كتب : محمد حبوشة
كم هى رهيبة الأسئلة البديهية في بساطتها، تلك التي نجيب عنها دون تفكير كل يوم، غرباء لا يعنيهم أمرنا في النهاية، ولا يعنينا أن يصدقوا جوابا لا يقل عن نفاق سؤالهم، ولكن مع آخرين، كم يلزمنا الذكاء لنخفي باللغة جرحنا ليس الذنب ذنبى، أنه ذنب الذى سكب النفاق والغش والخديعة فى النهر، ماذا يفعل ذو مروءة بين أهل الخداع فى أرض النفاق؟.. ماذا يفعل ذو مروءة بين أهل الخداع فى أرض النفاق؟، عجبت لحال وطني إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق، يملك القوة والنفوذ، يصنع الأشياء من الإبرة حتى الصاروخ، يبشر باتجاه إنساني عظيم، ولكن مابال الإنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة، ما باله يمضي بلا حقوق ولا كرامة ولا حماية، ما باله ينهكه الجبن والنفاق والخواء.
يبدو لي أن الكاتب (عمرو محود ياسين) أدرك كل الحقائق السابقة في حكاية بسيطة للغاية عميقة الأثر في هدفها ومضمونها بعنوان (النضارة البيضا)، أول حلقات (نصيبي وقسمتك) في جزئها الرابع، حيث أكد من خلال السيناريو والحوار بأسلوب فائق الجودة من جانب المخرج عصام نصار، على أن النفاق هو الذي يجعل الناس سعداء أما الحقيقة فتجعلهم يشعرون بالحزن، إن النفاق وهو زيف أخلاقي يبرهن على قيمة الأخلاق الصحيحة، إن شر النفاق ما داخلته أسباب الفضيلة، وشر المنافقين قوم لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء بالحق؛ فصاروا فضلاء بشيء جعلوه يشبه الحق، إن من النفاق ما هو أصعب احتمالا على أصحابه من الصراحة، أولم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق، ومن هنا وضع (عمرو) يده على الجرح وضغط على العصب العري في حياتنا، مؤكدا على حقيقة أنه يبدو أن العصر الحديث يحتاج لكمية أكبر من النفاق كي يرضى الناس وهذا شيء مؤسف.
حكاية (النضارة البيضا) على لسان بطلها الممثل الرائع (أمير المصري) بأدائه السلسل للغاية تشير إلى أن النفاق هو زيف أخلاقي يبرهن على قيمة الأخلاق الصحيحة، مثلما تفعل النقود المزيفة ذات القيمة المؤقتة بالنسبة للنقود القانونية ذات القيمة الدائمة، ولقد ذهب (أمير) بخياله الخصب عبر أداء فطري يندر وجوده في جيل الشباب الحالي إلى أن النفاق برهان على أن كل إنسان يتوقع أو يتطلب سلوكا أخلاقيا من جميع الناس الآخريخلص في نهاية الحلقات إلى حقيقة مؤداها: يا أهل النفاق.. تلك هى أرضكم.. وذلك هو غرسكم، ما فعلت سوى أن طفت بها وعرضت على سبيل العينة بعض ما بها، فإن رأيتموه قبيحا مشوها، فلا تلومونى بل لوموا أنفسكم.. لوموا الأصل ولا تلوموا المرآة أيها المنافقون، هذه قصتكم، ومن كان منكم بلا نفاق فليرجمنى بحجر، الطلاقة في الحديث علامة أكيدة على النفاق، إذا كان قانون الفيزياء يقول: إن الضغط يولد الانفجار، فقانون الاجتماع يقول: إن الضغط يولد النفاق الاجتماعي.
المؤلف (عمرو محمود ياسين يبدع في سلسلة جديدة من (نصيبي وقسمتك) من خلال تحليل اجتماعي بالغ العذوبة عبر (النضارة البيضا) مشيرا إلى أن المنافق الحقيقي هو الذي لا يدرك خداعه لأنه يكذب بصدق، درهم نفاق يساوي حفنة من الطموح، التمييز هو الكلمة المهذبة للنفاق، النفاق ليس خطيئة اجتماعية عموما، وإنما فضيلة، فنحن نرسل رسالة مليئة بالنفاق والرياء، رياء، نفاق، وتملق رخيص.. عملات زائفة لا تنطلي على أحد، ليس على الأذكياء على الأقل، أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد عذر، وإذا خاصم فجر.
تتطرق الحكاية بأسلوب السهل الممتنع إلى إدراك الفرق بين المجاملة والنفاق هو الفرق بين كلامي وكلامك، من عمل ما ليس من طبعه ولو كان صوابا تعرض لخطرين، خطر النفاق وخطر الإخفاق، وهو ما حدث لـ (فخر/ أمير المصري) مع أقرب الناس إليه (والده/ أحمد صيام) و(شقيقه كرم/ عمرو عبد العزيز)، فلا يعلو صوت على صوت الكذب والنفاق طوال الأحداث المشحونة بالغضب والضغينة، هذه هي مأساتنا!، ولا أعرف من اختار أجمل السيمفونيات لتكون خلفية أخبار ملأى بالنفاق والعنف، مع أن هنالك حقيقة راسخة: (أصدق الصدق الأمانة وأكذب الكذب الخيانة، كذب اللسان أن يقول ما لم يقل، وأن يقول ولا يفعل، وكذب القلب أن يعقد فلا يفعل، يستطيع الكذب أن يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها، وفي النهاية أثبت صناع العمل على اختلاف أشكالهم (مؤلف، مخرج، طاقم التمثيل) أن الكذب لا يفيد شيئا فهو لا يخدع إلا مرة واحدة، دع الكاذب يقص عليك أكاذيبه إلى أن يقول الصدق، ليس للكذب أرجل لكن للفضيحة أجنحة.
منذ الحلقة الأولى وحتى الخامسة أكدت حكاية (النضارة البيضا) أن الكذبة كرة ثلجية تكبر كلما دحرجتها، و الكذاب والميت سواء، لأن فضيلة الحي في النطق، فإذا لم يوثق بكلام الكذاب فقد بطلت حياته، من يكذب يسرق، ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبا.. إن الكذوب لبئس خل يصحب، أن تصدق نفسك أسوأ من أن تكذب على غيرك، إياك وكثرة الاعتذار، فإن الكذب كثيراً ما يُخالط المعاذير.. كم نتغنى بدفء العلاقات الأسرية – بحسب الأحداث – أساس العلاقات للأسف الغيرة والحسد والتلذذ بمصائب الآخرين، أما أن تجد شخصا يفرح من قلبه لنجاح هذا شيء نادر، فالخداع والكذب والغرور ليس عملا واعيا عند المرأة تحديدا كما جاء في ثنايا السيناريو والحوار اللذين كتبا ببراعة، إنها الغريزة، الكذبة التي يتم تكرارها غالبا ما تصبح حقيقة، إذا كذبت العنزة فإن قرنيها لا يكذبان.
(فخر) بعذوبة وصدق أدائه الناعم أثبت أن الكذب كالرمل: يبدو ناعما عندما نتمدد عليه، وثقيلا عندما نحمله، ينبغي أن تكون للكذاب ذاكرة جيدة كي نخفي خدعة يجب أن نكذب ألف مرة، لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ، الكذب والخداع والغش أنها ثلاثة حفر، وإذا سقط القائد في في احداها سقطت الثقة من قلوب أتباعه، الإيمان أن تؤثر الصدق حين يضرك على الكذب حين ينفعك، الصدق موجود والكذب اختراع، البعض مجبول على الكذب لكنه يغفل الدقة في نسج أكاذيبه، وهو ما تجسد تماما في حالات (الشقيق كرم، نور/ كارولين عزمي، ابنة الخالة التي تحاول استمالته ، مطرب المهرجانات مصطفى أبو سريع).
أمير المصري، الذي أكد أنه لا يشبه الشخصية الذي يقدمها في حكاية النظارة البيضا، التي تقوم فكرتها على ارتدائه نظارة بيضاء تكشف له حقيقة الشخص الذي يتحدث معه، قائلا: (أنا لو معايا النظارة دي فعلا مش هالبسها)، لفت نظري إلى أنه ممثل يحمل موهبة شاملة، تألق ينبغي الانتباه لها، خاصة أنه تميز في جميع أدواره، واكتسب حب الناس له في مصر والوطن العربي، له علامة وذوق خاص يقدمه مع كل شخصية بطريقة إحترافية يقوم بها كما في فيلمي (رمضان مبروك أبو العلمين حمودة، الثلاثة يشتغلونها)، وهو ما جعله يترك أثرا في قلوب الجماهير وتميز بالذكاء والعزيمة، وأصبح من أبرز الموجودين على الساحة الفنية من جيل الشباب الحالي الذي يمكن أن نعول عليه في أعمال اجتماعية تتسم بالواقعية، وكذا الحال مع كل من (عمرو عبد العزيز) الكوميديان الذي لم تكتشف بعد موهبته، وهنا نجح في في تصدير الكره لدى المشاهد، ومصطفى أبو سريع في لعب دور مطرب المهرجانات بحرفية عالية، نور/ كارولين عزمى في خديعتها الكبرى بصدق أداء لافت، وأحمد حلاوة في تمثيل دور الضمير الحي، وسما إبراهيم في صورة الأم الحنونة المريضة بالثرثرة).. الشكر موصول لهم جميعا وللمنتج أحمد عبد العاطي في اختيارته الصائبة.
(حكاية النضارة البيضاء) تحتوى على أكثر من ماستر سين رغم أنها جاءت في خمس حلقات فقط، لكن يبقى مشهد الأخير هو الـ (ماستر سين) لهذا العمل، حيث يصحو (فخر) من غفوته بفعل المخدر الذي وضعته (نور/ كارولين عزمي) له في كوب من الشاي، يفيق على حقيقة مرة: بأن الخديعة كانت تلازمه طوال الأحداث مجسدة في حبيبته (نور) التي خدعته وسرقت النضارة واللاب توب لحساب زملائه الذين يحاولون السطو على اختراع النضارة بهدف الحصول على مبلغ مالي تجري بها جراحة حرجة لأمها).
يصحو فخر من غفوته مناديا : نور؟ .. ولكن لا أحد يجيب!.
يفتح فخر الموبايل على رسالة تقول نور فيها : مش عارفة أقولك ايه .. متدورش على حجاتك يافخر .. أنا أخدت اللاب توب والنضار .. وآسفة اني مكنتش قد ثقتك .. بس انت أكتر إنسان نقي قابلته في حياتي .. حظي الوحش خلاك سبب اني أكسب من وراك مبلغ كبير .. الفلوس دي هعالج بيها أمي .. صدقني مكنتش أحب أغدر بيك .. خصوصا اني حبيتك .. عشان كده أنا شيلت النضارة من على وشك علشان لما أقولك باحبك تكون عارف اني حبيتك بجد .. بس آسفة نفسي أمي تعيش .. متدورش على علشان مش حتلاقيني!!.
فخر يستقل سيارة ويعود إلى البيت وعلى وجهه ترتسم علامات الدهشة والحزن .. ولسان حاله يقول : المتحدث كاذب .. المتحدث كاذب.. تلك الجملة التي كانت ترددها النضارة عندما كان يلبسها ليواجه بها الناس!!.
(فوكس) : الكاميرا مسلطة على وجه (أمير) معبرا أصدق تعبير في أدائه على طرقة المونودراما بقوله : كل حاجة حواليا هى مجرد كذبة .. عيلتي كدبة .. زمايلي كدبة .. نور كدبة !.
يعود إلى البيت ويقف في الصالة قائلا : الحقيقة الوحيدة هى ان كل الناس بتجري ورا مصلحتها وبس .. من غير ما يفكروا هما بيدوسوا على ايه وهما بيجروا زي الوحوش.
ثم قرر أن يلملم أشياء في شنطة سفر تمهيدا لمغادرة بلده وأهله هربا من الكذب والنفاق ويقول بينه وبين نفسه: يمكن ماكنش لازم من البداية اني أفهم وأعرف كل ده .. جايز انها كانت لازم تكون نضارة سودة مش مبينة الحياة .. يمكن يكون أريح مثلا .. بس دلوقتي كل ده حاجة تبقى صعبة عليا .. زي ماهو صعب على أعيش وسط ناس خايف بين لحظة والتانية يكدبوا عليا.
وفي النهاية يرتمي في حضن أمه قائلا : الأم هى الأم .. أكتر إنسان يتمنى لك الخير والنجاح.
ثم يمسك بشنطة سفره، وينظر لوالده قائلا : أكيد نفسه يشوفني أحسن منه .. بس لازم أمشي علشان يستوعب فرق التفكير بينا.. لينهى المشهد الذي أداه بكل جوارحه من خلال الصمت بينما ضمير المتكلم يروى المأساة جراء الكذب والخديعة والنفاق.
