بقلم : الدكتور ثروت الخرباوي
المقالات التي عن الفن ينبغي أن تكون خفيفة شيقة، ويجب على كاتبها أن يبتعد عن المقدمات الطويلة ثقيلة الظل، فما بالك لو كانت المقدمة عبارة عن دفاع شرعي عن النفس، وتبرير ضعيف لموضوع المقال، ولكن المرء قد يضطر إلى تبرير المقال إذا كان الموضوع يتضمن نقدا لعمل فني كتبه إنسان قريب إلى القلب، ففي بلادنا أصبحنا نخلط بين الشخص ومشروعه الفني أو الأدبي أو العلمي أو السياسي، فإذا انتقدنا عملا فنيا ما فكأننا انتقدنا صاحب العمل بنفسه، كما أن النقد نفسه يتم تأويله على أنه سب وقذف، مع أن هذا غير ذاك.
لذلك فإنني أقر وأعترف في بداية المقال أنني أحب الأستاذ الكبير بشير الديك، وأضعه في مكانة كبيرة في نفسي، فهو أحد رموز السينما المصرية، ومن كبار المؤلفين وكتاب السيناريو والحوار، وهو في الحقيقة أديب متميز، برع في كتابة القصة القصيرة، وكان يمكن أن يصبح أحد رموزها لو لم تختطفه السينما والدراما، وقد كان من حسن حظي أن جلست معه مرتين، المرة الأولى في بيته بصحبة صديقي المخرج الإذاعي الكبير صفي الدين حسن، واستمرت جلستنا أكثر من ساعتين تحدثنا خلالها كثيرا عن السينما المصرية وتاريخها وأهم رموزها.
أما اسم بشير الديك فهو من الأسماء التي ارتبطت بأعمال فنية كبيرة، أخذت أعلى درجات الإجادة مثل أفلام (سواق الأتوبيس وضد الحكومة والنمر الأسود والحريف) وغيرها من الأفلام، فضلا عن العديد من المسلسلات، ولذلك حق لي أن أتحدث عن بشير الديك بحسب أنه واحد من الكبار، ولذلك يخجل قلمي حينما يواجه بشير الديك ويقول له : لقد كنت تفتقد كثيرا من الوعي وأنت تنسج خيوط بعض أفلامك، لم تكن دقيقا ولا بارعا، ولكنك صنعت لنفسك وعيا مزيفا لا علاقة له بالحقيقة، وظننت أن وعيك المزيف هذا هو الوعي الحقيقي، هو الواقع، هو الدنيا التي نعيشها، ولا شك أن كبار المخرجين الذين أخرجوا تلك الأفلام وقعوا هم أيضا في الكثير من الأخطاء الساذجة، وما ذلك إلا لأن كل هؤلاء من أولهم لآخرهم يفتقدون للتنوع المعرفي، أو قل ليست لديهم الثقافة التي تساعدهم على بناء أعمالهم بلا أخطاء ساذجة.
ولكي لا يكون كلامي نظريا خذ عندك الفيلم الشهير (ضد الحكومة) ويا له من فيلم، ويالها من حكاية مثيرة أعدها المؤلف (وجيه أبو ذكري) لكي يواجه بها فساد الكبار، أولئك الذين يظنون أنهم بمعزل عن المساءلة والعقاب، كتب (بو ذكري) قصته مقتبسا إياها من الفيلم الأمريكي الشهير (The Verdict – الحكم) الذي أخرجه المخرج الأمريكي الكبير (سيدنى لوميت) الفائز بجائزة الأوسكار عن مجمل أفلامه، وقام ببطولته الممثل الأمريكي العبقري (بول نيومان) الذي فاز بجائزة الأوسكار عن الفيلم الرائع (لون المال)، وقد تم ترشيح فيلم (الحكم) لجائزة الأوسكار إلا أنه لم ينلها، ولكن لا شك أنه كان فيلما رائعا وممتعا، أضاف لأرواحنا كثيرا من الرقي، وبشكل شخصي أشهد بأنني تأثرت بهذا الفيلم بشكل كبير خاصة وأن عرضه تم في بدايات عملي بالمحاماة، وأظنك عرفت الآن أن اسم الفيلم يدل على طبيعته، فالصراع القانوني في المحاكم يمثل أفضل القصص التي عرضتها السينما الأمريكية، رأينا من خلالها براعة المحامين وفراستهم وقدرتهم على الاستدلال والبحث القانوني، واستطاعت السينما الأمريكية أن تنقل لنا بدقة متناهية ما يدور في قاعات المحاكم، رأينا العدل وهو ينتصر أحيانا، ورأينا الظلم وهو ينتصر في أحيان أخرى، رأينا السلطة وهي تعتدي على العدالة، ورأينا العدالة وهى تتغلب على السلطة، ورأينا كل ذلك يتم في الإطار الشكلي والموضوعي الذي رسمه قانون تلك البلاد، ولم يحدث أن رأينا فيلما أمريكيا تدور أحداثه في المحاكم وهو يحتوي على مبالغات سخيفة لا علاقة لها بالواقع القانوني حتى ولو كانت أفلاما كوميدية، فالكل أمام دقة التصوير سواء.
ولذلك أعتقد أن أستاذنا الكاتب الراحل وجيه أبو ذكري تأثر بالفيلم الأمريكي (الحكم)، ووقع في غرام المحامي الذي كان فاسدا ثم أصبح قديسا يعترف بخطاياه ويقف لينصر الحق والعدالة، فمعظم الكتاب يقعون تحت إغواء الشخصية التي تنتقل من النقيض إلى النقيض خاصة وإذا كان انتقالها هذا منطقيا ومبررا، وهو الأمر الذي حدث في الفيلم الأمريكي “الحكم” وهو أيضا الذي حدث في فيلم “ضد الحكومة” .
كانت القماشة واحدة إذن، ولكن صُنَّاع فيلم (ضد الحكومة) فاتهم أن يكتبوا أن قصة فيلمهم هذا مقتبسة من فيلم أمريكي، خاصة وأن التشابه بين الفيلمين كبير بحيث يستحيل القول بأنه توارد خواطر، فالتوارد وارد أن يحدث، بل هو يحدث، ولكن أن يكون الفيلم الأمريكي صدر عام 1983 وأصبح من الأفلام الشهيرة جدا، وتم ترشيحه لجائزة الأوسكار، ثم يصدر فيلما مصريا اقتبس فكرته وقام بتمصيرها ثم لا يشار إلى الفيلم المقتبس منه فهذا من آفات الاقتباس أو قل (السرقة) في الأفلام المصرية، وأستطيع أن أقول لكم وأنا في قمة الغضب أن معظم أفلامنا مقتبس من أفلام أو قصص غربية، أمريكية كانت أو إنجليزية أو فرنسية أو روسية أو أسبانية، ولو أردت لكتبت لكم عن (فقر الفكر) الذي أصاب معظم كتاب السينما المصرية، فمعظمهم للأسف الشديد ليس لديه القدرة على إنتاج (الفكرة الدرامية).
نعود إلى فيلم (ضد الحكومة) والفيلم كما نعرف من إخراج المخرج الكبير الراحل عاطف الطيب، إذن فقد اكتملت ثلاثية النجاح، فيلم من تأليف وجيه أبو ذكري الذي بدأ صحفيا في صفحة الحوادث بجريدة الأخبار، وكتب في جريدته من قبل عن مافيا تعويضات قضايا الحوادث، ومخرج هو عاطف الطيب الذي شهد له القاصي والداني بالنبوغ، وقد منعته وفاته المبكرة من الاستمرار في طريق التفوق، وكاتب سيناريو وحوار هو بشير الديك اعتبره النقاد أحد الأعمدة الكبيرة في مجال كتابة السيناريو والحوار، هذا فريق يضمن النجاح لأي فيلم، وبالفعل نجح فيلم (ضد الحكومة) نجاحا كبيرا، ولكنه كان نجاحا لفيلم فاشل!!، كيف هذا؟ .. هذا ما سنعرفه في المقال القادم.