بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
اختيار كلمه (جدر) نابع من الأصاله والمعني من ارتباط الجدر ببطن الأرض ويرتفع كالنخيل إلى عنان السماء منتصباً شامخاً .. هكذا بعض النجوم في كل مجالات الإبداع.
(صلاح السعدني) لمن لا يعرفه ممثل قلما يجود به الزمن علي فترات متباعدة، فكما محمود المليجي وصلاح منصور وزكي رستم في السينما المصرية نجد (صلاح) منذ فيلم الأرض ليوسف شاهين والقدير عبد الرحمن الشرقاوي، أبدع السعدني وكان في الأرض ممثلاً وكأنه نبت الأرض السعدني. يمتص الدور ويتفصده أداء فيتحرك به ويرتدي ملامحه، وأتذكر له علي الخصوص تقمصه لشخصيه العمدة سليمان غانم في رائعة العظيم أسامة أنورعكاشة (ليالي الحلمية) .. كيف يجلس وكيف يتحرك ويخرج لغته المعجونة بمحض النغم الريفي المميز، ثم كيف يضع العباءة على كتفه بطريقه يعرفها أبناء الريف والباحثين عن أدق تفاصيل التقمص.
فقط صلاح السعدني يستطيع وكما جلس العملاق صلاح منصور بالوضع الصحيح أمام سعاد حسني وهى تصب له الماء من الإبريق للوضوء، وكذلك حين تعلم ودرس العملاق (أنطوني كوين) كيف يتوضأ قبل تنفيذ حكم الإعدام في فيلم (عمر المختار) للقدير (مصطفي العقاد).
إنها دارسه التفاصيل والذهاب إليها لأقصي درجات التقمص الواعي الذي يفتقده كثير من نجوم التمثيل وبعد أن أصبح مهنة تعتمد في كثير من الأحيان علي الجمال والقدرة على التواجد في كل الأماكن والحفلات، وسبقت كلمة (نجم) كثير من أسماء طيبه فناً وثقافة، وتلك نتيجه لحالة النقد الانطباعي واللا فرز الذي نعيشه.
فالنقد أساس للإبداع في كل مناحي الفنون، فنجد الدول المتحضرة تعرف قيمة مبدعيها فالسير (أنطوني هوكبنز، وآل باتشينو، وروبرت دي نيرو، وجاري أولد مان) هؤلاء جدور للتمثيل، يعرف قدرهم النقاد والمبدعين وعليه هم نجوم شباك بالمعني الحقيقي لكلمة Box office، هكذا صلاح السعدني يستحق الاحتفاء.
أعرف (الجدر صلاح) منذ سنين طوال فهو بعد منتصف الليل جالساً علي كافتيريا سوق الحميديه بباب اللوق مركز تجمع مبدعي ومفكري مصر آواخر السبعينات (صلاح چاهين ويوسف إدريس وأمل دنقل ومدكور ثابت وعلي سالم)، كنت لم أتجاوز السابعه عشر من عمري وأذهب مع (محمد نوح) شقيقي الكبير، وأشاهد (صلاح السعدني وعبد الرحمن الشرقاوي)، وكم كبير من العظماء فناً وعقلاً وإبداعاً.
في أحد معارضي التشكيليه حضر (صلاح السعدني) مع الصديق الكاتب (كرم النجار ودكتور مصطفي الفقي والقدير يحيي الفخراني)، وكثير من نجوم الفن، وأخد (صلاح السعدني) يتجول في المعرض وكنت بجواره ثم وقف أمام لوحه لرجل عجوز تجاوز الثمانين وسألني: مين ده أنا حاسس انك بترسم الريف بشكل رائع يا سحس؟، ولاحقته أنا جذوري من الريف (كوم حمادة بحيرة) والراجل ده بالذات هو جدر وجد كل المصريين، في كل أسره هو الجد أو جد الجد، ولذلك اسم اللوحه (مصر)، أخبرته أنها ليست للبيع، هى الوحيدة التي احتفظ بها أمامي في مكتبي ولا يمكن أن تباع، دي مصر الغاليه والجدر الأصيل، وقف صلاح أكثر من عشر دقائق أمامها وهو يردد: سليمان غانم نفس النظرة ونفس الملامح.
هكذا (صلاح السعدني)، وهكذا المبدع يشعر بالفن التشكيلي ويستمتع بالشعر ويتذوق الموسيقي وينتعش بالجمال، تلك صفات المبدع الحقيقي وتلك صفات العملاق (صلاح السعدني) الذي أراه يستحق كل التقدير الاحترام، فهل لنا أن نكرم هذا القدير بإطلاق اسمه علي إحدي منابر الثقافة أو الاستديوهات أو دور العرض، إنه استحقاق لرجل عاش حياته لفنه ويعرف قدره عظماء النقد الحقيقي.
إنها دعوة للتصالح مع الحقائق الفنيه التي أثرت الإبداع وسجلت اسمها بحروف من دهب .. مصر ثرية بمبدعيها ومثقفيها وتاريخها السينمائي منذ أكثر من مائة عام .. حفظ الله الجدر العملاق (السعدني) وحفظ مصر الغاليه العريقة .. مصر تنطلق مصر تستحق.