بقلم : محمد حبوشة
بعض الأصوات سفينة وبعضها شاطىء وبعضها منارة، وصوت (فيروز) هو السفينة والشاطىء والمنارة، هو الشعر والموسيقى والصوت، والأكثر من الشعر والموسيقى والصوت، حتى الموسيقى تغار منه.. هكذا وصف الشاعر اللبناني (أنسي الحاج) صوت (فيروز) ملخصا أسطوريتها التي لا تتكرر.
ويضيف: في عصرنا المظلم يشق لنا صوتها ممر الضوء ويعيدنا أنقياء، يجعلنا نسترد النقاء لنكتشف بقوة النقاء وحده كل ما يجمعنا بالينابيع الأصلية، كل ما يربطنا بالخير، كل ما يشدنا بعضا إلى بعض.. ولا يمكن تفسير صوتها لأنه حقيقي.. حقيقي حتى الخيال.
نعم نقول عن صوت (فيروز): (غير معقول، فوق الوصف)، لأنه حقيقي فعلا على حد قول الشاعر اللبناني، إنه تارة يبدو وديعا ناعما كفراشة وطورا آمرا كملكة، ولامعا كبرق خاطف للقلوب والآذان معا، إنه صوت آسر ومتجدد، وهذا ما جعل غناء (فيروز) لايتشنج، لايعلو صراخها.
قد يضطرها دور مسرحي إلي الصراخ لكن غناءها لا يستعرض عضلات، فأغلبه همس، كما نحس ونشعر، بوح من حنجرة إلى وجدان، دفء غامر بلا لهب التظاهر، هو لهب السكوت، صوت ماسي مائي يفيض محبة وصفاء روحي آسر.
صحيح جدا في حياتنا لا مكان لـ (فيروز)، كل الأماكن هى لها وحدها، ليكن للعلماء علم بالصوت وللخبراء معرفة، وليقولوا عن الجيد و العاطل، أنا أركع أمام صوتها كالجائع أمام اللقمة، أحبه في جوعي حتى الشبع، وفي شبعي أحبه حتى الجوع، أنا مرهون بنزوات حنجرتها، عاقد مصيري على نظرها وخنصرها وآثار قدميها.
لقد أعادت اختراع الينابيع، ليست هى طريق الحياة بل الحياة ذاتها، إني أتكلم من أعماق البصيرة حيث الصدق لا يختبىء من الخجل ولا يتدلل لكي يتعرى: يا رب إحفظها!.. يا رب إخدمها! يا رب اعطني كلاما يليق بها!، لقد ساقوا إليها المديح، وارتكبوا بحقها خطيئة التعظيم.
تغني لنا الأسرار
حقا لا ينقذني إلا صوت ((فيروز) في فراغ المكان، يتردد كالبشارة في ضميري، في الوقت والأبدية، هو حبي إني أشتهي أن أضمه بيدي كيدي، أو أنفخه فيطير كرماد وردة، باختصار لأنها تغني لنا الأسرار التي جهلناها، و الأحلام التي نسيناها.
تغني وصوتها مكشوف كاليد المفتوحة، تغني وصوتها محجب كوجه خفضه العذاب والخفر إلى رجاء الأرض، حتى لو لم يكتب لها شعرا جميلا، فإن صوتها كفيل أن يجعل أي كلام شعرا جميلا، وحتى لو لم يكن اللحن رائعا، فإن صوتها كفيل أن يجعل أي لحن رائعا، لأن صوتها هو الشعر، والموسيقى، بل لأن صوتها هو الأكثر من الشعر والموسيقى والصوت / صوتها وتمثيلها وحضورها أيضا.
إن في وجودها إشعاعا يبهر كالبرق، ويستولي على الناظر إليها كما يستولي الكنز على المسافر، صوتها الذي أسمعه فكأنه هو الذي يسمعني، بل كأنه أحسن من يصغي إلى وأنا أصغي إليه، صوتها الساقط فينا كالشهيد تعلو روحه في السماء، المخمد حولنا العواصف، الملهب فينا غرائز البراءة والوحشية، صوتها كمصابيح في المذبح، وكزهرة جديدة حمراء في حديقة قديمة، إنه هو الرعشة في جبروتها اللحظة.
هو نار الحب الأخيرة الممشوقة كعروس فوق الماء، ذلك الصوت القادم من تلك المرأة اللامحدودة العطايا المتجددة كنهر هادر، التي ليس لجماله نهاية، كلها بكاملها، متحركة وجامدة بأصغر تفاصيلها، إن صوتها هو عصرنا، ولصوتها سبعون نافذة مفتوحة على الصباح.
رنة الثلج في الكأس
للصرخة إذا خفضناها قليلا قوة أشد .. هكذا صوتها عندما لا يتفجر كله وحين يتفجر كله يصبح الكون بعده جميلا كغصن شجرة حرقته صاعقة، وما زال أمام صوتها وأمام عبقريته جميع الفرص متاحة، لنسمع صوتها جيدا ولننظر إليها بعيون نقية عندئذ نعرف أنها في كل مرة تبدأ الآن، فهى في كل مرة نضرة كرنة الثلج في الكأس.
ومع هذا فما تخبئه هو أغنى مما أباحته، ليتني أستطيع أن ألمس صوتها، أن أحاصره وألتقطه كعصفور مهيض الجناح، كأيقونة، أن أكتنفه و أشربه و أكونه، أن أصير هو، أن لا يعود يحبس أنفاسي كلما سمعته وكلما تذكرته وكلما نسيته، ليتني أستطيع أن أضمه على صدري فيصبح لي وأرى أسراره الفاتنة، ولا يعود ممكنا انتزاعه مني ولا حتى بالموت المحقق.
أن ما يحدث لي تجاه صوت (فيروز) ليس فعل السحر، إنه اجتياح، إنه فعل الاتحاد التام، عندما أسمعها أصبح إنسانا ناقصا صوته، أصبح بصوتها كاملا معافى، إنها الجمال الذي ضاع منذ الخليقة، وعندما تسكت فبوحشية يصير المسرح تحت سكوتها مقاطعة تتنفس الحنين إليها، ثم تصرخ عطشى إلى كلام فيروز، كم سكوتها مؤلم!!.
إنه يأخذ الأسرار التي إن لم تقلها لنا نختنق، هل هى تفرح بعذابنا أمام سكوتها؟، وها هي تقطع الصمت، ها هو وجودها يغضب كالضوء، يموج كالبجع الأبيض، يرق كنداء العينين، وتبكي وتضحك بلا بكاء ولا ضحك، وتملأ الدنيا بقليل منها، لأن القليل منها أكثر من السعادة.
سلطة أخلاقية لا مثيل لها
فيروز صوت يخترق دروع اللامبالاة، يطهر النفس كما يطهرها البكاء لا العقاب، محبة الطفل لا مهادنة العدو، هذه السلطة الأخلاقية ليس مثلها لفلسفة ولا لتعليم، ربما مثلها في شواهد خارقة، ومع ذلك لا تحب فيروز أن يقال عنها (أسطورة) أو (أيقونة)، كان عاصي الرحباني يلقبها بـ (البطرك) من فرط المهابة التي تعتريها، ولم تضحك لهذه المداعبة، تكره التحنيط، تكره المصطلحات، تريد أن تتأكد من حيوية فنها كل لحظة حتى وهى تقترب من التسعين، فعندما تسمع أغانيها الأولى تبتسم بتأثر، كما لو أنها مغنية أخرى تحلق في سماء الخيال، تجتاز أعمارها باضطرام وهدوء معا، كما لو أنها ولدت الآن، لكنّها في الواقع غدا ستولد، الحفلة المقبلة هى الأولى لها، تحب ماضيها الفني ولا تتجمد عنده، لايوقف حلمها شيء، حلم مطلق، حلم بمَ؟ توق إلى مَ؟ .. (أنا عندي حنين/ ما بعرف لمين).
الكلام عن فيروز ألف شهرزاد لا ينتهي، وهل ينتهي الذهول أمام الأسرار؟ بعض سرها التقاء الطموح والقناعة، والحذر والطفولة، والغموض والشفافية، والشمس والقمر، سر انصهار اللغز والبساطة، سر كلي محصن مغلق كنظام متراص، لانافذة له على العالم إلا الفن.. كل الفنانين يعيشون حياتهم إلى جانب عملهم الفني إلا فيروز: حياتها هى فنها، تتنسك له أكثر من الرهبان وتتحمل في سبيله أكثر مما يتحمّل القديسون.. لقد خطفها صوتها إليه قبل أن يخطفنا صوتها.
اكتشفها محمد فليفل
ولدت نهاد حداد الشهيرة بـ (فيروز) في جبل الأرز في لبنان في الحادي والعشرين من تشرين الثاني عام 1935 لوالديها (وديع حداد وليزا البستاني)، نشأت في حي زقاق البلاط في بيروت حيث كان والدها يعمل في محل طباعة صغير، ودرست في مدرسة (القديس جوزيف) في بيروت حتى اضطر والدها لنقلها إلى مدرسة عامة خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ومنذ صغرها كان تحب أن تغني أغاني أسمهان وليلى مراد، وفي عمر الرابعة عشر اكتشف موهبتها الملحن وكاتب الأغاني (محمد فليفل) أحد مؤسسي المعهد الوطني للموسيقى في بيروت، والذي كان يبحث عن مواهب للكورال الذي يقوم بتشكيله. كان لفليفل دور أساسي في قبولها بالمعهد حيث أمضت خمس سنوات من التدريب، ويبدو أن إشرافه هو الذي قادها لتتقن مسار التجويد للآيات القرآنية.
بدأت مسيرتها كعضو في فرقة الإذاعة اللبنانية، وفي تجارب الأداء الفردية اختارت فيروز أن تغني موالا وأغنية (يا زهرة في خيالي)، ولاحظ صوتها المميز الملحن والمسؤول الموسيقي في الإذاعة (حليم الرومي) فجعلها تؤدي بشكل منفرد ولحن لها أغان خاصة بها، كما أعطاها لقبها (فيروز) لأن صوتها ذكره بحجر الفيروز النادر والثمين، وقد لاقى أداؤها حماسا غير مسبوق من المستمعين اللبنانيين بشكل عام، فالتقت على إثر ذلك مع الأخوين (عاصي ومنصور الرحباني) الذين كانوا يشقون طريقا موسيقيا وينمون المواهب من خلال ألحانهم وكلمات أغانيهم، رغم تميز ألحانهم بإدخال النغمات الغربية ضمن أغانيهم إلا أن الأغنية التي بدؤوا من خلالها طريق الشهرة كانت أغنية الحب (عتاب) التي سجلوها في إذاعة دمشق في الثاني من نوفمبر عام 1952، تبع ذلك فترة من الألحان المختلفة النمط لكن صوت فيروز الملائكي جذب الشهرة والانتباه من كل الجماهير على اختلاف خلفياتهم الوطنية والثقافية.
زواجها من عاصي الرحباني
في يوليو من عام 1954 تزوجت فيروز من عاصي الرحباني بحضور حشد من معجبيها، واستقروا في منزل في أنطلياس – إحدى ضواحي بيروت – منزلهم الجميل كان ملهما لهم في كثير من الأغاني التي قدموها لاحقا، وفي عام 1955 سافرت فيروز وعاصي إلى مصر للمرة الأولى، وأنتجوا هناك العمل الشهير (راجعون)، في ذلك الوقت كانت تعتبر القاهرة عاصمة الفن في العالم العربي من مسرح وأغنية وسينما، وجذب أداء فيروز في مصر العديد من العروض من الملحنين ومنتجي الأفلام إلا أنها في ذلك الوقت كانت تنتظر مولودها الأول، عادت فيروز إلى لبنان لتنجب (زياد الرحباني) في الأول من ينايرعام 1956، وأنجبت بعده أربعة أطفال، ثلاث بنات وطفل إلا أن زياد كان الأكثر قربا لها والذي ألف ولحن لها فيما بعد العديد من أعمالها.
في صيف 1957 قدمت فيروز عرضا مباشرا للمرة الأولى بعد أن كانت أعمالها مقتصرة على التسجيلات، حيث أدت استعراضا موسيقيا بعنوان (أيام الحصاد) أمام حشد جماهيري في معبد جوبتر الأثري في بعلبك، كان ذلك ظهورها الأول في مهرجان بعلبك الدولي، حيث كرمها الرئيس اللبناني آنذاك (كميل شمعون) بمنحها وسام (فارس) نظرا لإسهاماتها الفنية، بعد ذلك بأربعة عشر عاما أصدرت الحكومة اللبنانية طابعا يخلد اسمها، ثم أصبحت فيروز إحدى عوامل الجذب الأساسية لمهرجان بعلبك الدولي حيث قدمت سنويا مسرحيات موسيقية كتبت من الأخوين الرحباني خصيصأ لها.
تخطت العالم العربي
سمعة (فيروز) التي تخطت العالم العربي لتصل إلى أوروبا وأمريكا جعلت العديد من الملحنين والشعراء يتسابقون لتقديم الأعمال لها، فتعاونت مع (فيلمون وهبي، ومحمد عبد الوهاب، وإلياس الرحباني، ومحمد محسن، وزكي ناصيف)، وهو ما كانت حصيلته ذخيرة من أكثر من ألف أغنية وثلاثة أفلام وأربعمائة ألبوم خلال فترة زمنية امتدت لثلاثة عقود، كما دعيت لتؤدي في مختلف العواصم العربية وقدمت حفلات موسيقية في (نيويورك، وسان فرانسيسكو، ومونتريال، ولندن وباريس)، وحصلت على وسام الشرف عام 1963 والميدالية الذهبية عام 1975 من قبل ملك الأردن حسين.
عبرت (جارة القمر) إلى العالمية خلال فترة التسعينيات بأعمال عصرية وألحان رشيقة، لتتوهج وتتسع مساحة انتشارها وتسكن البيوت ويصدح صوتها عاليا بالأزقة والحواري في مختلف الدول العربية، ومن أهم الألبومات التي طرحتها في تلك الفترة، (كيفك إنت، إيه في أمل، ببالي)، هذا ويضم الأرشيف الفني للمطربة الكبيرة 36 ألبوما غنائيا و26 اسكتشا و9 قصائد و15 مسرحية و3 أفلام سينمائية، هى (بياع الخواتم 1965، سفر برلك، بنت الحارس 1968.
عرف عن فيروز وطنيتها الشديدة وحبها للعروبة، فلم تترك لبنان أثناء الحرب، ورفضت ترك منزلها ببيروت رغم تعرضه لقصف بصاروخ، وظلت في بيتها تنادي بوحدة شعبها، وتغني لدولة الأرز (بحبك يا لبنان)، ولقد كان الإرث الفني لفيروز والرحابنة متماشيا مع التطور الاجتماعي والثقافي في المجتمع اللبناني والعربي بشكل عام خاصة في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت ازدياد أهمية وسائل الإعلام من تلفزيون وإذاعة بالإضافة إلى انتشار المسارح وازدياد الحفلات الموسيقية.
نبع صاف ملىء بالإحساس
في كتابه (جارة القمر .. فيروز ورحباني والأغاني)، يقول فؤاد بدوي: إن المتتبع لفن الغناء المصري حين يرهف السمع يلمح وجوه شبه كثيرة بين الكلمات والألحان، وحتى طريقة الأداء الفني عند كثير من المغنين والأصوات فيما عدا أم كلثوم التي تتميز بحلاوة صوتها وقوته وطول نفسها وقدرتها على الغناء ساعات متواصلة، إلا أنه عندما يرهف السمع في لبنان سوف يجد شيئا خاصا ومميزا ومختلفا عن كثير مما سمع من قبل.. ذلك الشىء هو الأغنية الفيروزية الرحبانية التي تتحدد أهم ملامحها فيما يلي :
إذا عرفنا أن الأغنية، أية أغنية ليست أكثر من كلمات ولحن يكسو هذه الكلمات وصوت ينقل الكلمات واللحن بنغم خاص إلى آذان الناس، وتتبعنا العناصر الثلاثة في أغنية (فيروز – رحباني) لوجدنا أن فيروز كصوت نبع صاف ملىء بالإحساس، الإحساس بالموسيقى، الإحساس بالكلمة المؤداة .. تغطيها كثير من الألوان والظلال .. تشدو لتضعها في قلب الناس من الأذن والقلب والعقل والضمير والوجدان.
وهنا يذهب إلى أن صوت فيروز ذو أعماق تضرب في التاريخ الإنساني، صوت له مذاق خاص، جماله المتميز يكمن في أنوثته الراقية النظيفة والملائكية، صوت فيروز يؤدي كل الألحان في يسر وسهولة ولين وغنى، والملمح الثاني في أغنية (فيروز – رحباني) بحسب فؤاد بدوي، هو الألحان، والسمة الأولى في موسيقى رحباني هى البساطة الشديدة والاتساق والتناسق والتناغم واتباع الأسلوب العلمي، هى إذا سهولة ممتنعة، النغمة تعمق وتؤدى بكثير من الآلات وتزع بينها، وأحيانا صوت فيروز يبدو لك كآلة موسيقية فريدة لتحدث أثرها المرجو والكبير والخطير في النفس.
تبدو كاللوحة والصورة الأنيقة
الموسيقى شجية ورقراقة، تروي أعماق النفس، وقد استطاع (الإخوان رحباني) اللذان ورثا موهبة واستعدادا فطريا كبيرا، ومرا بمراحل دراسية فنية تعرفا فيها على أنغام العصر والموسيقى العالمية والموسيقى الشرقية بعد أن تشربا بموسيقى الكنيسة، استطاعا أن يحدثا ذلك التزاوج العجيب بين النغمة الشرقية الحقيقية (الفلكلور أو المؤلفة) وبين أحدث شكل للتوزيع الموسيقي في العالم، كما استطاعا أن يحدثا التزاوج نفسه بين الكلمات (تراثا كان أو تأليفا) وبين هذه الألحان، وأعطيا ألحانها القدرة على أن تكون أرضية نغمية لكثير من الرقصات الشعبية، ولكثير من الرقصات العالمية المعروفة كذلك، وتأتي الكلمات فيما بعد.
وعند تتبع مسيرة فيروز ورحباني الغنائية سوف نلحظ أن أغنياتها تبدو كاللوحة، كالصورة الأنيقة، تبين كوعاء أنيق ملىء بالموسيقى، مشحون بالفن والعاطفة، نابض بالشعر والإحساس والخيال، والأغنية موقف، ولعل أغنية (ياريت)، وهى أجمل وأروع وأقصر أغنية حب في التاريخ العربي، ولها موقف كبير، أغنية لا تأخذ أكثر من دقيقتين ونصف من الزمن، ومع ذلك تنقل للإنسان في هذا الوقت القصير حبا كبيرا ودفئا ونورا ورغبة.
رهافة الحس والخيال
ويبدو الإنسان هو حجر الزاوية في كل أغاني فيروز، فكلمات أغنياتها تحب الإنسان، وتوقظ الإنسان ولا تخدره، تدفع الإنسان للأمام وإلى العلا وتحييه وتحيي العمل والنضال (الزراعيين اللي بيعطوا) و(العائدون) و(الكرامون – صانعي الأحذية)، كما أن هذه الكلمات المليئة بالإنسانية والشعر ورهافة الحس والخيال هى عارفة أيضا بالفرح وتعبر عنه، وتغني طبيعة لبنان الأخضر الرائعة.. ثمة شيئ آخر نضيفه إلى ملامح أغنيات فيروز رحباني، ذلك الاهتمام الكبير إلى جوار تقديم أغنيات فردية نادرة ممتازة، الاهتمام بتقديم الصورة الغنائية التي يشترك في أدائها وتصوريرها عديد من الأصوات، فيروز وغيرها من الأصوات النسائية ، ووديع الصافي أو نصري شمس الدين، وغيرهما من أصوات الرجال.
هذه الصورة الغنائية يحس فيها الرائي والمستمع بالجماعة، ويرى القصة، الدراما، التطور، الموسيقى التي تعبر، وليست ألحانا خفيفة لأغنيات فردية، بل موسيقى تصور تعبر، وهذا في الحقيقة يجعلنا واثقين من أن الأغنية الفردية التي تألقت في مصر على يد أساطين الطرب (ألمظ – عبده الحامولي – محمد عثمان – منيرة المهدية) كانت قد تطورت إلى لبنان في المسرح الغنائي الذي رفع لواءه سلامة حجازي، والذي سار به إلى الأمام سيد درويش العظيم، الذي حمل الراية وسار يبعث من قلبه في موسيقاه ألحانا تحيا في قلوب الناس في مصر وفي لبنان وفي المنطقة العربية يأثرها، يسمعه الرحباني الكبير ويغني ألحانه، ثم يعرف عاصي ومنصور أهمية أن يكتبا للناس مسرحا غنائيا، فتكون اسكتشات (الليل والقنديل – جسر القمر – بياع الخواتم – أيام فخر الدين)، وغيرهم.
قدمت سجلا من الاستكتشات الغنائية
ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن رحباني شاعرين وموسيقيين يخطوان بالأغنية إلى المسرح الغنائي منطلقين من سيد درويش موسيقى وأفكارا، مستفيدين في الطريق بكل فنون الفنون، من الشعر والدراما والتصوير والموسيقى العالمية ، وحتما من صوت فيروز، وبعد انتكاسة المسرح الغنائي بعد موت سيد درويش لم يعد هناك في الوطن العربي سوى الأغنية لتعبر عن طاقات الإنسان الصوتية، وانفعالاته ومشاعره، وفي لبنان كان الأمر كذلك، وفي البداية فكر الرحبنيان في ابتداع شكل تعبيري موسيقي غنائي جديد أسمياه الاسكتش، بمعنى أن هناك موضوعا دراميا متكاملا له عقدة وبداية ونهاية وصراع وحل يقع في حوالي نصف ساعة، في ذات الوقت الذي اهتما فيه بتطوير الغناء البلدي، أي الغناء الذي يسري بين طوائف الشعب، ولقيا في ذلك نجاحا ملحوظا .
ومن الاسكتشات التي لاقت نجاحا وعاشت (زرياب) الذي يصور قصة ذلك المغني العربي الأسود الذي هاجر إلى الأندلس، و(ابن هند) الاسكتش الغنائي الذي عزفته لأول مرة فرقة سيمفونية كاملة، والتي راعت أيضا توزيع أرباع النغمة الشرقية، وصادف النجاح في هذه المحاولات الفنية الرائدة هوى في نفوس الرحباني والناس، واستمروا في تقديمه حتى وقت ليس ببعيد، وبعد اكتشافهما فيروز سجلا من هذه الاستكتشات ما يمكن أن نعتبره تجاوزا أوبريتات عربية صغيرة، أو بذرة أوبرا عربية.
ترتدي أثوابا من الشفافية والخيال
لقد وضع الرحابنة بأسلوبهم اللحني الفريد ألوانا الموسيقى التي ميزت بلاشك طريقة الرقص اللبناني بحيث تتماشي مع الدبكة اللبنانية الرقصة المشهورة، وغنت فيروز ألحانا قريبة من ذلك النوع، ولكن لايمكن أن توصف بأنها راقصة فحسب، بل يمكن أن توصف بأنها رحبانية تستخدم الأسلوب العلمي في التأليف والتوزيع وتؤدي عليها فيروز بصوتها الكلمات التي كتبها الأخوين رحباني، والشعراء (سعيد عقل – عبد الله الخوري – ميشيل طراد – نزار قباني – بدوي الجبل – قبلان مكرزل – عمر أبو ريشة – صلاح لبكي – إلياس أبو شبكة – أسعد سابا – بولس سلامة – ميخائيل نعيمة – جبران خليل جبران – إيليا أبو ماضي – هارون هاشم رشيد، والشاعر الغنائي المصري مرسي جميل عزيز)، كما غنت فيروز أيضا من شعر الشعراء القدامى مثل (ابن دريق البغدادي وابن جبير).
ومن أشهر الأغاني الفلكولورية (يا با لالا – هيك مشق الزعرورة – ياما يله عالغصون – ياغزيل يا ابو الهبا عالهدا مشية حبيبي – هالالالايا – عاللوما اللوما اللوما، وفى هذا اللون ظلت فيروز تغني، وعندما تغني يقف الجبل وينور في كل مكان صوتها، حيث يرتدي أثوابا من الشفافية والخيال والحب يصنعها هذا الصوت الواصل مابين الرض والسماء، بينما يعيش الناس في صوتها أحلاما حلوة وأوقاتا جميلة ويسبحون في عالم من الأحلام السعيدة الناعمة، وفوق كل ذلك يبقى لصوت فيروز القدرة على أن يغسل الأحزان.
يقول التاريخ إنها أقدم ما بناه البشر في العالم، هذه المدينة التي تغني لها فيروز، وكأنها تأتي بالكلمات والنغم من عالم أسطوري مسحور، تقول لها:
أنا شمعة على دراجك
أنا نقطة زيت بسراجك
وتقول أيضا :
وياليالي حليانه
ياقصة عز عليانه
غنت لمكة .. للبنان .. لحلب
فيروز غنت لمكة .. للبنان .. لحلب .. لربع فلسطين .. لشط الاسكندرية .. لورد الربيع .. لنيسان .. للود .. للمشمش .. للطير .. وللعاصفير .. للنسيم .. لأسطح الدور .. للفجر والسهر والشمس والريح والصخرة والانتظار، والضيعة، هى دنيا المعيشة والحب والليل والسهر تدعو لها بالعز فهى أرض اللوز والتفاح وهى تلال الصنوبر وهى نهر كوثر، وهى قناطر مرمر، وهى الخيمة والأرض، والموعد والمواويل التي تنشدها فيروز أحيانا في بدء أغنياتها قصائد قصيرة مكتوبة بالعامية اللبنانية الآسرة والأخاذة ترسم بسرعة ماهرة موقفا محددا مشحونا ومثيرا، كما في :
بكير طل الحب ع حي لنا
حامل معه عتوبة وحكي ودمع وهنا
كنا وكانوا ها لبنات مجمعين
يإمي وما بعرف ليش نقاني أنا
وأهيم معها سابحا في ملكوت الله الواسع والطير يحمل السلام والأشواق يعمل بنشاط وهمة في أغنيات فيروز فتطير رفوف الحمام ويأتي عصفور الجناين بالسلام ضاربا بأجنحته لينزل على شباك الدار، وشجرة الرمان بأزهارها الحمراء التي تحمل لون الحياة والحب والرغبة، تسمع تحتها الغزل ويحدثها العصفور، كما أن العيون السمراء عالم خاص من عوالم أغنيات فيروز (سمرا يام عيون وساع، أسمر كحيل العين)، وهنا تطلب فيروز أن تكون شراعا قاصدا ميناء منسيا.
أما الحب فتحكيه أغنيات فيروز بفرح وسعادة تغمر الإنسان بالسعادة:
سني عن سني
باحبك ياحبيبي
أكنر من سني
عم تغلى على قلبي
يأول الجني
الشجاعة ورفض الضيم والظلم
أما في أغنية (راجعون) فنحن نعيش قصة فلسطين العربية، وقضية مليون لاجئ فلسطيني لم الحق كل الحق في أن يعودوا إلى ديارهم أحرارا، تعيش هذه القضية في برنامج عائدون بشكل فني رائع ومثير للنفس والقلب ملئ بالشجاعة ورفض الضيم والظلم والإصرار، والكورس يقول للعبير المسافر أنت من ديارنا ومن شذاها أنت من حقولها، ويسألون هذا العبير عن الديار، وتتعجل السلام .. السلام النفسي المرجو لأهل يهيمون في الأرض مشردين، ويثير غناء هؤلاء الهائمين في الدروب لوعة المغنية، وترى فيهم رياح بلادهم ومرح الطيور، وظل السماء ولون الهناء في أبهى صوره.
ومن أجمل صور العيون التي غنتها فيروز تلك الكلمات التي تقول للسمراء ذات العيون الواسعة:
مطرح ضيق ما لابيساع
راح احطك بعينيه
خليني بعينيك شراع
وللأرض المعطاء وللشمس تغني فيروز للزيتون غصن سلام ومحصول وفير، وللقمح سنبلات وغذاء، للمزارع، للكروم، للقطن الذي تصفه الكلمات بأنه ثلج من صنع الأيدي البشرية القوية، والذي يشبه أيضا الحمامات البيضاء والغنوة، وبماذا يقابل الريح؟ بالرقص القوي والأغنية المليحة لأن الريح سوف تحمل السحاب الذي يزيح المطر فتزيد الخيرات، وبعدما يمضي المطر يلعب البنات والأولاد بنور الربيع وتجميد العناقيد، هى إذا صورة كاملة للقرية، العمل والمرح والجني والحصاد في (عم بتضوي الشمس).
تصور أصوات الملائكة
عن صوتها يقول فؤاد بدوي :من بين بني البشر المعاصرين لم يقدر لأحد بعد أن يسمتمع إلى الملائكة، ولكن صوت فيروز هو الصوت البشري الوحيد الذي يستطيع أن يعطي الذهن المعاصر فرض تصور أصوات الملائكة، فهو يصل بروعة ما بين السماء والأرض، بين أمنيات الإنسان العلوية الراقية وعواطفه السامية، وأمانيه وبشريته وسعيه وكده وعرقه، وصوت فيروز بنبع رقيق ملئ بالحنان والعاطفة، صوت ينطلق من فوق الأشجار ويحمله الريح ويسافر به آمادا بعيدة ليسكب في قلب المستمع الأساطير والأسرار والبحر والحكايا الجميلة النابضة بالحيوية.
وصوت فيروز دافئ قادر على صنع النشوة، صوت شجي ومغرد فيه من لبنان الاخضرار والربيعية والجمال، وبه عذوبة وبكارة ونضارة، على إيقاع خطى القرية ورقصة الفرح وسهرة الليل وشعاعات القمر السكرى .. صوت رخيم معبر وذكي ومرن وجذاب وطبيعي وعذب، وهى تعرف كيف تستعمل صوتها لتفسر به الأحاسيس والعواطف، فضلا عن نجاحها في كل ألوان الغناء العربي قديمه وحديثه، إلى جانب الموشحات والقصائد والأغاني الحديثة الراقصة المفعمة بالبهجة والفرح.
قيل عن صوت فيروز أنه آلة موسيقية متقنة الصنع، وهذا لاينقص من قدرة هذا الصوت المصقول اللامع الذي يؤدي مع الموسيقى آداء جيدا ومرهفا، وصوت فيروز ينقل للقلب صور الفرح والعادة والحزن واللوعة والحنان والأسى، والسحر في صوتها يثير في القلب الحنان والعاطفة، كما أنه يثير في الإنسان الخشوع ، ويتعامل مع منطقة راقية من إحساس الإنسان ، لايثير في الإنسان الإحساس بالجنس، كما لايذكره بالرغبات البشرية الأرضية كالجوع إلى الطعام أو اللحم ، ولكنه يثير فيه الإحساس بالإنسان .. بالحب .. بالعاطفة .. بالصداقة .. بالخير .. بالكلمة الحلوة .. بالشكر .. بالموسيقى بصورة جميلة رآها .. بمشهد ما أعجبه .. بعبارة غرام رائعة .. بعينين جميلتين .. بوردة حمراء .. بالقمر بدرا بعد غياب طويل.
وحدت اللبنانيين بصوتها
وطوال العقود الماضية، استطاعت فيروز بفنها الراقي أن توحد اللبنانيين حولها في ذروة انقساماتهم الطائفية، وصراعاتهم المذهبية، لكن ميل السيدة القديرة فيروز لحب السيد حسن نصر الله ربما أسقطها – بعض الوقت – في وحل السياسة اللبنانية، عبر تعرضها – للأسف – لحملات تخوين بلغت حد إعلان وفاتها كرمز وطني للبنان، إلا أن حب اللبنانيين لفيروز يفوق كرههم لبعضهم البعض في السياسة، مما جعلهم جميعا يشاركونها العام الماضي في إطفاء شمعتها الـ 86، واليوم يرقبونها عن كثب وهى تخظو بجدية نحو عتبة التسعين بذات المذاق الغض الندي لأغانيها التي تسكن الذاكرة العربية كلها بمزيج من الحب والحزن والحنين، مرفوعة الرأس في سعيها نحو آفاق الحرية، في لحظة أخرى فارقة من عمر وطنها لبنان الذي دبت فيه من جديد نيران الفرقة والانقسام الحالي.
يبقى أن نقدم تحية تقدير واحترام لجارة القمر التي تميزت أعمالها بشكل عام بالإبداع على مستوى الكلمة واللحن، بالإضافة إلى الغنى والتنوع في نمط الأعمال، فغنت فيروز للحب والحياة البسيطة والوطن والقدس، كما قدمت القصائد والأناشيد القديمة وذات الكلمات المعقدة لعدد من كبار الشعراء أمثال (أبو القاسم الشابي) بأسلوب مميز جعلها قريبة من العامة، وأبدعت في الموشحات الأندلسية والمواويل والعتابات، ولعل تأثيرها الكبير على الشعوب وعلى الموسيقى العربية المعاصرة هو الذي أكسبها وعن جدارة لقب (سفيرة النجوم) .. متعها الله بالصحة والعافية لتبقى متوجة على عروش قلوب محبيها في سائر بقاع الأرض.