كتب : حسين نوح
كثير مما يحدث في المشهد الفني المصري على الشاشات هو وبكل صدق أقل بكثير مما تستحقه مصر، وهذا الذي يحدث جعل الدولة تسبق الإبداع والفنون وهو عكس المطلوب والمنوط بالفنون أن تفعله.
حين يتابع أي عاقل ومحب لبلده، ويدرك قيمة الفنون والإبداع والدراما علي العقل الجمعي والمتلقي في مصر للأسف تتملّكه الدهشة التي قد تصل للحزن كما حدث معي.
نعم فأنا من الجيل الذي شاهد، وأدرك ما قدمته الفنون للتنوير، والتوعية في تلك المرحلة، وهنا نتذكر سينما، ومسرح، وإعلام الستينيات والسبعينيات والثمانينيات.
كانت لدينا أعمال تقوم بدور كبير للتوعية، وإعمال العقل، وتقوية الانتماء وظهر ذلك في كل مناحي الفنون، وفي الإذاعة، والتليفزيون، والمسرح، والسينما.
ونتذكر معاً من برامج الإذاعة برامج عظيمة: (علي الناصية) لآمال فهمي علي البرنامج العام، و(كلمتين وبس) للفنان الكوميديان فؤاد المهندس و(إلي ربات البيوت) لصفية المهندس، و(تسالي) للقديرة إيناس جوهر عبر إذاعة الشرق الأوسط، و(قال الفيلسوف) للنجمة القديرة سميرة عبد العزيز، و(همسة عتاب) الذي يتناول الهموم اليومية للمصريين، و(لغتنا الجميلة) لفاروق شوشة، و (زيارة لمكتبة فلان) لنادية صالح، ولك أن تتخيل حين تستمع لضيوف أمثال: (يحيي حقي، ونجيب محفوظ، وأنيس منصور، ومحمد عبد الوهاب، وزكي نجيب محمود، وتوفيق الحكيم، وجمال الغيطاني)، ولنا أن ندرك أثر تلك النوعية من البرامج على المتلقي فنعرف لماذا كان الانتماء والتلاحم والحميمية في المنزل والشارع، ويتسع ويشمل الوطن كله,
ثم تأتي برامج التليفزيون فنشاهد في فترة الصباح برنامج (صباح الخير يا مصر)، الذي يشترك في تقديمه مجموعة من ألمع المذيعين بالتناوب ثم تأتي برامج التوعية مثل: (سر الأرض) ليخاطب الفلاح وجمهور الأرياف، و(نافذة علي العالم)، و(فن الباليه)، و(الموسيقى العربية)، و(أمسية ثقافية) و(حكاوي القهاوي)، و(اخترنا لك)، و(نادي السينما)، و(نجمك المفضل)، و(ندوة للرأي)، وهي برامج تعرض كل الفنون والآداب وتخاطب كل الأذواق.
ثم يأتي دور الدراما التليفزيونية فمن: (القط الأسود، والعسل المر، وهارب من الأيام، والساقية، والرحيل) لعبد المنعم الصاوي، و(الخماسين) لمخائيل رومان، و(بنك القلق) لتوفيق الحكيم وصولاً إلي (ليالي الحلمية، والشهد والدموع) لأسامة أنور عكاشة إلي (محمد رسول الله) لكرم النجار، و(الضوء الشارد) محمد صفاء عامر من إخراج القدير مجدي أبو عميرة، و(رأفت الهجان) لصالح مرسي وإخراج يحيى العلمي، تلك فقط نوعية لبعض ما قدمته الدراما التليفزيونية لكتاب عظماء يدركون أثر ما يقدمونه للمشاهدين في كل مناطق مصر بل والعالم العربي، ومن هنا كانت الريادة لنا.
ثم نأتي إلي السينما والتي يعرف الجميع أننا ثاني سينما في العالم بعد السينما الفرنسية حين جاء الأخوة لومير إلي الإسكندرية سنة ١٨٩٧م.
لقد كانت السينما المصريه تشارك القطن في الدخل القومي، وكان ذلك من خلال أفلام لكبار الكتاب أمثال طه حسين في (دعاء الكروان)، وثروت أباظة في (شيء من الخوف)، ويوسف إدريس في (الحرام)، وعبد الرحمن الشرقاوي في (الأرض)، و(الثلاثية) لنجيب محفوظ، و(ردقلبي) ليوسف السباعي، و(الوسادة الخالية) لإحسان عبد القدوس، وقد كان للدولة دور من خلال (المؤسسة المصرية العامة للسينما) بأن أنتجت أفلاما تليق باسم مصر، ومثلت السينما المصرية في معظم المهرجانات الدوليه كما حدث مع فيلم (المومياء) لشادي عبد السلام، و(الثلاثية وميرمار) لنجيب محفوظ.
تلك نوعية من أعمال قدمت للسينما أفلاما حلقت في أفق العالم العربي وساعدت علي تميز وحب اللهجة المصرية بل وساعدت علي جذب السياحة العربية إلى مصر هوليود الشرق، وتجاوزت السينما هذا إلى أهداف أكثر عظمة عندما ساعدت ودعمت حركات التحرر الوطني في بعض الدول مثل الجزائر فأنتجت مصر فيلم (جميلة)، وقدمت فيلما عن الثورة اليمنية ضد نظام الإمام المتخلف
وهنا يُطرح سؤالٌ:
هل ما يقدّم الآن للجمهور المصري والعربي من أعمال يرتقي إلي هذا التاريخ الإبداعي والمستنير في السينما والتليفزيون؟
للحق توجد أعمال عظيمة ومشرفة وتستحق كل التقدير مثل الأعمال التي كتبها (العظيم وحيد حامد، ود/ مدحت العدل، ومحمد صفاء عامر، وأسامة أنور عكاشة، وكرم النجار، ومحمد جلال عبد القوي، ومحفوظ عبد الرحمن، وكوثر هيكل، ومجدي صابر)، وكثيرون لكن ليس بالقدر الكافي والمؤثر فغالبية الأعمال ينطبق عليها الاستسهال، وعدم العمق، والتسطيح، والبحث عن كوميديا ساذجة بغرض السيطرة علي جماهير العشوائيات التي أدركت الدولة خطورتها وعملت بكل الجهد من أجل التخلص منها.
هل آن لنا أن نعمل علي تقديم فنون تساعد علي إعمال العقل، ونبذ العنف، وتقديم قيم الانتماء والتآخي، والمحبة، والبعد عن أعمال تكرّس للبلطجة، والانحراف، والعنف.
مصر في أشد الحاجة لفنون واعية، ولمبدعين حقيقيين يدركون أهمية الإعلام والفنون علي العقل الجمعي والمواطنين.
كفانا كوميديا ساذجة أنتجت فنانين أكثر سذاجة، كفانا مسابقات للتسلية لاقيمة لها.. كفانا إعلاما يستخدم المايك كمسدس للسيطرة على الضيف.. كفانا برامج الأطباء المدفوعة الأجر وإعلانات تسويق الكذب والتخلف.. كفانا استضافة نجوم أغاني المهرجانات.
ولا يجوز أن تمثّل مصر تلك الفنون خارج حدودها اتركوهم يعملون لكن ليس من خلال إعلام الدولة المصرية الرسمي….. لا يجوز.
كفانا أفلام الشقق والفيلات وحواديت ساذجة بأنصاف النجوم وفتيات الإعلانات والنفخ والمساحيق إنه نوع جديد من أفلام المقاولات التي تخلصنا منها.. كفانا استضافة فتيات الدجل في الإعلام.
لقد تحوّل التمثيل في مصر إلي مهنة كل جميلة وحبذا لو وضعت العدسات الزرقاء وكشفت عن مفاتنها، وكذلك الغناء أصبح مهنة من لا مهنة له لكل شاب نشيط جريء وقادر علي ارتداء السلاسل والملابس الملفتة وفجأةً… تجده في الاستديو يغني غناءً ما أنزل الله به من سلطان، وتجد مهندس الصوت يدخل صوته علي أجهزة (الكومبريسور)، وكذلك معظم مؤديي المهرجانات يغنون (بلاي باك أو سيمي بلاي باك)، والنتيجة هذا هو الغناء المصري ولا عزاء لعبد الوهاب، وأم كلثوم، وفريد، ووردة، وفايزة أحمد، ومحمد قنديل، وغيرهم.
سنحاسِبُ نحنُ وأولادنا علي فواتير تقديم التسطيح في علب الاسكتشات، والاستهبال، والاستخفاف.
كيف بالله عليكم في دولة تنطلق وبقوة وتحاول في كل المجالات، وحكومة تواصل الليل والنهار وجيش يجعلنا نشعر بالأمان الجيش الذي أصبح أكبر قوة في الشرق الأوسط بترتيب الثاني عشر علي العالم.
هل لنا أن نتذكر كيف كنا نضع الأبواب الحديد لنحمي أولادنا وما حدث لدول عربية كبيرة حولنا.
هل نقبل ونوافق على ما نشاهده من برامج معظمها مجرد تسلية وفقاقيع بلا أي مضمون ويترك الشباب للإعلام الصارخ ليلاً وفتايات الحديث عن تفسير الأحلام والفاشون والجمال والباذنجان وبرامج الطبيخ، ومعظمها بعيدة عن ما يأكله معظم أهالينا وخاصةً في الأقاليم والأرياف.
ينطلق الشباب إلى مشاهدة المنصات مثل (نتفليكس) وما تقدمه من مواضيع الهدف المباشر منها فقط الوصول لأكبر عدد من المشاهدين، فنشاهد أعمالا لا يرضى عنها البعض فيتحول إلى الواعظ، والمرشد، والمستنير، والمحافظ علي القيم، والتقاليد.. كيف بالله عليكم ما هذه الازدواجية؟
ضع وجهك في محطاتك وامسك (الريموت) في يديك ولا تشترك في منصة أمريكية تغضبك وتقدم عملا مصنفا للكبار، وعليه معايير للمشاهدة وقد قبلت بها حين بدأت المشاهدة، لكن تشترك وتواظب علي دفع الاشتراك و(تتأنتخ) ثم تأتي علي شبكات التواصل تشجب وترفض وتعيش دور المصلح، فإن هذا لهو العجب العجاب وتتحول القضية الي مادة لبرامج المساء ويالها من مادة تحمل كل توابل التراشق والقادمة من مجتمعات تجاوزت تلك القضايا الخلافية، لكن وكما قال المتنبي: (مصائب قوم عند قوم فوائد) فيزداد الصراخ والمداخلات بين موافق ومتعصب ومدافع ثم تزداد نسب المشاهدة وتستفيد المنصة المغضوب عليها يا صديقي المناضل الطيب.
الحل يا سيدي – بوضوح – هو أنك لا تجدد اشتراك في النتفليكس وهى لن ترفع عليك دعوة بسبب توقف اشتراكك.
ما تراه يزعجك أغلقه وتحول عنه بالريموت وشاهد ما يناسبك… وأنا أضمن لك ألا يزعجك أحد.
كانت السينما دائما تقدم أعمالا لا يتفق عليها العقل الجمعي في مجتمعات متباينة الثقافات، وما تراه قبيحا قد يراه الآخر بديعا، وقد استخدم المخرج الإيطالي الواعي فكرة كسوف القمر والقصد هنا أننا جميعا لدينا نصف أبيض ونصف أسود.. وهكذا الحياة ميلاد وموت، سعادة وحزن، صحة ومرض… إنه الأبيض والأسود.
والمطلوب هو تنمية الوعي وهذا دور يقوم به المنزل من خلال دور الأم والأب والتعليم والمدرس الواعي والثقافة والإعلام، والتنوير، والفنون التي تحمل قيما وأبعادا يستقيم بها المجتمع، وقد كتب عن ذلك في الثلاثينيات العظيم طه حسين في كتاب (مستقبل الثقافة في مصر).
العالم كله أصبح على الهواء والمنصات قادمة وبقوة فلا تشترك، واختر ما تحب أن تراه وضع قوانين للمشاهدة في منزلك وتأكد أن منع نتفلكس لن يقضي علي مشكلتك فالقادم كثير من منصات ولا سبيل للمنع.
فقط مطلوب إنتاج فنون تساعد علي إعمال العقل وفي وجود العقل لا تحتاج الي منع ولا شجب ولا تلاسن.. استخدم عقلك، فالسمك لا يستطيع أن يغير في المحيطات والبحار ولا الحيوانات تستطيع أن تغير في الغابات، فقط الإنسان هو القادر على التغيير بالعقل وهو نعمة الله علينا.
مصر تنطلق.. ولا يستطيع لا فيلم ولا ألف أن يغير في أمة لها تاريخ طويل وفنون عريقة منذ أكثر من سبعة الآف سنة.. مصر تنطلق.. ومصر تستحق.