بقلم : حسين نوح
حين أردتُ أن أبحث عن سبب اهتمامي بالمعرفة، وسبب تنوع اهتماماتي في شتّى الفنون والآداب من موسيقا، وديكور، وفن تشكيلي، وكتابات أدبية وصحفية وأحيانا في فن الإخراج.
ما السبب؟
سألني أحد الأصدقاء، ونحن نغادر صالون (ريتا بدر الدين الثقافي) بنادي ساويرس، فأجبته وباختصار عن ظروفي واحتكاكي الدائم بالعقول الباحثة في كل مناحي الحياة، ومرافقتي منذ نعومة أظافري لشقيقي الفنان محمد نوح وصالونه الدائ.
بداية من جلسات سوق الحميدية بميدان التوفيقية ومشاهيره من أمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وصاحب المدد إبراهيم رضوان، ومدكور ثابت المخرج المستنير، ويوسف إدريس، وعبد الوهاب مطاوع، ورخا الرسام، ويوسف فرنسيس وجلسات أحمد زكي، ويونس شلبي، وسعيد صالح وحسن مصطفي وكثير من المبدعين والمفكرين والفنانين وكانت تمتد الحكاوي دائما حتي مطلع الفجر، كانت تلك الإجابة كافية لصديقي عضو صالون مدام ريتا، والمشارك الدائم لي في جلساتي بمرسمي بالميرغني.
لكن حين دخلتُ عربتي واعتليت كوبري (6 أكتوبر) بدأت أسترجع السبب باستفاضة، وتلك عادتي علي كباري مصر المحروسة المزدحمة بالمرور معظم أوقات اليوم صباحا ومساءً.
أعتقد أن الفراغ والملل هما السبب ومعهم عند الكثيرين .. عدم الرغبة في العمل وأحيانا تجاهله ونسيانه .. والنسيانُ آفة حارتنا كما قال أستاذنا نجيب محفوظ.
تذكرت وقد أصبحت أعمدة الإضاءة تمر أمامي على الكوبري كشريط ذكرياتي الذي بدأ في الاسترسال متذكراً سبب اهتماماتي، وتذكرت منها:
أثناء تصوير مسلسل (تمن الخوف)، الذي شاركت في إنتاجه سنة 1987 للكاتب القدير كرم النجار واخراج أحمد فؤاد، وبطولة العملاق تمثيلا، وثقافةً نور الشريف، ومجموعة من فناني مصر العظماء في التمثيل، والإخراج، وكانت الإضاءة لعمنا القدير الدكتور/ سمير فرج.
كنت مع كل مبدعي العمل وبعد الانتهاء من التصوير وكان في منطقة (رأس غارب) بجوار آبار البترول، وبعد ساعات طويلة من العمل الشاق نعود إلي مقر إقامتنا للمبيت كان معظم المشاركين في العمل يفضلون السهر، وتبادل الحكاوي، ويشاركنا تلك الجلسات جمع متنوع من كل الثقافات والمشارب:
جميل راتب بثقافته الفرنسية، ونور الشريف بثقافته الموسوعية وذكريات كفاحه، والمنتصر بالله بخفة ظله وحكاويه ومنذ أن عمل معنا في مسرحية (كلام فارغ) للكاتب الكبير أحمد رجب ،والمخرج المبدع سمير العصفوري، الذي أعتبره أنا وبشكل تشكيلي من عظماء الضوء واستخداماته في المسرح ويذكرني بالفنان العالمي الرسام (رامبرانت) في عبقريته واستخدامه للضوء، وكان يشاركنا الجلسات أيضا هالة فؤاد رحمها الله، وماجدة زكي، وإبراهيم خان، وأمينة رزق بحكاويها عن يوسف بك وهبي، والفنان الكبير أحمد توفيق والذي أعتبره ممثلا من طراز فريد أعرف قدره الذي يوازي عمالقة التمثيل في السينما العالمية كإنطوني كوين، وروبرت دينيرو، وأنطوني هوبكن.
هذا بالإضافة أنه مخرج مبدع لكثير من الأعمال العظيمة مثل: (لن اعيش في جلباب أبي، عمر بن عبد العزيز،هارون الرشيد)، وقد أمتعنا عم أحمد توفيق بحكاويه، وذكرياته وكيف اكتشفه وقدّمه صلاح أبو سيف، وعن كواليس الفيلم العظيم (شيء من الخوف) مع شادية ومحمود مرسي من إخراج حسين كمال وكذلك فيلم (القاهرة 30) للمبدع نجيب محفوظ.
تنوعت المناقشات، والحكاوي بشكل ثري وجذاب رغم المجهود الكبير والمعاناة في عمل أعتبره من أصعب الأعمال تنفيذا، فالموضوع عن حريق يندلع في قرية قرب بير بترول وتطلب الشركة متطوعين لنقل مادة (النتروجلسرين) شديدة الاشتعال، والخطورة ويتطوع أبطال العمل نور الشريف وجميل راتب والمنتصر بالله كل منهم حسب ظروفه واحتياجه المادي الذي يجبره على التطوع والمجازفة في عمل يقدم بشكل تشويقي بارع، والموضوع صاغه باقتدار المبدع (كرم النجار) عن فيلم فرنسي قام ببطولته (إيف مونتان) النجم الفرنسي الكبير.
من حسنات ومزايا تلك الجلسات والكثير منها قد نتتاوله في مرات أخري لتأكيد ثوابت عن تلك الشخصيات التي أعرف قدرها، مثل (كرم النجار) المؤلف، ودارس الحقوق، القبطي المولد، المسيحي ديانةً والمسلم ثقافةً .. نعم يا سادة فقد شارك كرم النجار في كتابة حلقات (محمد رسول الله)، وقد حدثنا عن اهتمامه بالفقه الإسلامي، وفي نفس الجلسة يبدع المنتصر بالله المسيحي في الحديث عن الدين المسيحي، ويتناوب معه القدير والمستنير فقها، وفنا أحمد فؤاد وتشاركهم أمينه رزق، وكيف كانت تعمل مع فنانات يهوديات يخلصن في عملهن ولا يتحدث أحد عن ديانته إلا في أضيق الحدود.
كان العمل والتسامح والإنسانية قبل التظاهر والاستعراض الديني، وأتذكر مقولة لجواتاما بوذا يقول فيها: (اعبد حجرا.. لكن لا تقذفني به).
إنه التسامح ياسادة، واحترام العقائد، والإخلاص في العمل الذي يدعونا إليه ديننا الحنيف، بل كل الأديان وحتي الوصايا العشر.. فهل لنا أن نعمل، ونجتهد ونتسامح حتي نحقق ما تستحقه مصر العريقة التي كانت مهدا للتنوير وأذكركم فقط برفاعة رافع الطهطاوي، ومحمد عبده، وسلامة موسى، وطه حسين، والعقاد، وعلي عبد الرازق وزكي نجيب محمود وكثيرين من رجال التنوير.
يدهشني كثيرا ما أراه أحيانا علي شبكات التواصل التي أصبحت تقترب من شبكات التباعد من تضاد وخلافات والكل يدافع عن وجهة نظره وكأنه يمتلك الحقيقة، وتشتعل الخلافات دون وعي وباستماتة.
هي دعوة مني إذن للتسامح، وتقديم صور المحبة، وحسن المعاملة، والإخلاص في العمل حتي تقف مصر في مصاف الدول العظمى كما أراها تستحق.
وبالفعل مصر تستحق.