل أصبح مع الزمن زعيما لقبيلة من قبائل (الهمبكة) لذلك أخذ آل همبكة من النقاد والسينمائيين يتغنون بذكره ويتحدثون عن عبقريته، ولأن عقولنا تم صياغتها على النقل والترديد لذلك أصابتنا آفة (التصفيق الحاد) دون فهم أو وعي، فالعقلية الجمعية تتغلب على فردانية التفكير والتقييم. ولكي لا يكون كلامي (هراء) و (همبكة) لذلك فإنني سأدخل إلى الموضوع لأضرب لكم مثلا على مسلسل من مسلسلات وحيد حامد التي لم تتوقف أكفنا عن التصفيق له، وسنكتشف معا أن هذا المسلسل كان عنوانا للفهلوة والسطحية والتفاهة والركاكة، ولن أجد أمامي أفضل من مسلسل (الجماعة) وسيكون الجزء الأول من هذا المسلسل هو موضوع مقالي.
ولأنني سبق وأن كتبت عن هذا المسلسل في مقال سابق لذلك سيكون تناولي هنا مختلفا نوعا ما، فرغم بشرية (حسن البنا) التي لا تقبل الجدل إلا أن هذه البشرية لا تبرر لأحد كائنا من كان (خلق مسلسل درامي) عنه دون أن يكون الإتقان والدقة والعلمية والمنطقية هى سمته الرئيسي، لا نقبل أبدا أن يكون الحشو والتطويل هو سلاح المؤلف، ولأنه وحيد حامد ولأنهم الإخوان لذلك لن نغض الطرف عن السقطات التي وردت في مسلسل الجماعة (لصاحبه وحيد حامد) سواء كانت سقطات تاريخية أو لغوية أو دينية أو درامية، وقد نصم آذاننا عن أخطاء فادحة في حوارات المسلسل التي جرت بين السفير البريطاني وحسين سري باشا حين خلط السفير بين علي ماهر وأحمد ماهر، وسنقول حينئذ في تبرير هذا الخلط إن (الإثنين إخوات)، وقد نتغافل عن الخلط الذي أجراه المؤلف على لسان رجال البنا حينما قال أحدهم للبنا في حوار ساذج بعد أن أصبح حسن صبري باشا رئيسا للوزراء: من هو صبري أبو علم يا فضيلة المرشد؟! مع أن صبري أبو علم غير حسن صبري، وسنضع ماءً في أفواهنا حتى لا تنطلق ألسنتنا تعقيبا أو رفضا لتك الأخطاء الغريبة التي وقع فيها الكاتب والمؤلف والأديب حين جعل البنا يقول لمحمود عبد الحليم : (أريد للتنظيم الخاص رجالا أكفّاء من الناحية البدنية) بعد أن وضع الشدّة المغلظة على فاء الأكفّاء مع أن معناها في هذه الحالة سيصبح (رجالا عميانا) لأن أكفّاء التي عليها الشدة هى جمع كفيف أما جمع كفء فهو أكفاء دون شدّة.
وإذا كان تصوير الشخصيات ورسم ملامحها يدخل في باب الدراما – إذ أن الشخصيات تساهم في تصاعد الأحداث أو تشابكها – فإنني قطعا لن أتحدث عن السطحية التي رسم بها المؤلف شخصية الملك فاروق – لصاحبه وحيد حامد – الذي ليس عنده إلا أن يقول لعلي ماهر تارة: أنا مش بحب مصطفى النحاس، أو يقول له تارة أخرى وهو يتأفف: أنا مش بحب الراجل ده!، وحين جلس الملك مع النقراشي الذي أوضح له خطورة الإخوان قال الملك ببلاهة: ياااه أنا ما كنتش عارف أن الموضوع بالخطورة دي!!، وبطبيعة الحال لن أعقد مقارنة هنا بين شخصية الملك فاروق التي رسمها وحيد حامد وشخصية الملك فاروق التي رسمتها المؤلفة (لميس جابر) في المسلسل الذي كتبته والذي تم عرضه منذ أعوام عن الملك فاروق، إذ أن المقارنة لن تكون في صالح مؤلف مسلسل الجماعة على الإطلاق، كما أنني لن أعقد مقارنة أيضا بين شخصية مصطفى النحاس التي أداها أحمد راتب في مسلسلنا وشخصية النحاس التي أداها الممثل القدير صلاح عبد الله في مسلسل لميس جابر، ولن أظلم الممثل القدير أحمد راتب رحمه الله لأنه كان يؤدي الشخصية وفقا لما جادت به قريحة وحيد حامد.
ولأن وحيد حامد لا يعرف الإخوان ولم يعرفهم طيلة حياته لذلك عرض علينا في مسلسله نوعية غريبة من الإخوان لم نرهم في حياتنا، ويبدو أن هذا التصوير ساهم في خلق ذهنية لدى المشاهدين ظلت فترة من الزمن تظن أن الإخوان يختلفون عن إخوان 25 يناير وما بعدها، وأظن أن هذه الذهنية كان لها الدور الأكبر في نجاحهم في الانتخابات، فإخوان المسلسل غير إخوان الحقيقة، ورغم تجاوزي عن بعض الهنات إلا أنني اعتراني بعض الاستغراب، كان الاستغراب الأول حين استمعت في المسلسل إلى تلك اللغة التي يضعها المؤلف على لسان الإخوان، فهي لغة عربية غريبة على الأذن، وكأننا نشاهد فيلم (فجر الإسلام)، وهي لغة أقوام لا يعيشون بيننا وإنما يعيشون في قرون مضت، تعجبت حين قال الممثل سامي مغاوري الذي يقوم بدور المرشد السابق مهدي عاكف لأحد الإخوان الذين يصلون خلفه: انتظرني هنيهة وسأجلس معك بعد قليل!!، تخيلت وقتها أن أحدهم سيقوم من وراء ستار ويقول لنا: ما بالك يابن حلزة ويح هؤلاء الذين يجلسون على قارعة الطريق!!.
واسترسالا في اللغة العربية التي سيطرت على مخيلة المؤلف وجدت طالبا إخوانيا في المسلسل يجيب على أسئلة ضابط أمن الدولة بلغة عربية لا مبرر لها، طالب دخل الإخوان منذ ما لا يزيد عن عام، يتم القبض عليه لأول مرة في حياته فيظل رابط الجأش وهو في دهاليز أمن الدولة، بل ويزداد حرصه على الرد على أسئلة الضابط بلغة متقعرة كوميدية بلهاء، تذكرت حين رأيت هذا المشهد الفنان عبد المنعم إبراهيم ـ رحمة الله عليه ـ وهو يقول لإسماعيل ياسين في أحد أفلامه: أساس بالسين أم بالثاء.. أو وهو يصيح قائلا في مواجهة الفنان عدلي كاسب حين هدده بسكين حاد: الغوث الغوث !! .
ويبدو أن وحيد حامد وقع أسيرا في تلك اللغة التي وضعها من قبل على ألسنة أفراد الجماعات الإسلامية في أعمال سابقة له، والفارق كبير بين هذا وذاك، فرغم أن أفراد الجماعات الإسلامية يتحدثون هم أيضا كما يتحدث باقي خلق الله إلا أن الناس كانوا يجهلونهم فكان من الطبيعي أن يصدق الناس دراما وحيد حامد عنهم وتنطبع في ضمائرهم صورة المتطرف الإسلامي على أنه هو صاحب الجلباب الأبيض واللحية الكثيفة واللغة العربية المتقعرة.
ولأن السيناريست وحيد حامد يكتب عن جماعة يجهلها تمام الجهل لذلك غاب عنه ما لا ينبغي أن يغيب، ولأنني أعلم أننا في فنوننا لم نصل إلى درجة الإتقان والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة لذلك لم استغرب من بعض الهنات التي ازدحم بها هذا المسلسل، وكان من هذه الهنات مثلا منظر باب شقة أحد الإخوان ـ لابد أنه خيرت الشاطر ـ والذي يمثل دوره عبد العزيز مخيون إذ ظهر أعلى الباب خرزة زرقاء !!، في حين أن الإخوان لا يضعون على أبواب بيوتهم إلا أدعية دخول المنزل، وحين ختم الإخواني بهجت السوّاح ـ عبد العزيز مخيون ـ وهو في محبسه بأمن الدولة الصلاة كإمام لإخوانه المحبوسين معه قال لهم: حرما يا إخوانا، فقالوا له: جمعا إن شاء الله، في حين أن الإخوان لا يقولون حرما أو جمعا ولكنهم يقولون بعد الصلاة: تقبل الله، فيقول الآخرون : تقبل الله منا ومنكم.
ومن ناحية أخرى يظهر عجز الكاتب عن مواجهة أفكار الإخوان، فنحن لا نصنع مسلسلا عن الجماعة لنحكي قصة حياتهم، فأي صغير يعلم أن الدولة طالما أنتجت مسلسلا عن الإخوان فما ذلك إلا لكي ترد على أفكارهم وتفضح إرهابهم، ومما لاشك فيه أن من أخطر الأشياء أنك حين تعجز عن الرد على أفكار خصمك أن تقوم بمسخها وتشويهها فلا يظهر منها شيء يستحق الرد عليه.
أما عجز المؤلف ـ أو جهله ـ فيبدو واضحا من خلال ذلك المشهد الذي تدور فيه مناقشة بين المرشد السابق مهدي عاكف مع الممثل صلاح عبد الله الذي يقوم بدور الأستاذ عبد الحميد يونس والد أحد طلبة الإخوان، أو ذلك المشهد الثائر الذي يدور بين الأب صلاح عبد الله والابن المقبوض عليه في أمن الدولة ، فعندما سأل الأب ابنه ما أهداف جماعتكم قال الإبن ببلاهة: لا أعرف !! .
ويظهر عجز المؤلف جليا من خلال ذلك المشهد الذي يظهر فيه الإعلامي وائل الإبراشي وهو يقوم بدوره كمذيع فضائي ـ نسبة إلى الفضائيات ـ يستضيف أحد الإخوان أطلقوا عليه الدكتور عطية التلباني .. فتحدث التلباني وكأنه أحد فتوات الحارات الذين يجهلون أبسط أو أتفه الأفكار!!، يقول له الأبراشي: ماذا تريدون فيرد التلباني بفجاجة: نريد حكم الدين، فيقول الأبراشي: تريدونها إذن دولة دينية فماذا ستفعلون في مؤسسات الدولة المدنية مثل الفن والسينما والبنوك وغيرها؟، فيرد التلباني بلغة عامية ركيكة ـ وهذه من مفارقات المسلسل ـ وكأنه لا يعرف شيئا عن شيء: وقتها يحلها حلاّل !!.
هذا جزء من كل، ولو أردت لكتبت عن كل حلقة من حلقات المسلسل، وإذا أردت التأكيد لكتبت لكم عن الفهلوة والسطحية في كل فيلم ومسلسل كتبه لكم زعيم بني همبكة، ولكنني فقط كنت أضرب مثلا عن أعمال زعيم قبيلة بني همبكة التي اعتبرت الفهلوة والتلفيق هى فلسفتها في الفن، وكم جنت الهمبكة على الفنون ولكن أكثر أهل الفن لا يعلمون.