فى ذكرى ميلاد الأسطورة (صباح) نتذكر كيف ضاع صوتها وهى صبية !
كتب : أحمد السماحي
فى أحد الأيام اصطحبت الأم طفلتها الصغيرة وذهبت لزيارة إحدى العائلات الصديقة في بلدة (جل الديب)، وقالت لهم صاحبة البيت: بالقرب من منزلنا كنيسة كل من يدخلها للمرة الأولى ويطلب أمنية معينة تتحقق له، بُهرت الطفلة الصغيرة بكلام صاحبة البيت وشغلها جدا، وأصبح كل همها أن تختصر إجراءات الزيارة وتقاليدها لتذهب إلى الكنيسة، لتطلب أمنيتها الأولى، وانتهزت الطفلة فرصة انشغال الجميع بتناول الطعام، فتسللت بهدوء وحذر شديدين دون أن يشعر بها أحد ودخلت الكنيسة، وبكت وهى تصلي طالبة تحقيق أمنيتها الوحيدة وهى أن تصبح مطربة معروفة مثل (أم كلثوم).
كانت هذه الطفلة الصغيرة هى (جانيت) أو (صباح) التى أصبحت فيما بعد مشهورة بـ (الشحرورة)، و(شمس الشموس) و(الأسطورة)، وإمبراطورة الأغنية اللبنانية التى سحرتنا بصوتها الذي يتلاعب بأوتار القلوب، والتى يعتبر شهر نوفمبر هو شهرها بامتياز ففيه ولدت يوم 10 نوفمبر 1927، ورحلت يوم 26 نوفمبر 2014، وما بين الميلاد والرحيل كتبت أسطورتها الخالدة.
بدادون البداية
أبصرت (جانيت) النور في (بدادون) وهى المولودة الثالث لأسرة (جرجي فغالي) بعد (جوليت ولمياء)، لذلك لم تستطع الأم (منيرة سمعان) أن تقاوم دموعها عندما علمت أنها وضعت بنتا، لأن الأسرة كانت تريد صبيا، لم يكن مولد (جانيت) يوما سعيدا، لم تنطلق الزغاريد، ولم تقرع الطبول، بل سيطر الحزن العميق على البيت، وقيل أن الأم امتنعت طوال يومين عن إرضاع الوليدة الجديدة، وكانت غير راغبة فى النظر إلى وجهها، ولولا حكمة عمها الشاعر المعروف (أسعد الفغالي) أو شحرور الوادي لما اقتنعت بوجوب إرضاعها.
وبعد أسابيع بدأت الأم تحب ابنتها وتدللها، وعندما بدأت (جانيت) تعي الحياة وتدرك الأمور ومعاني الأشياء، اقتربت من أمها أكثر حيث كانت (الأم) خفيفة الظل، مرحة، تعشق الفن، حتى أنها كانت تحضر إلى المنزل أحد عازفي العود لكي يعزف أمام العائلة، مما جعل مواهب (جانيت) الفنية تتفتح وتتجه صوب الغناء.
مقتل الشقيقة الكبرى
كانت الحياة فى العائلة هادئة، فالأم تغدق علي بناتها وابنها (أنطوان) العطف والحنان بلا حساب، والوالد يهتم بزراعة الأرض التى يملكها فى القرية، غير أن هذا الهدوء هزه مقتل الأبنة الكبرى (جولييت) فى حادث إطلاق رصاص وقع فى القرية، وكان سببا لمغادرة (جانيت) القرية إلى بيروت والالتحاق بالمدرسة الرسمية أولا ثم بالمدرسة اليسوعية (الجيزويت) نزولا عند رغبة عمها الشاعر (شحرور الوادي)، الذي لعب دورا هاما فى هذه الفترة من حياة (جانيت) فهو الذي عودها قراءة الشعر، لاسيما قراءة أشعاره وزجلياته التى كان ينظمها باللهجة اللبنانية.
وقد لاحظ أنها كانت تبكي من شدة التأثر عندما تقرأ هذه الأشعار والزجليات أو عندما تغنيها بطريقة مؤثرة، فتنبأ لها بمستقبل باهر في عالم الغناء.
الأميرة هند
العمل في الفن مهنة كانت الأسرة ترفضها، وتعتبر أن احتراف الغناء عيبا خاصة أن جد (جانيت) كان كاهنا هو (الخوري لويس الفغالي) وخال أمها كان مطرانا هو المطران (عقل)، لكن يبدو أن الظروف كانت تتحرك وتعمل لصالحها، فقد حدث أن قررت المدرسة تقديم مسرحية اسمها (الأميرة هند)، ورشحت الراهبة المسؤولة عنها الصبية (جانيت) ابنة الرابعة عشر لأداء دور البطولة بعد أن لمست فيها حبها للفن والغناء، وبدأت بروفات المسرحية وحضر إحدى البروفات الفنان (عيسى النحاس) الممثل المسرحي الذي كان اعتزل التمثيل لكبر سنه، وأصبح يعمل فى تأجير الملابس المسرحية، وأعجب (النحاس) بالصبية الصغيرة وأحضر لها ملابس الأميرة (هند) وأطلق عليها لقب (الشحرورة) تيمنا بإسم عمها (شحرور الوادي).
راهبات المدرسة
بعد عرض المسرحية التى حققت نجاحا كبيرا ذهب (النحاس) إلى والد (جانيت) وطلب منه أن تعمل ابنته وتغني في أماكن أخرى، ولم يتقبل الوالد فكرة اشتراك ابنته في الغناء فى أماكن غير المدرسة، وشاركه الرأي باقي أفراد العائلة، غير أن الأم كانت إلى جانب ابنتها، ورغبت في تشجيعها، وكانت تشجيع الأم والاستحسان الذي لمسته من راهبات المدرسة كانا دافعا قويا لها للسير نحو الهدف الأكبر الذي تسعى إلى تحقيقه ولو كلفها ذلك حياتها، حيث أصبحت مشغولة بالفن إلى حد الجنون.
نقابة الصحافيين
جاءت لـ (جانيت) أول فرصة للغناء خارج المدرسة وفي مكان محترم هو مقر نقابة الصحافيين، وحاولت الأم عمل المستحيل لإقناع الأسرة، حيث ستغنى (جانيت) أمام أصحاب الأقلام من الأدباء والكتاب الذين يقدرون الفن ويحترمون من يمارسه احتراما كبيرا، وبعد طول تفكير وافق الأب، ويوم الحفل لم تعرف (جانيت) كيف تسيطر على أعصابها ومشاعرها أمام هذا الجمع الكبير من الصحافيين والكتاب، إنه ليس جمهورا عاديا بل هو جمهور ناقد لا يرحم، ومن شدة خوفها ضاع منها صوتها!، ووجدت دموعها تسيل على وجهها، وهى واقفة على خشبة المسرح تحاول استعادة صوتها وثقتها بنفسها.
فى هذه اللحظة سمعت التصفيق، حيث شعر الحضور بحرجها البالغ فأرادوا أن يشجعوها وينقذوها، وحينما شعرت بتعاطفهم معها وتشجيعهم لها، استعادت صوتها وبدأت تغني مواويل (بوالزلف والعتابا والميجانا) مما نظمه عمها (شحرور الوادي)، وكان تقديم هذه المواويل صعبا بالنسبة إلى فتاة صغيرة لهذا صفقوا لها مرة ومرات، وبعد هذا التصفيق تعودت (الشحرورة) على التصفيق الشديد طوال مشوارها الفني، ورغم أن الدموع قد عرفت طريقها إلى عينيها وعاشت مآسي كثيرة جدا بصمت مطلق فإن الابتسامة بقيت تشرق على شفتيها ولم تفارقها أبدا.