ومن الفنانين أيضاً تجار دين
بقلم : محمود حسونة
تتعدد الأسباب وراء اعتزال الفنانين؛ وتتعدد أساليب إعلانهم عنه، فالبعض يؤثر الانسحاب في هدوء، والبعض يريد أن يحدث به صخباً وضجيجاً. ويرجع ذلك غالباً إلى الهدف الذي يبتغيه هذا أو ذاك من ورائه، فمن كانت نواياه خالصة وقراره حاسماً يميل للانسحاب من الحياة الفنية في صمت، ومن كان متردداً ينعكس تردده على أسلوب إعلانه، ومن له في الأمر مآرب أخرى يكون حرصه على أن تحقيق مآربه عبر أسلوب إعلانه.
لم أكن أعرف الفنان الأردني (أدهم النابلسي) من قبل، وقد يكون ذلك نتيجة تقصير مني، كما أنه قد يكون نتيجة أنه مجرد اسم أو رقم في قائمة الفنانين العرب غير المؤثرين، وهى قائمة أصبحت طويلة ومزدحمة بالأسماء التي تتواجد في حياتنا من دون بصمة تميزها عن غيرها، الذين يمرون علينا مرور عابري السبيل أو عابري الفن الذين يتزاحمون على الشاشات من دون أن يبصرهم سوى نفر قليل من الناس.
بعد أن أطل قبل أيام على مواقع التواصل الاجتماعي ليعلن قرار اعتزاله الفن، أصبح ملء السمع والبصر، وحقق من الشهرة في أيام ما عجز عن تحقيقه في سنوات، وتسابقت عليه المحطات التليفزيونية المفلسة والتي تبحث عن الزبد الذي يذهب جفاء ولا ينفع الناس في شيء، ليهرول الجاهلون بفنه إلى اليوتيوب باحثين عن أغنياته أملاً في أن يجدوا لديه ما لم يجدوه عند غيره، وبذلك يكون قد جدد شهرته، من دون أن يدرك أن هذا الأمر لن يضيف إليه جديداً، خصوصاً أن معظم الجاهلين به إما أنهم من المتخذين موقفاً من الفن وأهله بشكل عام، وإما أنهم يبحثون عن فن مختلف وأوفياء لأصحاب المواهب الحقيقية والرافضين للمقلدين لغيرهم والمدركين أن الصورة لن تكون أبداً في نقاء وجمال وعظمة الأصل.
الحياة خيارات، وكل منا يسلك الطريق الذي يراه مناسباً له، وقد يختار البعض طريقاً لا يكون ممهداً أمامه، فيضطر إلى تغييره بعد أن يقطع شوطاً أو أشواط في طريقه الأول، حتى يستقر على طريق مناسب يكمل فيه رحلته، والتغيير أمر مشروع ومكفول لكل إنسان، إنما الوصول إلى بر الأمان لا يتحقق إلا لمن يمتلك الوعي والحكمة في الاختيار، وينبذ العشوائية في القرار، وإلا سيكون مصيره التيه بين الطرقات والخروج من الحياة وكأنها لم تكن.
بعض الفنانين تاهوا بين الطرقات، وبعضهم قام بتغيير طريقه ولم يجد ذاته ليعود إلى طريقه الأول، ولكنها تكون دائماً عودة العاجز الغير قادر على تحقيق ذاته لا هنا ولا هناك، ولنا في الفنانات والفانين الذين تركوا الفن وقالوا فيه ما في الخمر ثم عادوا إليه صاغرين أسوة، والأمثلة كثيرة، فبينهم من عاد أو عادت بعد أشهر وبينهم من عاد أو عادت بعد سنوات، ولكنهم جميعاً عادوا إلى مكان ومكانة أدنى مما كانوا عليها قبل الاعتزال، ومعظم العائدين كانوا ممن أحدثوا صخباً وضجيجاً عند اتخاذهم قرار الاعتزال. أما من انسحبوا في هدوء فواصلوا رحلتهم بطمأنينة في طريقهم الجديد، هم هؤلاء الذين كان قرار اعتزالهم يقينياً ولم يكن سوى لمرضاة الله عز وجل، واتخذوه من دون أي نوايا للإساءة لغيرهم ممن لا يؤمنون بأن الفن حرام.
العلاقة بين الفن والدين ستظل علاقة جدلية، وكل من يريد إثارة الكثير من الجدل يذهب إلى هذه المنطقة الشائكة، وهكذا فعل أدهم النابلسي، وكثيرنا يعي أن الفن المبتذل المنحط المحرض على أي رذيلة الخالي من القيم والمدغدغ للمشاعر والمثير للغرائز منبوذ من أسوياء البشر، ومن الطبيعي أن ترفضه وتحرمه جميع الديانات السماوية، أما الفن الهادف الداعي للارتقاء بالمشاعر والقيم والمحرض على الفضائل فإنه يسمو بالإنسان ويكرس إلتزامه الديني والوطني والاجتماعي، وهي أمور يحتاجها البشر بعد طغيان القيم المادية والحسية على حياتنا وتهديدها للمستقبل البشري.
لا ننسى أن الفن قدم لنا أعمالاً عن السيرة المحمدية وسير الأنبياء والمرسلين والصحابة والعلماء ومن خلاله تعرف الكثيرون على سير وإنجازات العلماء والعظماء في التاريخ الإنساني، وعبره تعرفنا على فصول في حياة أوطاننا ومعارك خاضها جنودنا وبعضهم قدم حياته فداءً لنا وحفاطاً على استقرار الوطن ومستقبل أولادنا وأحفادنا، وسير قادة صنعوا مجدنا عبر التاريخ. فالفن إذا أراده صناعه هادفاً سيكون بناءً وإذا أرادوه مبتذلاً سيكون هداماً.
مثلما في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية من يتاجرون بالدين ويتخذونه وسيلة لتحقيق مطامعهم السلطوية والدنيونية، فإن بين الفنانين أيضاً تجار دين يتخذونه وسيلة لكسب مشاعر القطيع من البشر الذين ينقادون وراء كل كلمة يقولها أي شخص حقق قدراً من الشهرة، من دون إعمال العقل لتمييز الخبيث من الطيب في القول والفعل.
من حق (أدهم النابلسي) أن يعتزل، ولكن ليس من حقه أن يجعل من نفسه رجل دين يلقي باتهامات للفن الذي يحتمل الصواب والخطأ، كما أنه ليس من حقه أن يثير الناس على غيره من المتمسكين بالفن مهنة لهم، ونتمنى أن يكون قد اتخذ القرار الصائب حتى لا نفاجأ به عائداً مثلما فعل غيره من قبل.
mahmoudhassouna2020@gmail.com