كتب : محمد حبوشة
عبر أداء احترافي فائق الجودة استطاع (قصي) أن يتقمص شخصية (وزير) في مسلسل (بارانويا) على نحو مغاير على المستوى العربي ليقدم نوعا من السايكو دراما بالغة الدهشة على غرار ما قدمه الممثل المصري القدير (محيي إسماعيل) مع اختلافات كثيرة في الأداء من خلال شخصية تعاني من (اضطراب الشخصية المتعلق بجنون الارتياب)، وهو نوع من أنواع الأمراض النفسية التي يتحول فيها الشخص إلى شخص غريب الأطوار، وعندما نقول شخصا غريب الأطوار فإننا في هذه الحالة لا نتحدث عن شخصية طبيعية، وإنما عن شخصية مختلفة كليا وتتصرف بطريقة خارجة عن المألوف وغير عادية، بحيث يبدو سلوك الشخص غريبا جدا بالنسبة للآخرين المحيطين به، ودائما ما يتعاملون مع هذا الشخص بحذر لأنه بالنسبة لهم (شخص غريب الأطوار).
تجليات الأداء الاحترافي بالغ الدقة رسخت في ذهن المشاهد أنه (وزير) الذي يعاني من (البارانويا) لا يرى أنه شخص غير طبيعي أو يعاني من اضطراب ما، حيث يعتبر أن سلوكه طبيعيا جدا، وعادة فإنه كمريض يتعامل بطريقة فظة مع الآخرين وبطريقة معادية لهم وساخرة، وكثيرا ما تكون ردة فعل الآخرين قاسية نحوه كذلك، لأنهم يعتبرونه شخصا غير مقبول اجتماعيا فيتهربون منه أو يعاملونه بالعدائية نفسها ويعاملونه بقسوة، خصوصا أولئك الاشخاص الذين لا يدركون أنه مريض ويعاني من مشكلة ما، ومن بين المشاعر التي يشعر بها (وزير) والتي تزيد من اضطرابه، أنه يعتقد أن الآخرين لديهم دوافع خفية وحقيقية لإلحاق الأذى به، كما أنه يكون كثير الشك في ولاء الآخرين له ويعتبرهم غير أهل للثقة، ناهيك عن أن هذا العازف السابق للموسيقى لا يتقبل النقد حتى وإن كان لمصلحته، فهو شديد الحساسية للنقد، ويجد صعوبة في مشاركة العمل مع الآخرين، فهذه الشخصية سريعة الغضب جدا وسرعان ما تتحول إلى شخصية عدائية، منفصلة أو معزولة اجتماعيا.
أدى (قصي) في ثاني أعماله المثيرة للدهشة بعد مسلسليه (2020، لاحكم عليه) دوره بإحساس عال، وطبع أحاسيسه على وجهه، بريق عينيه عندما يغضب، نظراته الحادة إلى حد بث الرعب في عيون من يقتربون منه، ليبرهن على أنه أكثر من مبدع في هذا الدور، ويؤكد مرة جديدة أن أداءه التمثيلي يفوق الشكل، والشخصية مهما كانت فقيرة أو غنية، طيبة أو شريرة، بسيطة أو ذكية، فإنه يعطي الدور حقه، ويأخذنا من الخيال إلى الحقيقة، حتى أنه يجعلنا نحب الشخصية وننحاز لها حتى لو كانت شريرة، أو خارجة عن القانون، وذلك عبر شخصية لم يقلد أحدا من الممثلين الذين سبقوه في (السيكو دراما)، بل اخترع مدرسة خاصة به، لذلك أقل ما نستطيع قوله، هو أن قصي خولي أستاذ في الأداء التمثيل البارع.
بدا لي (قصي خولي) بشخصية (وزير) في تعبيرات وجهه وبشعره البني الفاتح الذي يغطي عينيه، ونظراته المشتتة تارة، والواثقة تارة أخرى، يطل علينا بشخصية جديدة يجسدها لأول مرة في مسيرته الدرامية في مسلسل (بارانويا) الذي يسلط الضوء على مرض جنون الارتياب أو جنون العظمة، يجسده بكل إتقان، فيظهر عليه القلق من جميع الناس حوله، وكأنه يعيش في جانب من حياته بلون قاتم، فلا يرى اللون الوردي والملون في علاقاته بالآخرين، وخاصة أنه عازف سوري للموسيقي سابقا، ومن ثم ينبغي أن تتوفر فيه صفات الحساسية المرهفة، وتشاركه البطولة النجمة اللبنانية (ريتا حايك)، بدور (ميلا) التي ظهرت بشخصية جريئة، تمشي بشعرها الأحمر شامخة الرأس، جريئة المظهر وحادة في لهجتها، عيناها تتكلمان قبل لسانها، وشخصيتها المختلفة ظهرت في أدائها، ورسخها الوشم الموجود على ظهرها، الذي يقول (أنا مختلفة) عن غيرى.
كما لفت نظري ثالثهم الممثل جنيد زين الدين في دور (وسيم) الذي كان يتنقل بخفة بين مشهد وآخر، أبدع في مشاهد الريبة والقلق، وبذل قصارى جهده في الأكشن، واختلس بعض المشاهد العاطفية التي ظهر فيها خجولا إلى حد ما، أما الرابع في سلسلة الأداء الصعب فهو (سعيد سرحان) في دور (رواد)، فقد بلغ قمة الإتقان في الأداء متفوقا على أدائه في (الهيبة، وباب الجحيم)، ومن ثم فإن هؤلاء الترويكا بنوا مسلسلا قل نظيره في الدراما العربية التي بدأت تغرد خارج السرب من خلال حلقات (بارنويا) الـ 15 التي تمتعت بالإثارة والتشويق عبر أحداث محكمة صنعها المؤلف والمخرج (أسامة عبيد الناصر)، وساهم في إنجاحها بأداء مختلف الرائعة في دهشتها الإبداعية (داليدا خليل)، وكذلك بأداء هادئ لايخلو من روعة أسرة كل من (سارة أبي كنعان، بيير داغر، وريم نصر الدين)، وفق كل ذلك دعم شركة (الصباح إخوان) في الإنتاج.
شهدت حلقات مسلسل (بارانويا) منذ لحظة البداية وحتى النهاية توتر عالي ومستوى مختلف من الاختبارات والتجارب التي يخضع لها الممثلون عادة، حتى غدا المسلسل ككل أكبر من مغامرة وتصح تسميته بالمجازفة لتكوينه الغريب عما ألفناه مؤخرا في عالم المنصات الرقمية، وتحديدا حقل المسلسلات القصيرة التي تتمتع بخصوصية جعلتها تنجح وتثمر نتائج سليمة ومهمة في غالبيّة النماذج التي مرت، أما (بارانويا) ويا لجمال الاسم وتفرده وكأنه تهمة أو قدر كتب ليس فقط لبطله (وزير) الذي يجسده مغوار التمثيل قصي خولي إنما صفة ملازمة للعمل المربك وللقلق الذي يضعنا أمامه في أصعب لحظات الرهبة والإبهار والشك المضني طوال الحلقات.
المجازفة في عمل كـ (بارانويا) غير عادي، فقد انقسم ليخرج عن المألوف وانفصم بتشكله وفقا لرؤية درامية باحثة عن الاختلاف ونبض إبداعي سريع التجدد، ودم شبابي عابث بالملل يحرك في ركامه روحا باردة خمدت بعد ثورة ما فلحت بانتصار، ولو أنه قد قيل أن المسلسل مستنسخ من الفيلم المصري (الفيل الأزرق)، أو جاء كتقيلد محكم لا يشبه الواقع اللبناني، وهي الفكرة التي بني عليها المسلسل الناجح La casa de pape، ولكن في لبنان ومن دون اقنعة، إنما بتخطيط مدروس بعناية، ذكرنا بمخططات البروفسور وأخيه في السلسلة الأسبانية التي انتهى عرض موسمها الخامس والأخير قبل أسبوعين تقريبا على منصة نتفليكس، خاصة كما جاء في تنفيذ عملية السطو على بنك.
الإشادة هنا تذهب للنص الذي يشرق بعد إضاءات خجولة وما أشقى نصوصنا العربية ولا زالت تعاني من انطواء على اللغة والتنصل منها كأنما التعمق بها مغامرة بغير المسموح وحقنا الوحيد والأول، فقد بدت القصة لي على الأقل جميلة لكنها ليست الأفضل ولا التي لم توجد بعد، إنما النص بطلها الذي ينقذها على صهوة تألق ويحررها في قالب ناضج، يملك من الجرأة كفاية لينظر بقضايا البشر بعمق واهتمام رصده الكاتب الشاب (أسامة عبيد الناصر) بقلب من شرارة وتمرد على النمطية الغالبة على نصوصنا الدرامية التي تعرض حاليا، فهو نص فضفاض والسيناريو مشغول برغبة في خلع الجمل المستهلكة والكلمات المألوفة التي أصبح المشاهد يتوقع ورودها وردودها بين الشخصيات التي تطرح في أعمالنا الدرامية الحديثة.
ربما نباهي باستمرار بدقة قصي خولي لاختيار أدواره التي يعتمد فيها على حذره وتأنيه باختيار النصوص، لذلك نرى بصمات قصي في هذا المجال تصاعدية ففي كل مرة يفاجئنا بشخصية صادمة يلعبها لم يسبق لها أن وجدت، كما جاء في أعماله السابقة (2020، لاحكم عليه)، بحيث يبدو لك (قصي) في النهاية قارئ متعمق وشغوف يتأخر للموافقة على النصوص ويرفض معظم ما يعرض عليه، لذا الحوار في هذا الاختيار الصائب لعب على ما ليس متوقعا يحفزه عنصر المفاجأة وتغنيه الخلفية الثقافية للكاتب وإشباعه النص من حقائق ومعلومات تاريخيّة وأدلة وبراهين قالت كلمتها وعلمت على الزمن كما ورد في سياق الأحداث.
أتوقف بقدر كبير من التأمل أمام المشهد الأول بين وزير ورواد في السجن وكيف استرسل قصي بتفسير أحداث قصته والمؤامرة التي أوقعت به، وإيقاعه الطبيب النفسي بفخ الأسئلة الشفهية ليروي قصة حياة وعذاب الطبيب على أنها قصته، بدت كل الاحتمالات متاحة أمام من لم يعد يملك ما يخسره، عن سابق تصميم وتخطيط جعل (رواد/ سعيد سرحان) طرفا في قضية محكومة بفقدان الأمل، لا خيار سوى القوة ليثبت وجهة نظره، فشاهدنا سجينا مكبلا يفترس خصمه الباحث النفسي ويدين كفاءة اختصاصه، يحطم موقع أمانه لإضعافه وإقحامه في اللعبة بعد السيطرة على مفاتيح حياته ونقاط ضعفه التي أظهرها على نحو فطري.
يقدم (قصي) هنا في مشهد واحد سلسلة من التناقضات التي يحترفها ولا يجيدها غيره، فيحزن ويتجهم ويشرد ويصمت وبعدها يحاور ويناور وينكسر ويتبعثر ويعود فينكمش ويتجانس فيصوب ويسدد ويحسم الجدل بنظرة ثقة ونبرة تأكيد أن ما يقوله سيحصل، تزعجه ابتسامة تقلل من شأنه كجواب بارد على أن ليس لكلامه أي اعتبار، مجرد ابتسامة كان إعلانها تلاشيا لفرصته بالنجاة، والحقيقة أن كل من (رواد/ سعيد سرحان)، و(وزير/ قصي خولي) قدما مباراة رائعة في الأداء على نحو احترافي جعل المشاهد يتحمس لاستكمال جوانب اللعبة الخطرة في سياق الأحداث التي تتسم في مجملها بالإثارة والتشويق.
نقطة القوة في (بارانويا) هى عنصر المفاجأة والتسلسل غير المنطقي للأحداث، الذي ابتكرته اللعبة الإخراجية، اجتهاد ورؤية فنية تفرد بها المخرج وهو نفسه الكاتب فنرى سياقين مختلفين وزمنين يتماشيان سويا من خلال (الواقع الحالي، والفلاش باك)، مرحلة ما قبل السجن أي بعد عملية السطو وهى الماضي في المسلسل، ومرحلة السجن هى الحاضر وفترة انتظار الحكم على وزير وتطابق كل الأدلّة لإدانته، ودخول (رواد) مجبرا في هذه القضية ليحمل مهمة شبه مستحيلة بحصوله على دليل يبرئ المتهم، ويكشف أن هناك مؤامرة أوقعت به في وقت أن أحدا لم يصدق تهيؤات مريض الفصام، وهذا المزيج الدرامي من التشويق والمماطلة مهد بالضرورة لكشف الخلفيات الواضحة لكل شخصية، والإبقاء على حقائق قيد الغموض كلها عناصر أغنت العمل وأضفت عليه صفة المختلف والمثير في آن واحد.
يجدر بي القول أن النجمة اللبنانية الرائعة (داليدا خليل) قدمت عددا كبيرا من الأعمال الدرامية التي لاقت صدى عند المشاهدين، لكنها خاضت أخيرا تجربة اعتبرتها مميزة على قلة مساحة الدور، إذ شاركت في مسلسل (بارانويا) بدور حلمت به منذ زمن وهو الاستعراض، وعن دورها في هذا العمل تقول: اعتبر مشاركتي في مسلسل (بارانويا) تجربة مميزة جدا بالنسبة لي، أولا: لأنه أول تعاون مع شركة (الصباح إخوان)، ثانيا لأن الدور عنى لي الكثير على الصعيد الشخصي، إذ طالما تمنيت تقديم دورا استطيع أن أجمع فيه بين الغناء والتمثيل والرقص، لذلك جاءت شخصية (مايا) في هذا العمل بمثابة (فشة خلق)، وتضيف قائلة: لقد تدربت على مدار أسبوعين مع الصبايا لتفيذ الخطوات الراقصة بإتقان وما قدمته هو تحد لي في مجال عملي.
صحيح أن السوداوية تلف كل جوانب مسلسل (بارانويا) الذي جاء إسم على مسمى، فهو مسلسل يجسد منذ اللحظة الأولى وفي كل مرور، جنون الارتياب بكل تفاصيله، فأسامة عبيد الناصر، الكاتب والمخرج لهذا المسلسل الذي عرض على منصّة (شاهد) ومن إنتاج شركة (الصبّاح) يدخلنا في متاهة لا فرار منها لكنه في الوقت ذاته يكثف الغموض، يشتت الذهن، يتربص الشك في كل مشهد، عمل لا يعالج جنون الارتياب فقط، بل يبرزه ويخيطه ويصقله بـ (فنتازيا) الجنون الإخراجية، حيث يفتح المخرج غرفا غامضة يدخلنا إلى عتباتها، يعرض لنا شذرة من دواخل كل غرفة ثم يذهب بنا إلى غرفة أخرى أكثر سوداوية، يشتت أفكار المشاهد تماما كالممثلين الأبطال، يدخلنا في دوامة التيه وعدم الاستقرار، وينشر عدوى الجنون من الأبطال إلى المشاهد، ولا نقدر أن نفك لغزا واحدا، بل يعمل على تضافر الشك بوتيرة متصاعدة لا تعرف قرارا ولا تهدأ عند أي مفترق.
خلاصة القول: إن (بارانويا)عمل كل ما فيه جديد، الإخراج متعب والنص متعب والأبطال هم أنفسهم متعبين، 15 حلقة مرت ولم نجد في العمل ابتسامة أو مشهد مرح، النكد والسوداوية ليس عنوانا بل مضمونا، الموسيقى المرافقة للعمل زاجرة وتضرب على الأعصاب، الوجوه غاضبة منفرة، كلماتهم مبهمة، أداءهم شر وحتى حبهم شر وسلوكهم شر، وربما لا نجد مكانا للتعاطف مع أي شخصية على الرغم من الأداء الرفيع لهم جميعا، حتى الطبيب الهادئ والطيب لا نشعر تجاهه سوى بالقلق والنفور، ومع ذلك فقد خرجنا بمتعة بصرية مدهشة بعد إتمام مشاهدة حلقات مسلسل قدم الإثارة والتشويق في أبهى صورها، خاصة على مستوى الأداء الذي أكد على حرفية فريق التمثيل.