أغلقوا كل المسارح !!
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
فى خليط محكم مابين فيلم أضواء المدينة لشارلى شابلن و مسرحية السيد بونتلا وتابعه ماتى لبرتولد بريشت ، يقدم لنا المخرج (إسلام إمام) عمله الجديد (حلم جميل) من انتاج المسرح الكوميدى على المسرح العائم ، و هو عمل يستحق التوقف أمامه ، ليس فقط لنجاحه الجماهيرى و النقدى و إنما لان العمل به كثير من المعانى و الرسائل التى يجدر بنا قراءتها .
الرسالة الأولى أن الفن الذى يتحدث بلسان المقهورين ليترجم آلام البشر و أوجاعهم هو الفن الذى يعيش و يبقى ، و لذا عاش فيلم شابلن و مسرحية بريشت حتى الآن ، و ضمنتا – وسط أعمال كثيرة لها نفس السمات – الخلود لكليهما . فالفيلم و المسرحية يتحدثان عن متشرد ( أو سائق ) يحاول العيش فى مجتمع رأسمالى متوحش ، و لأنه ذو قلب رحيم يحاول مساعدة من هم مثله و يعانون معاناته ، و تختلف التفاصيل بين الفيلم و المسرحية ، و لكن تظل العلاقة بين الأجير و السيد أو بين المتشرد و الغنى محورا أصيلا فى العملين ، فالرجل الغنى – الذى لا قلب له فى العملين – يتحول الى ملاك بمجرد أن تتملكه حالة السكر ، فيصادق الفقراء و يعطف عليهم و يحاول مساعدتهم ، و لكنه يعود لطبيعته المتوحشة بمجرد الإفاقة .
و هذا التشابه التبس على كثيرين حتى ظنوا أن بريشت أخذ مسرحيته عن فيلم شابلن الصادر عام 1931، و لكن الثابت تاريخيا أن بريشت استمد الفكرة من قصة لكاتبة فنلندية اطلع عليها بعد هروبه من ألمانيا فرارا من النازية عام 1933 ، و مع ذلك لم يتهم أحدهما بالسرقة الفنية .
و برغم ارتباط شابلن و بريشت بأفكار اشتراكية ، حيث كانا من انصار العدالة الاجتماعية ، و أن كلاهما اضطر إلى مغادرة الولايات المتحدة بسبب أفكاره التى أزعجت اليمين المتشدد ، إلا أن كلا منهما عبر عنها بشكل فنى مختلف عن الآخر و إن اتفقا فى وجوب أن يكون الفن ممتعا أولا ، برغم حمله لأضخم الرسالات ، و لذا اتبع المخرج (إسلام إمام) نفس الأسلوب ليؤكد فى عرضه على جانب المتعة و الترفيه ، برغم ثراء العرض بالمعانى و الأفكار ، فنراه يلجأ للاستعراضات و الأغانى ، و المواقف الكوميدية لإيصال تلك الأفكار، و أعتقد أن ما ساعده على تحقيق المتعة فريق من الممثلين الرائعين على رأسهم سامح حسين ذلك الممثل الموهوب و المحبوب ، الذى يتميز بخفة ظل طبيعية بلا استخفاف أو استظراف ، و يؤمن بأهمية مسرح الدولة و بضرورة أن يحمل العمل رسالة .
لقد استطاع سامح إبهار الجمهور بأدائه السهل السلس تمثيلا و غناء و رقصا ، و ازاد الإبهار بتواضعه و أخلاقه الرفيعة القادرة على تجاوز كثير من أمراض النجوم ، فنجده يقف على المسرح فاسحا المجال لأى وجه غير معروف ، فلا يمنع أى موهبة و لو صغيرة و مبتدئة من أن تأخذ فرصتها كاملة دون أدنى إحساس بالغيرة . فهكذا شيم الكبار الواثقين من أنفسهم وعملهم و حب الجمهور لهم .
و يثبت هذا العمل أيضا أن مصر لن تخلو أبدا من المواهب ، و أنها تنتظر فقط من يكشف عنها ، فنجد فى هذا العرض مواهب كثيرة تثبت رسوخ أقدامهم ، الأولى للقادم من عمق مسرح الأقاليم بعد رحلة طويلة و شاقة مخرجا و مدربا و مشرفا ناجحا ليقدم لنا واحدا من أجمل أدواره إنه الفنان (عزت زين) الذى شكل مع سامح ثنائيا رائعا ، بدأ فى مسرحية المتفائل ، و لكن هنا فإن شخصية الرجل الثرى التى يلعبها بتعدد أوجهها بين الرقة و السماحة و هو سكران، و بين القسوة و الصلافة فى حال افاقته ، سمحت له بالكشف عن موهبته الكبيرة و خبرته العميقة و استطاع الانتقال بين الحالات المختلفة بسهولة ، و لا أدرى لم تذكرت الموهوب الرائع حسن عابدين و أنا أشاهد (عزت) و هو يتراوح بين الرقص فى خفة و بين الحركة فى تثاقل أو و هو يمشى مختالا متكبرا .
أما المفاجأة فكانت (سارة درزاوى) التى قدمت عدة عروض من خلال مسرح مصر و لكنها فى هذا العرض تكشف عن موهبة طاغية و قدرة على الإقناع غير عادية ، فاستطاعت تجسيد دور بائعة الورد الكفيفة فى اقتدار و خفة ظل و حافظت على تصرفات الشخصية بلا خطأ واحد ، و فى مشهد من أجمل المشاهد تمثيلا استطاعت تصوير حالة الفتاة عندما ارتد لها البصر ، و رأت المحيط بها لأول مرة ببساطة مذهلة تستحق عليها أكبر الجوائز .
و فى كشف عن موهبة جديدة أيضا تأتى (سلمى طاهر البهى) كمشاركة فى كتابة النص لتثبت أن لها مستقبلا فى عالم الإبداع ، هذا عدا مواهب أخرى أثبتت نفسها منذ زمن طويل كالموسيقار الكبير (هشام جابر) صاحب ألحان و موسيقى المسرحية التى عبرت بصدق و جمال عن كل المواقف ، و حملت المعانى الرائعة للشاعر (طارق علي) إلى قلب و عقل الجمهور فى تضافر ساحر ، و أضافت إلى نص (طارق رمضان) المعد عن المسرحية و الفيلم .
فهل كل هذا يوحى بأن كل شيئ على ما يرام ، و أن مسرح الدولة يشهد صحوة ؟ لا أستطيع أن أخالف ضميرى و أقول نعم ، حتى لو غضب الأصدقاء و الزملاء ، فعلي الرغم من إن المسرح الكوميدى – بعد طول إغلاق و غياب غير مبرر و كبوات مريرة – استطاع أن يقدم لنا هذا العمل الرائع ، إلا أنه يفتقر إلى الدعاية الواجبة و اللازمة و المستحقة ، بل علينا أن نعترف أن كل عروض مسرح الدولة – إلا فيما ندر – تفتقر إلى الدعاية ، و بالبحث و التقصى أفاد البعض – و أرجو أن تكون إفادتهم خاطئة – بأن تعليمات تخفيض المصروفات الصادرة عن مجلس الوزراء أطاحت ببند الدعاية ، و لا أدرى كيف وافق المسئولين على هذا دون بديل ؟ ، لماذا لم تصدر من مجلس الوزراء أوامر إلى تليفزيون الدولة بأن يقوم بالدعاية لمسرح الدولة فكلاهما يتبع نفس الدولة أم أننا فى دولة أخرى ؟ ، و أين الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية؟ أليست تابعة للدولة أيضا ؟ ، ألا تملك عدة قنوات تصدعنا يوميا بآلاف الإعلانات ؟ ما ضرها لو خصصت عشرة دقائق يومية للدعاية لمسرح الدولة ؟ ، و ابقوا اخصموها من الضرايب أو ضيفوها على الخسائر!!.
إن عملا فنيا بلا دعاية يا سادة كالآذان فى مالطة أو كالبحث عن إبره فى كوم من القش ، فلا فن بلا دعاية تخبر الجمهور و تحثه على المشاهدة و الاستمتاع و التعلم ، و إذا كانت مسرحية مثل (حلم جميل) يقبل عليها الجمهور فمن المؤكد أن الاقبال سيتضاعف لو كانت هناك دعاية . و إلا فلتغلقوا المسارح إلى حين توفر بند الدعاية أو إلى حين اقتناع الدولة بأن لديها مجالات للدعاية مجانية ، و أن ارتياد المواطنين لمسرح الدولة و مشاهدة المسرحيات الهادفة و الصادقة و الجميلة و الممتعة جزء من ( حياة كريمة ) تسعى الدولة لتوفيرها لمواطنيها ، و حائط صد ضد الأفكار الظلامية و المتطرفة و الفن المبتذل.