بقلم : الدكتور ثروت الخرباوي
ولا زال الحديث مستمرا حول فيلم (ضد الحكومة) ذلك الفيلم الذي فشل بشكل ناجح جدا، ونجح بشكل فاشل جدا، ولكي تتضح الصورة كاملة يقول الراوي يا سادة يا كرام، منذ أن بدأت إرهاصات القضاء المصري الحديث في عهد الوالي محمد علي، ثم عندما تكونت ملامحه شبه النهائية في عهد طيب الذكر الخديوي إسماعيل، وكانت حوادث الطرق تحدث ليل نهار، بداية من قيام حصان الباشا برفس (حمام افندي) كاتب الدائرة، مرورا بدهس العربية الكارو قيادة العربجي (علي عوض) لابن حميدة بائعة الخضار، إلى أن تطورت حوادث الطرق فأصبحت حوادث سيارات وقطارات، ثم وصلنا إلى حوادث الطائرات والسفن.
منذ بداية هذه الحوادث كان المضرور يلجأ للقضاء ليحصل على حقه، وكان من الطبيعي ألا يقوم (حمام افندي) كاتب الدائرة باختصام ذلك الحصان الذي رفسه، ولا حتى قائد الحصان (الخيَّال) المحترم، ولكنه يختصم الباشا صاحب الحصان، وكذلك حميدة بائعة الخضار لم يكن يخطر على بالها أن تلجأ للقضاء ليحكم لها على العربية الكارو أو على العربجي علي عوض، ولكنها كانت تختصم صاحب موقف العربيات الكارو، أو المحافظ الذي لم يمهد الطريق ليسير الناس فيه آمنين على أنفسهم، ونفس الأمر بالنسبة لحوادث القطارات والأتوبيسات والطائرات، الخصومة القضائية بخصوصها كان يتم توجيهها بشكل طبيعي وعادي ضد المسئول، المسئول أيها السادة الكرام، ولا أقصد هنا المسئول المباشر الذي تسبب في الحادث فحسب، ولكني أقصد أيضا المسئول عن شيء أطلق عليه القانون إسم (الحقوق المدنية) وهذا المسئول قد يكون رئيس الجمهورية بجلالة قدره، أو رئيس الوزراء، أو الوزير، أو المحافظ، أو وزير الداخلية، أو أو أو مهما علا قدره، هؤلاء أطلق عليهم القانون (المسئولون عن الحقوق المدنية التي تترتب على الأخطاء التي يقع فيها تابعيهم وتسبب ضررا لغير أو التي تقع منهم شخصيا أو بصفتهم).
عشرات الآلاف من الحوادث وقعت، وملايين القضايا رُفعت منذ عهد القضاء المصري الحديث ضد وزراء ومسئولين كبار وصدرت فيها أحكام ضدهم، وتم تنفيذ الأحكام وتقاضى المضرورون التعويضات من الوزارات المسئولة، وعشرات من الوزراء حضروا في كل العهود أمام المحاكم ليدلوا بأقوالهم، أو ليشهدوا، وفي هذه القضايا توجد هيئة اسمها (هيئة قضايا الدولة) كان اسمها في السابق (قلم قضايا الحكومة) تضم عددا كبيرا ومتميزا من المحامين نطلق على الواحد منهم لقب سيادة المستشار (محامي الحكومة) يصدر بتعيينه في هذا المكان قرار من رئيس الجمهورية، تكون مهمته الدفاع عن المسئولين الحكوميين في القضايا التي ترفع عليهم من آحاد الناس .
لا مشكلة على الإطلاق أيها السادة الكرام، ولم يحدث أن احمر وجه الوزير غضبا لأن أحد المحامين قرر اختصامه في قضية ما متعلقة بعمله، بل إنه قد لا يعلم أن هناك قضية ضده أصلا، وإذا أردت أيها السيد القارىء أن تختبر صحة هذا الكلام فعليك أن تذهب إما إلى محكمة القضاء الإداري لتنظر في رول الجلسات المعلق على الحائط أمام أي دائرة قضائية هناك لترى اسم السيد رئيس الجمهورية واسم كل وزراء مصر وهو مكتوب في الرول في قضايا مرفوعة ضدهم، ثم فلتنتظر قليلا لترى الأحكام تصدر ضدهم، أو فلتذهب إلى إحدى مقار المحاكم الابتدائية وتبحث فيها عن الدائرة التي تنظر قضايا التعويضات لترى اسم وزير النقل والمواصلات وهو القاسم المشترك في كثير من القضايا، وبالقطع لن ترى في تلك القاعات محاميا اسمه (الدكتور عبد النور) وهو يمسك السيجار وجاء لكي يجبر المحامي فلان عن عن اختصام سيادة الوزير، فهذا تصوير كاريكاتيري مضحك حد الوقوع على الأرض، ولكنك سترى محامي الحكومة وهو يدافع بشكل قانوني عن موقف الوزير بصفته ويدفع عنه المسئولية، سواء كان هذا الدفاع صحيحا أو غير ذلك، فالعهدة هنا على المحكمة هى التي ستخبرنا في حكمها عن صحة هذا الدفاع، وإذا عنَ لك أن تذهب إلى دائرة الجنح سترى في رول الجلسة عددا من الجنح أقامها أصحابها ضد وزراء أو محافظين يطلبون فيها حبس أولئك الوزراء بتهمة الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي، وقد يكون من حسن حظك أن تسمع القاضي وهو يصدر الحكم بحبس الوزير سنة وعزله من وظيفته وإلزامه بسداد تعويض من ماله الخاص للمجني عليه ، وستعرف أن الوزير وقتئذ يضطر صاغرا إلى عمل استئناف يعرض فيه التصالح حتى يتنازل المجني عليه عن قضيته، وقتها قد ترى المحامي الدكتور عبد النور وهو يحضر عن الوزير لأنها قضية شخصية، وستراه وهو يتملق محامي خصمه كي يتنازل عن قضيته، ولن يحدث أبدا أن تقوم الشرطة بالقبض على هذا المحامي العنيد الذي صمم على اختصام سيادة جناب الوزير بجلالة قدره.
كل هذه الامور عادية وتحدث بشكل متكرر، ولكن إذا شاهدنا فيلم (ضد الحكومة) ورأينا تتابع الأحداث، لأدركنا على الفور افتقاد الأستاذ الكبير بشير الديك كاتب السيناريو والحوار، ومعه المخرج الراحل عاطف الطيب، للوعي القانوني، والمعرفة القضائية، ولأصابنا الكثير من خيبة الأمل، نعم يا أستاذ بشير للأسف كلكم هذا الرجل، كلكم تنسجون لنا من خيالكم المحدود محاكم لا وجود لها في الواقع، هي محكمة واحدة بنفس القضاة، ولكنها شاملة، مدنية أو جنائية أو شرعية، هى عندكم تحت شعار محكمة (الكل في واحد) ثم تنسجون لنا قانونا خياليا مضحكا، وتجعلون من هذا الخيال الساذج محلا لصراع ضد الفساد، وتحولون الأمر المعتاد إلى أمر جلل.
وأكاد أقسم لكم أن كل من شاهد هذا الفيلم من رجال القانون خرج منه وهو يبتسم ابتسامة سخرية، ومن أسف أن هذا الفيلم أصبح من عيون الأفلام وأكثرها ترشيحا للجوائز، وهو في النهاية لا شيء، فيلم سطحي من طراز رفيع، سطحي بامتياز، هو عبارة عن موضوع إنشاء يمكن أن يكتبه تلميذ بليد في امتحان مادة التعبير، نعم يا صديقي أوافقك على أن حوادث القطارات تترك أسى في النفوس وتثير مشاعر الحزن والغضب، خاصة إذا كان القتلى من جراء هذه الحوادث من الأطفال، وألف نعم يا صديقي كان يوجد في فترة من الفترات مافيا للمحامين الذي احترفوا الحضور في قضايا التعويضات، ومن الوارد وفقا لقصة الفيلم أن يكون هناك أحد المحامين الفاسدين، ثم إذا به يعرف أن ابنا مجهولا له أصيب في حادثة القطار فيتحول من النقيض إلى النقيض، ويقف بكل قوة ليلقي بالمسئولية القانونية على كاهل وزراء وبعض كبار المسئولين، كل هذا حسن، وهى قماشة ثرية جدا يمكن أن يبدع فيها كُتاب الدراما، ولكن الأستاذ الديك اعتبرها فرصة لكي يعطي للقصة لمحة سياسية، لا تثريب عليه في ذلك، أنا معه ، ولكنه حين ظن أنه يؤذن ضد الفساد، وضد الحكومة، اتضح أنه لا يؤذن أبدا، إذ أنه فتح فمه ولكنه لم يؤذن ولم يقل شيئا، وكانت معالجته الدرامية لهذا الصراع القانوني عبارة عن صعود إلى قمة الفشل، كيف هذا؟ .. هذا ما سنعرفه في المقال القادم فانتظروني.