بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
لمن لا يتذكر، سبق وأن كتبت تحقيقا تاريخيا عن فيلم (آلام المسيح) الذي قيل إنه إيطالي وإنه تم دبلجته باللغة العربية في ثلاثينيات القرن العشرين، وأن الممثل الذي قام بالأداء الصوتي للسيد المسيح هو الفنان أحمد علام، وقد قام بالأداء الصوتي لباقي أبطال الفيلم عددٌ كبير من الفنانين المصريين مثل (عزيزة حلمي وسميحة أيوب وسعد أردش وتوفيق الدقن وعبد السلام محمد وعبد العليم خطاب واستفان روستي) وغيرهم.
وكان عجبي أن كثيرا من النقاد الذين كتبوا عن هذا الفيلم في سنواتنا الماضية لم يدققوا ولم يبحثوا ولم يقفوا عند خطأ هذا التأريخ وخطأ جنسية الفيلم، وإن كان بعض النقاد رفضوا بعض المعلومات التي تم نشرها عن الفيلم وقالوا إن سميحة أيوب مثلا التي قامت بالبطولة الصوتية لم تكن قد تجاوزت السابعة من عمرها، وكان من الأكاذيب التي تم نشرها عن هذا الفيلم أن من قام بكتابة المادة الحوارية الأب (أنطون عبيد)، وراجع المادة العلمية عميد الأدب العربي (طه حسين)، ووافق الأزهر الشريف على عرض الفيلم، مع أن الفيلم مدبلج، فكيف يكتب الأب أنطون عبيد الحوار؟! وكيف يقوم طه حسين بمراجعة المادة العلمية؟! ولكن هذه هى المعلومات التي يعرضها معظم من قام بالتأريخ لهذا الفيلم، والغريب أن من أرخوا لهذا الفيلم لم يهتموا بالحقائق ولكنهم ساروا خلف الأكاذيب المشهورة دون أن يتحققوا من صحتها.
وقد كشفت في التحقيق الذي قمت به أن الفيلم ليس إيطاليا، ولكنه مكسيكي أنتجته المكسيك عام 1954 واسمه الأصلي هو (شهيد الجلجثة) وبالأسبانية: El mártir del calvario ، ولذلك أرجو من عزيزي القارىء المهتم أن يعود لمقالي (آلام المسيح أو شهيد الجلجثة) ليعرف التفاصيل، وسيتضح له أن الأمر كان بالعربي الفصيح سرقة علنية، فالمنتج الذي قام بعرض الفيلم في مصر تحت عنوان (فيلم من إنتاج الشركة العربية للسينما) لم يقم بإنتاج شيء، وأنه من إخراج المخرج المصري فلان الفلاني الذي في الحقيقة لم يُخرج شيئا، ولكن الأمر كان عبارة عن سرقة فيلم وعرضه في مصر بمعلومات مزيفة عن جنسيته وتاريخ إنتاجه حتى لا يعرف المنتج المكسيكي شيئا عن تلك السرقة، وقد كانت (الشركة العربية للسينما) على يقين أن المكسيك لا تعرف اللغة العربية، وأنها لن تفطن للأمر، ولكن الذي حدث هو أن الصحف المكسيكية والأسبانية تحدثت عن تلك الفضيحة فاضطرت (الشركة العربية للسينما) إلى سحب الفيلم من دور السينما ثم أحرقت نسخته الأصلية، لذلك لم يظهر عندنا على اليوتيوب إلا نسخة باهتة مأخوذة من النسخة الأصلية يتم تداولها في الكنائس، ولكن النسخة المكسيكية موجودة بالألوان وبشكل متألق ولكن بالطبع دون دبلجة.
يفتح هذا الموضوع المجال للسرقات الفنية في السينما المصرية، والسرقة غير الاقتباس، فالاقتباس هو استلهام الفكرة نفسها ولكن يتم تناولها بطريقة مختلفة، أو نقلها مع الإشارة إلى مصدرها، أما السرقة فهى تنفيذ الفكرة بنفس الطريقة وبذات التناول مع وجود اختلافات طفيفة أو حتى مع عدم وجود اختلافات دون الإشارة إلى الأصل المأخوذ منه، وأحيانا يكون اقتباس الفكرة وتناولها بشكل مختلف أكثر إبداعا من الموضوع الذي تم الاقتباس منه، أو أن يقوم المقتبس بتغيير بعض الشخصيات الرئيسية، فالأنثى يجعلها ذكرا والقس يجعله شيخا، والأب في رواية يصبح أما في النص المقتبس، وكلنا شاهدنا نسخ فيلم (البؤساء) تأليف فيكتور هوجو سواء كان انتاجه فرنسيا أو أمريكيا، ثم شاهدنا نسختين مصريتين، الأولى بطولة عباس فارس عام 1943 والثاني بطولة فريد شوقي عام 1978 .
ثم شاهدنا اقتباسات عديدة من هذه القصة في أفلام أمريكية وفرنسية، وكان المسلسل الأمريكي الشهير عام 1962 (الهارب) للمؤلف (روي هوجينز) ثم تم انتاجه سينمائيا في الفيلم الشهير(الهارب) بطولة (هاريسون فورد)، والذي أخذ فكرة الفيلم عن ذلك البريء الذي يظل ضابط الشرطة يطارده طوال الفيلم، ونفس الأمر تم اقتباس الفكرة الرئيسية للفيلم وانتاجها في الفيلم المصري (الهارب) بطولة شادية وحسين فهمي وكمال الشناوي، البريء الذي يتم مطاردته طوال الفيل، ولعلنا نتذكر فيلم (في بيتنا رجل) لعمر الشريف وزبيدة ثروت تأليف إحسان عبد القدوس، نفس المطاردة، ونفس النهاية.
ويبدو أن قصة مطاردة إنسان بريء اجتذبت الكثيرين من المؤلفين، فاستلهموا الفكرة، ولكننا نجد تناول إحسان عبد القدوس لفكرة قصته تمت بشكل متميز أضفت أبعادا جديدة على الفكرة، وعموما فإن الاقتباس مباح أن للفكرة ولكن مع ضرورة أن يكون التناول تم بشكل مختلف يضفي ابعادا أخرى إنسانية أو فلسفية أو درامية.
وفي المقالات السابقة كتبت لكم عن اقتباس المؤلف (بشير الديك) لقصة فيلم (المحاكمة) الأمريكي الذي تم انتاجه في مطلع الثمانينات ليصنع منه التناول الرئيسي لفيلمه (ضد الحكومة) دون أن يشير إلى المصدر الذي اقتبس منه، ولا يجدي للمقتبس هنا أن يدافع عن نفسه بقوله إن الأفكار ملك للجميع ومن الممكن أن يحدث توارد في الأفكار، ذلك أن الأمر لا يتوقف عند الفكرة ولكنه يمتد إلى طريقة التناول والمعالجة وبناء شخصيات الفيلم الذي يكاد يكون واحدا.
ومن الأفلام التي تم اقتباس فكرتها قصة فيلم (لا أنام) للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، فقد أخذ قصته من قصة الكاتبة الفرنسية الشهيرة (فرانسوا ساجان) التي كانت بعنوان (مرحبا أيها الحزن) التي كتبتها عام 1954 وكانت وقتئذ في التاسعة عشر من عمرها، ولكن الرواية انتشرت انتشارا واسعا، وتم ترجمتها لعشرات اللغات، وقد أخذها الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس وصنع منها قصته (لا أنام) والحق أنه لم يبذل جهدا ما ليغير طريقة التناول، وتم إنتاجها في الفيلم الشهير بذات الإسم (لا أنام) عام 1957 ، والغريب أن الرواية الأصلية (مرحبا أيها الحزن) لم يتم انتاجها سينمائيا في أمريكا إلا عام 1958 .
ولن نسرد اقتباسات يوسف وهبي ولا غيره من الكبار إذ أن هذه الاقتباسات معروفة لمن كانت له اهتمامات قليلة بالفن ومنها مثلا مسرحية (بيومي أفندي) والتي أصبحت فيلما فيما بعد والمقتبسة من المسرحية الفرنسية (الأب لوبيتر) وكل مسرحيات يوسف وهبي الممهورة بعبارة (تأليف يوسف وهبي) هى في الحقيقة مقتبسة بالحرف الواحد، أو بشيء من التصرف من المسرح الفرنسي أو الانجليزي، ولن نتكلم عن فيلم (شباب امرأة) تأليف أمين يوسف غراب المنقول نصا من رواية (صافو) للأديب الفرنسي ألفونس دوديه.
وقد أصدمك لو قلت لك أن بعض قصص يوسف إدريس التي تحولت إلى أفلام هي الأخرى مقتبسة من قصص غربية، وكذلك سعد الدين وهبة وغيرهما، ومن كبار المؤلفين في العقود الأخيرة كان الراحل الكبير (وحيد حامد) هو أكثر من اقتبس اقتباسات مشروعة، أو اقتباسات غير مشروعة لم يشر فيها إلى المصدر، أو سرق بشكل فج الراحل الكبير وحيد حامد، وقد نفرد مقالا بخصوصه ذات يوم، وأيضا وعلى سبيل المثال الكاتب (أحمد مراد) واقتباسه قصة (الفيل الأزرق) من الفيلم الأمريكي (الواشم) للمخرج بيتر بورجر.
ولكني أصدقكم القول، ليس الهدف من هذا المقال هو تسبيب فضيحة لأصحاب السرقات الفنية، أو للمقتبسين الذين لم يشيروا في أعمالهم للمصدر المقتبس منه، ولا أزعم أنني سأحدثكم عن جريمة سرقة الملكية الفكرية، فالنقل دون الإشارة للمصدر وأخذ إذن منه هو جريمة يعاقب عليها القانون بحسب أن المنتج الفكري ملكٌ لصاحبه لا يجوز التعدي عليه، وسأغض الطرف عن هذا لأتحدث معكم عن مشكلتنا في عقودنا الأخيرة، وهى غياب الإبداع الحقيقي عن معظم المؤلفين، وذلك مع الأسف الشديد، نحن بالعربي الفصيح نعجز عن إنتاج الفكرة، وما ذلك إلا لأن عقولنا جُبلت على النقل، لا على إنتاج المعرفة، نحن أصحاب عقلية نقلية بامتياز، من الممكن أن نبدع في الشعر بحسب أنه جنس عربي أصيل، ولكن الإبداع النقي كان نادرا بخصوص الأعمال الروائية، نذكر من هذا الإبداع من أبدع من كبار كتابنا مثل الرائع توفيق الحكيم، نعم نقل بتصرف بعض مسرحياته ولكنه أبدع في أخريات، حيث أبدع لنا (يوميات نائب في الأرياف) التي لا مثيل لها في تصوير الواقع المصري في فترة العشرينيات والثلاثينيات، وما يحدث في المحاكم وأروقة الشرطة، وأبدع أيضا نجيب محفوظ ولم يستطع أحد أن ينقل عبقريته للشاشة، فلا أظن أن أحدا يستطيع نقل الرواية المعجزة (الحرافيش) للشاشة بنفس الأبعاد الفلسفية والإنسانية والدرامية، ولن يستطيع أحد أن يجسد لنا فكرة (الزمن) في هذه الرواية.
نفس الأمر بالنسبة للمبدع يحي حقي ذلك الرائع الذي أخرجت له السينما (قنديل أم هاشم، والبوسطجي)، وكيف نزل إلى الواقع المصري متمثلا في الحارة في (قنديل أم هاشم) ليصور الصراع بين العلم والخرافات الدينية التي تحولت عند المصريين إلى دين، نفس الإبداع نراه في فيلم (الزوجة الثانية) للكاتب أحمد رشدي صالح والمستمد من أعماق الريف المصري وما يحدث فيه من استبداد العمدة صاحب المال في مواجهة الفلاح الفقير، وفيلم (شيء من الخوف) لثروت أباظة، وفيلم (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوي، وفيلم (المواطن مصري) ليوسف القعيد، كل هذه الأفلام أبدعت عقول مصرية غاية في التميز، وقدمت لنا سينما راقية ترتفع بمشاعر الإنسان.
نعم كان فيما سبق هناك من يقتبس وهناك من يسرق ولكن كان هناك من يبدع ويقدم فكرة جديدة، أما الآن فلا نرى إلا من يقتبس دون أن يشير إلى المصدر الذي اقتبس منه، أو يسرق سرقة علنية دون أي خجل، ويا لحمرة الخجل.