أحمد عبد العزيز.. فنان يجيد إفشاء المشاعر الإنسانية الحقيقية
بقلم : محمد حبوشة
الممثل قيمة تعبيرية كالنص الأدبي الفني المسرحي أو السينمائي أو التليفزيوني، ليس خارج الانضباط الواعي للهدف العام للرؤيا الفنية، فهو سيد هذا التعبير والمسؤول الأخير عن عرضه الفني، والممثل قيمة أخلاقية بتراكم خبرة الحياة والاحتراف التكنيكي الجسدي، وثقافة مركبة للحياة المصفاة، داخل إطار التعبير من خلال (خشبة المسرح أو على الشاشة)، لذلك يرتبط تعليم الممثل في الأكاديميات الفنية بتعلم الفكر النظري التربوي مع الاحتراف الفني لحرفة التمثيل، إن كثيرا من جهد الممثل في التعبير من خلال أدواته الطبيعية من الجسد والانتقال من حالة لحالة، حيث يستطيع أن يظهر العينين أو الدمعة أو الارتجافات بتواتر متصل من خلال العرض، بينما تكون منفصلة أثناء التصوير، فيتم إعادة بناء إنتاج المشاعر على طوالة المونتاج في السينما والتلفزيون كما يريد المخرج.
وضيفنا في هذا الأسبوع في باب (في دائرة الضوء) الفنان الموهوب أحمد عبد العزيز، هو ممثل له قيمة تعبيرية وأخلاقية، فضلا عن قيمته الثقافية كواحد من عتاة التمثيل التلفزيوني والسينمائي، ورغم أنه بالأساس مخرج مسرحي فقد أجاد فن التمثيل، وربما يأتي ذلك انطلاقا من أنه إذا كان للممثل قيمة ثقافية في علم التمثيل، وقيمة معرفية في جميع متفرقات الحياة والفنون الأخرى في فن الممثل، فحتما لابد أن ينتمي لمدرستان رئيسيتان، مدرسة المشاعر التي تنتج الفعل، وتتبناها مدرسة قسطنطين ستانسلافسكي المنظر والمخرج الروسي، ومدرسة الفعل الذي ينتج المشاعر، مدرسة الروسيان أيضا، ميخائيل تشيخوف وفيسفولد ميرخولد.
ومن خلال متابعتي لأعمال (أحمد عبد العزيز) أستطيع القول أنه ممثل يعرف جيدا طبيعة العمل التمثيلي في أبرز تجلياته، فهو حين يدخل البلاتوه يقوم بتحليل الدور، ويدرك الحركة والإشارة فضلا عن توظيف الصوت في مكانه ، كما أنه يعمل على الاقتصاد والبناء ويحرص على الانسجام مع زملائه في سبيل دقة الأداء الموحد، وأول ما يقومون به هو تحليل خصائص الشخصية المختلفة مثل: المظهر والوظيفة والمكانتين الاجتماعية والاقتصادية والسمات العامة، بعد ذلك ، يقوم بغحض هدف الشخصية وتصرفاتها في العمل الدرامي بشكل عام وفي المشاهد كل واحد على انفراد.
الحركة والإشارة عند (عبد العزيز) هما الطريقتان اللتان يصور فيهما كممثل طريقة مشي الشخصيةىوقامتها وإشاراتها ومميزاتها الجسمانية الخاصة، صحيح أن المخرج يعرض إطار حركة الشخصية العام ، غير أن الممثل هو المسؤول عن إخراج هذا النموذج التجريدي إلى حيز الوجود، وذلك بقدرته على فهم هدف كل دافع عاطفي وراء كل حركة تقوم بها الشخصية، ولبلوغ قمة الأداء فهو يعني بخصائص الشخصية الصوتية، حيث يحدد الميزات المرغوبة في الصوت ويوائم صوته بناء على هذه الميزات، مراعيا أنه يمكن أن يتطلب دور معين طبقة صوت حادة؛ بينما دور آخر قد يتطلب صوتا ناعما مريحا، ومن ثم يتحتم على الممثل أن يدرس متطلبات كل مشهد على حدة، تكون بعض المشاهد حالمة وهذه تتطلب صوتا ناعما خافتا؛ أما المشاهد الصاخبة فتتطلب أصواتا مرتفعة جهورية وحادة .
إن الممثل هو من يقوم بتنبيه المتلقي واستثارة حواسه وحالته النفسية، وانفعالاته من خلال ما يؤديه أمامه، وعلى هذا الأساس يتعلم الممثل من المتلقي وهو يقيس درجة الانفعال والإثارة التي أحدثها عند المتلقي، ليؤدي بالتالي إلى التغيير أو البحث عن دافعية جديدة، تتواصل مع المتلقي، لذا نجد أن (أحمد عبد العزيز) في الوقت الذي يؤثر بالمتلقي فإن المتلقي يؤثر فيه أيضا، لينتج بالتالي العمل المسرحي أو التليفزيوني أو السينمائي التشاركي، وهذا مقياس نجاح العرض العمل من فشله بعيدا عن أي نفاق من قبل المتلقي، إن الحديث المباشر يعني إثارة الانتباه ولفت النظر إلى شخصية معينة ليتعاطف معها مثلا، ولكن الخطاب المونولوجي الذي يؤديه الممثل وهو يخاطب نفسه، يبين عن أمرين أولهما مخاطبة الجمهور، وثانيهما الاعتراف الصادق أمام النفس، وكل هذا الخطاب الموجه من الممثل إلى المتلقي تزيد من حالة التيقظ لما يدور في صناعة الدراما، والعمل على ربط وتوثيق العلاقة بين الممثل والمتلقي.
الممتع في أداء الممثل المجتهد (أحمد عبد العزيز)، هو قدرته على عرض وإضافة أفعال بشرية، وتوليد مشاعر إنسانية محددة وواقعية بالتأكيد (سلوك/ فعل)، بواسطة مهاراته الفنية، وضمن ظرف حياتي معطى، ولأنه من الموهوبين في التمثيل فإنه يمتلك القدرة على فهم وخلق طبيعة بشرية حقيقية، وتوليد مشاعر وأحاسيس صادقة، وإعادة إنتاج شخصيات وأنماط إنسانية لا حدود لها، ومن هنا ليس من السهل تعريف فن التمثيل، لا لأنه فن مركب (جسد/ نفس/ شعور/ لاشعور) فحسب؛ بل لأنه جامع لفنون متنوعة ومختلفة، فثمة ما هو حي يجري أمام المشاهدين في المسرح، وما هو إذاعي يتم بواسطة الميكروفون، بغياب الصورة؛ إذ نسمع فيه صوت الممثل ولا نرى جسده، وثمة فن آخر هو التمثيل السينمائي أو التلفزيوني الذي يحدث أمام الكاميرات، ويشاهده الناس صوتا وصورة،عبر الشاشة، بعد إكمال العمليات الفنية اللازمة.
وعندما نقول أن (أحمد عبد العزيز) هو ممثل (حقيقي)، فهذا يعني أن يكون صادقا مقنعا، قادرا على عدوى المشاهدين بمشاعره، وجعلهم يصدقونك ويتابعونه، وربما تعلم هذا الصدق من خلال عمله كمخرج مسرحي، فهو يدرك جيدا قاعدة أنه على الرغم من أنك تقف فوق خشبة مسرح افتراضية؛ كل ما عليها غير حقيقي طبعاً، أي أنه شرطي (سواء كان العرض ينتمي إلى المسرح الشرطي، أو الواقعي التصويري أو غيره من التيارات الفنية)، فالمسرح شرطي دوما، في الزمان وفي المكان والحكاية والشخصيات والإضاءة والملابس والديكورات والمكياج، وسواء كان ذلك في المسرح أم السينما أم الإذاعة لا توجد شجرة حقيقية على الخشبة ولا نافذة تطل على شارع ولا صنبور ماء ولا ملك أو أميرة أو وزير، ثمة ممثل يقف فوق الخشبة، ويؤدي دور هاملت أو أوديب، الشخصية مستعارة والثياب مستعارة وكذلك المكان والزمان والحكاية.
(قمة الصدق) في الأداء لدى (عبد العزيز) ، هي (قمة الكذب)!، أي أنه يكذب كي يكون مقنعا، ويصدقه المشاهدون.!، والكذب هنا ليس أخلاقيا أو محرما، بل هو كذب مهني مشروع لمن امتلك المهارة الفنية، فـ (أعذب الشعر أكذبه) كما قال العرب.. وهذا ما نطلق عليه مصطلح (الصدق الفني) أو (الإيهام)، وجعل الآخر/ المشاهد، يتورط في لعبتك ويصدق ما يراه ويسمعه، كما لو كان حقيقة لا شك فيها؛ لهذا، يخلط الناس بين التمثيل كفن إبداعي، و(التمثيل) الذي يعني الكذب، كسلوك أخلاقي ديني واجتماعي!
إن أخطر شيء يمكن أن يواجه الممثل، هو تجسيد الحالات المتكررة كثيراً في الحياة وفي الدراما، مثل: الاعتراف بالحب، الخوف، السرقة، التحية، الدهشة، فكيف حصن أحمد عبد العزيز نفسه من الوقوع في (الكليشه) والتقليد، وكيف ابتكر تعبيرات جديدة لهذه المشاعر/ الأفعال؟ هذا هو السؤال المهم؟، فعادة ما يحلق بعيدا عن كل ما هو سهل ورقيع، واستنباط أو خلق حالات وأفكارا إبداعية جديدة، نابعة من الموقف والظرف المعطى، وطبيعة الشخصيات والأحداث الموجودة في النص؛ لا أن يختار المعروف والمستهلك لدينا ويقذفه في وجه المشاهد، كما أنه يحرك خياله الإبداعي، ولا يسمح لنفسه بأن (يخر مغشياً عليه) كلما فوجئ بشيء أو صدم به!، بل إنه يضيف أفعالا وحالات إنسانية جديدة، يقدمها بشكل أفضل وأصدق وأعمق؛ إذ لأنه يحاول البحث عنها في الواقع أو في خزان ذاكرته الانفعالية، كي يعيد إنتاجها من جديد، وهذا هو هدف فن التمثيل، ألا يكمن جوهر هذا الفن والإبداع، في نبش هذه الحالات الإنسانية، وإعادة خلقها فنيا!؟
ونظرا لأن أهم أدوات الممثل تكمن في نفسة وهى الصوت والجسد فمن خلال صوت الممثل وجسده يستطيع الممثل ان ينجز عملة سواء كان في المسرح او السينما أو التلفزيون، فإن أحمد عبد العزيز يدرك جيدا أن العلاقة بين التمثيل وصوت الممثل علاقة وطيدة جدا، ففن التمثيل هو فن الكلمة المعبرة، والتمثيل عامة هو إظهار ما وراء الكلمات من معاني، والإلقاء هو الكلام المعبر الفصيح المفهوم معنا ومدلول المفعم بالأحاسيس الدافئة والمصادقة والذي يتماشى مع قواعد اللغة من حيث مخارج الحروف وقواعد واحكام وشروط الوقف والتنفس بقصد الإفهام والتأثير والاقناع، ومن هنا فهو يعتني بالركائز الثلاثة لفن الإلقاء، وهى: (البلاغة الصوتية والبلاغة الفكرية، والموهبة)، واختفاء أحد هذه العناصر في الإلقاء يشكل ضعفا وقد يؤدي إلى فقدان التواصل بين المتفرج والممثل، إن الإلقاء الرديء مسؤول في الغالب عن المغالاة في التمثيل والتوتر والإيماءات الفارغة والتنغيمات المصطنعة، ومن ثم تعين على (عبد العزيز) أن يتعلم تشكيل كلامه على نحو مغاير من أجل ان يكشف المعنى وأن يقطع الجمل بشكل واع تماما.
ولد أحمد عبد العزيز في مدينة الإسكندرية بحي محرم بك ، وكان منذ صغره مولعا بالفن والتمثيل، وكان متعلق تعلق شديد بمشاهدة التليفزيون، وقد اعتاد المشاركة في جميع النشاطات المدرسية المتعلقة بالفن، وانتظر حتى وصل إلى مرحلة الجامعة وبعد حصوله على بكالوريوس التجارة من جامعة الإسكندرية قرر الالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية وحصل على شهادة البكالوريوس منه أيضا، وبعد التحاقه بالمعهد شارك في العديد من العروض المسرحية الخاصة بالجامعة، وكون عدد لا بأس به من الجماهير والمعجبين الذين كانوا ينتظرون ظهوره وطلته، وقد التحق فيما بعد بفريق مسرح الطليعة، لكنه حصل على فرصته الأولى للظهور في أول عمل درامي له عام 1982 من خلال أحداث مسلسل (باقي على الزمن ساعة)، ومن بعدها تألق أحمد عبد العزيز ليصبح العنصر الأساسي في كافة الأعمال الدرامية لهذا الوقت.
أما بدايته السينمائية فكانت بفيلم (وداعا بونابرت) مع المخرج الكبير يوسف شاهين، وكانت بداية قوية وفرصة جيدة لأي ممثل، وكان لذلك أثر طيب، ثم قدم (الطوق والإسورة) مع خيري بشارة، و(العصابة) مع هشام أبو النصر، و(عودة مواطن) مع محمد خان، و(حالة تلبس) مع هنري بركات، وكانت هذه فرص واعدة مع مخرجين كبار، فضلا عن مشاركة كبار نجوم السينما والتلفزيون، ففي الوقت ذاته عرضت علي أعمال تلفزيونية جيدة جدا، تحمل قيما عقلية وجمالية تفيد المتلقي مثل مسلسلي (الوسية، المال والبنون، من الذي لايحب فاطمة)، وحدث أن سافر لبغداد لتصوير فيلم فاتضح له أن الجمهور لا يعرف شيئا عن أفلامه، وأن كثيرين جاءوا المطار لاستقبال (إخناتون)، ولم يكونوا يعرفون اسمه، لكن العمل الدرامي الناجح (لا إله إلا الله) هو الذي عرفهم به، وأدرك مدى تأثير الدراما التلفزيونية التي يعد تميزها من أسباب بقائها في وجدان الناس.
قدم الفنان الكبير أحمد عبد العزيز في خلال فترة الثمانيات الكثير من الأعمال الفنية، والتي تنوعت فيما بين الأعمال التليفزيونية والسينمائية ومنها: المسلسل التليفزيوني (موسى بن نصير)، والفيلم السينمائي (بيت القاضي)، ومسلسل (بوابة المتولي) الفيلم السينمائي (البدرون)، وفيلم (العملية 42)، ومسلسل (صعاليك ولكن شعراء)، وفيلم (حالة تلبس)، وفيلم (حكاية نص مليون دولار)، وفيلم (حارة برجوان)، وفيلم (الكابوس) .
وخلال فترة التسعينيات كان قد لمع نجم الفنان أحمد عبد العزيز في تلك الفترة بشكل عالي للغاية، حيث قد قدم بها العديد من الأعمال الفنية المتميزة، ومنها: فيلم (المرأة الذكية)، فيلم (3 تحت المراقبة)، وفيلم (الصفقة)، ومسلسل (الوسية)، ومسلسل (ذئاب الجبل)، والسهرة التليفزيونية (قطرات الندى)، وفيلم (القانون لا يعرف الحب)، ومسلسل (عروس البحر)، ومسلسل (المال والبنون)، ومسلسل (الوعد الحق)، وفيلم (الذئب)، وفيلم (السياسي)، وفيلم (الفرسان)، وفيلم (اللي يعيش ياما يشوف)، وفيلم (الجاسوسة حكمت فهمى)، فيلم (الشرسة)، وفيلم (كلهم في جهنم)، وفيلم (دماء بعد منتصف الليل)، ومسلسل (المال والبنون)، ومسلسل (من الذي لا يحب فاطمة)، ومسلسل (حارة المحروسة)، ومسلسل (الحنين إلى الماضي)، و مسلسل (ألف ليلة و ليلة).
ومع بداية الألفية الجديدة شارك الفنان أحمد عبد العزيز في تلك الفترة في العديد من المسلسلات الدرامية المميزة، ومنها: مسلسل (عصفور تحت المطر)، ومسلسل (سوق العصر)، ومسلسل (البحار مندي)، مسلسل (غدا يوم آخر)، ومسلسل (حدث في الهرم)، ومسلسل (الإمام محمد عبده)، ومسلسل (ينابيع العشق)، ومسلسل (العنكبوت)، ومسلسل (دموع في حضن الجبل)، ومسلسل (صبيان و بنات)، ومسلسل (حارة خمس نجوم)، ومسلسلات (قلب النهار، ملاعيب شيحة، قضاة عظماء، فارس العرب، الوشم، ينابيع العشق، حارة خمس نجوم، صبيان وبنات، العنكبوت، أريد رجلا، حق ميت، في ال لا لا لاند، كلبش، الأب الروحي، وأخيرا حكاية (أوضة وصالة) ضمن سلسلة (نصيبي قسمتك) في موسمها الرابع.
في المسرح كان لـ (أحمد عبد العزيز) صولات وجولات كممثل ومخرج، لكنه آثر التركيز في مجال واحد هو التمثيل، لكن يحسب له في المسرح إخراجه مسرحية (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور التي تعد أول أعماله، وهو نص ملحمي عرض مرتين وكان لنجاحها صدى عربي، وأخرج بعده نحو 25 عملا مسرحيا من بينها أوبريت (مدينة العيد) للأطفال وكممثل يعتز كثيرا بمسرحية (واغش)، كما تولى رئاسة المسرح الكوميدي لفترة، ولم يستمر به طويلا رغم أنه كانت لديه أفكار وطموحات، وكان يطمح لجعل المسرح العائم على النيل ساحة للإبداع ليعج بالأنشطة المسرحية وأشكال الكوميديا المختلفة، لكن لم يتحقق ذلك لضعف الإمكانات والروتين.
وفي النهاية لابد من تحية تقدير واحترام للنجم التلفزيوني الكبير الذي شكل وجدان كثيرين من الجمهور، هذا المثل الدءوب الموهوب الذى مثل كثيرا جدا فى حقبتي الثمانينيات والتسعينيات، وبلغ الآن درجة من النضج سمحت له بهذا الظهور المتميز فى مسلسل (كلبش3)، ليثبت أنه أحد النماذج الجادة التى تفهم أن الفن هو صناعة ثقيلة وأن إفشاء المشاعر الإنسانية الحقيقية أهم كثيرا من استعراض مهارات الأداء.