بقلم : محمد حبوشة
قد أختلف مع طريقة الحوار التي يقدمها الإعلامي الكبير إبراهيم عيسى، وربما لايعجبني منهجه أحيانا في التفكير فيما يتعلق ببعض القضايا الشائكة، ولكن هذا لايعني أن أقوم بالهجوم عليه بطريقة همجية خارجة عن السياق الأخلاقي والسماح لنفسي بتقيمه على هواي الشخصي، ومن ثم أكيل له جرعات مكثفة من السب والقذف، و أتهمه علانية بالخروج على الدين والملة، ومن ثم وجب عقابه بالجلد والسحل اللفظي، فهذا سلوك شائن وعنيف ومستنكر، حتى ولو أعلن جهار نهارا أنه خرج على الملة، ببساطة لأننا بشر مثله وليس من حقنا محاسبة غيرنا على أخطائه في حق الدين والعقل والمنطق، بل يبقى حسابه مع خالقه سبحانه وتعالي، إنه نعم المولى ونعم القدير، ولاننسى أنه سبحانه هوالرفيق ببني البشر الخطائيين.
وترتيبا على ما سبق فإن الذين هاجمو (إبراهيم عيسى) هجوما ضاريا على صفحات السوشيال ميديا ليس من حقهم لمجرد الخلاف في الرأي ألا يتحلوا بأدب الحوار وينزلون إلى الدرك الأسفل من سوء الأخلاق في مباراة تصعيدية منذ أيام، حيث ماتزال تلوكه الألسنة بأقظع العبارات لأنه قال: (ليه أدخل أجزخانة ألاقي الشاب الصيدلي قاعد بيقرأ قرآن.. من باب أولى يقرأ مرجع أدوية)، وهنا أتساءل: ما الخطأ الكبير الذي وقع فيه (إبراهيم عيسى) في قوله هذا حتى يلبسوه الحائط ويتهموه بالذندقة والخروج على الملة والحديث فيما لايعنيه، أليس الرجل من أكبر قادة الرأي والتنوير في مصر شاء من شاء وأبى من أبى؟، ولاشك التنوير يقوده النخبة المثقفة من المجتمع للأخذ به الى الطريق الصحيح طريق يؤدي الى هدف اسمى يتمثل في حرية التعبير، وفي المقابل توجد ثقافة سائدة منتشرة بشدة، تقدس الشيوخ، وتقدس الخرافات، وتقبل وتسلم بأن تذهب بعقول الناس .. هؤلاء هم من كرهوا إبراهيم عيسى.
لقد ساءني جدا قول الدكتور جمال شعبان أستاذ القلب الشهير حرفيا: (وأنت مال أهلك.. الصيدلي يقرأ القرآن ولا انجييل ولا توراة، وقت ما يحب، أو مكان ما يحب دي حرية شخصية أيها التنويري ومدعي الحداثة والتحديث)، وأرى أنها لغة لاتليق بطبيب من صفاته الرحمة والتعامل بنبل مع كافة أفراد المجتمع، ولا يليق به أبدا استخدام تعبيرات سوقية من شأنها أن تحط من شأن من يختلف معه في الرأي مهما كان نوع الاختلاف حتى لو كان في شأن من شئون الدين، بل كان ينبغي عليه الرد بالحجة دون التطرق إلى (الشتيمة) بالأهل، ما يعكس حالة من الحقد والغل التي تعبر عن مرارة من جانبه تجاه إعلامي معني بتجديد الخطاب الديني، حتى ولو كان الأمر يتعلق بصيدلي أو موظف يقرأ القرآن في أثناء فترة عمله الذي يعتبر في حد ذاته عبادة ألا يحدثنا ويحثنا الإسلام على العمل وجعله في مرتبة العبادة .. لماذا إذن كل هذا الجدل العبثي؟!
وهنالك أيضا من تولى نفس وجهة نظرا (شعبان) التي يؤسفني أن أقول أنها نوع من (قلة الأدب) وعدم الدراية بأدب الحوار حول تصريحات إبراهيم عيسى التي جاءت في نفس برنامج (حديث القاهرة) الذي يقدمه على قناة (القاهرة والناس) في رده على ما جاء في قول عيسى: (حتى على مستوى الكليات النظرية مبندرسهاش صح، ولا تؤهل طالب بعقل نقدي يسأل ويفكك ويطرح نقاط ويعرف يختلف ويعترف يناقش، انتوا بتعملوا بالكليات النظرية تحفظ صم أطرش وتخرج فبيطلع بالآخر أي متطرف بخمسة ساغ يقدر يضحك عليه ويقدر يحشي دماغة بأي شيء)، وللأمانة هو محق تماما في توصيفه الدقيق لحالة التعليم في مصر، لكن هيهات أن يقول ذلك وسط الغوغائيين ومشعلي الفتن وضرب الأسافين حين انهالوا عليه بالرد بنفس أسلوب (شعبان) القبيح.
ربما أعاد قول إبراهيم عيسى عن الصيديلي والكليات النظرية أجواء انتقاده الشيخ محمد متولي الشعراوي في إحدى البرامج الفضائية مشيرا إلى أن الشيخ الشعراوي ليس له منتج ثقافي أو فكري، ولم يحصل على الدكتوراة أو الماجستير لافتا إلى أن كل ماكان يقدمه الشيخ الشعراوي هو محاضرات لجمهور عام وليس له ثقل معرفي، وإن أفكاره رجعية مناهضة للفكر والتقدم، وأنه يستخدم المنح الربانية في خدمة التطرف والإرهاب، وهذا كلام لم يلقى هوى في نفسي في حينه، ومع أنه أمر ليس هين على أي محب للشعراوي، لكنه في النهاية مردو عليه بالحجة والمنطق والعقل لا بالشتيمة والقذف والسب والاتهام بالكفر، كما حدث في واقعة الصيدلي التافهة شكلا وموضوعا ولا تحتاج ثورة الغضب من جانب من أغلقوا قولهم وقلوبهم في وجه إبراهيم عيسى.
حملة الهجوم الشرسة على إبراهيم عيسى من جانب البعض الذي رأه خارجا عن السياق العام لا تتفق أبدا مع ما قاله، خاصة هناك من رأى كلامه صحيحا، وتمثيل الواقعة بالصيدلي هو تمثيل أدبي لتصوير الإهمال في العمل ومشكلات الإهمال الوظيفي والفني والعلمي، وذلك حسب قول أحد المؤيدين لكلامه: (لما طبيب سايب عمله وبيصلي أو يقرأ قرآن دا (طبيب مهمل) قد تجمع بين الاثنين، أي بين الدين والعمل، لكنه يحدث في مجتمعات تقدم الفهم على الحفظ مش في مجتمعنا).
ولأن الرجل أعمل عقله، في التراث والمسكوت عنه تحديدا بأغلب كتاباته وبرامجه كما ألحظه وأتابعه بشغف، فتصيدوا له ما قال به عن ذلك الطبيب الصيدلي الذي آثر قراءة القرآن بديلا عن أن يقرأ في علم الصيدله، وهذا يدفعني لأن أقول لبعض من أساءوا الأدب في الحوار: (كفوا أيديكم عن إبراهيم عيسى)، فإنه يسير على خطى التنويريين الكبار، ممن كرههم الأزاهرة وقالوا بتكفيرهم والارتداد عن إعمال العقل، ففي العصر الحديث ظهر تنويريون كبار أمثال طه حسين وفرج فوده وخليل عبد الكريم وغيرهم، ومؤخرا المستشار أحمد عبده ماهر، الذي لم يشفع له مرضه عن محاكمته بتهمة إزدراء الأديان، وهى تهمة لم يقل بها الإسلام ولا نبيه.
أين فضيلة أدب الحوار الراقي في حال الاختلاف، فالحوار يعرف بأنه لغة مراجعة النطق، فيقال تراجعوا في الكلام بينهم أي تحاوروا، والمحاورة هى المخاطبة بين شخصين أو أكثر وتأتي بمعنى التجاوب، أما اصطلاحا فيعرف الحوار بأنه ضرب من الأدب الرفيع وأسلوب من أساليبه، وبمعنى آخر المراجعة في الكلام لكن بطريقة مهذبة وألفاظ حسنة، وعادة ما يطلق مصطلح الحوار على تواصل ثنائي الاتجاه بين الأشخاص، بشرط أن يمتلك كلا الطرفين آراء متماثلة حول الموضوع الذي يدور حوله الحوار، فلا يطلق مصطلح الحوار على تواصل بين طرفين مختلفين ومتعارضين في وجهات النظر، إذ تستخدم حينها مصطلحات، مثل: الجدل، والمناظرة، وغيرها من أساليب فجة توقع الإنسان في المحظور.
وفي النهاية أقول و رزقي على الله : لقد ذهب الذوق لدى المصرين وانعدم تماما، بعدما توزع القبح في كل مكان، وربما يسأل البعض، وما علاقة كل هذا بالطبيب قارئ القرآن بالمصحف، إليهم أقول: الناس في بلادي للأسف أصبحوا تحكمهم عواطفهم المشوشة، بسبب الاستغراق في الدين وتدينهم المفرط بأن يتركوا ما بأيديهم قاصدين صلاة لم يقل بها الله، ولأن العمل لا شك عبادة ، ولو كنا أخذنا بها لأختلفت أحوالنا، لقد ارتقى الإسلام إلى مستوى التكريم للإنسان باستخدام العقل والحوار مع الصغير والكبير والذكر والأنثى والعالم والجاهل والمؤمن والكافر.
إن فتح باب الحوار ساعة خير من الجدال ألف ساعة، إن التحاور بين الطرفين دليل على قبول الحق من كل منهما، وما أحوج المجتمع المسلم إلى الحوار الهادئ الهادف البناء الذي يجلي الحقيقة ويكشف الغموض ويعيد الحق إلى نصابه مع الرضا والقناعة التامة، وما أحوجنا إلى أن يتعمق مدلول الحوار ومفهومه لفظا ومعنى منهجا وسلوكا حتى لا تتحول حواراتنا إلى جدل عقيم.
وأخيرا وليس آخر: ما أجمل أن نضع الحوار في موضعه وأن نحقق أهدافه، وأن نعالج به مشكلاتنا وأن نصحح به أخطاءنا، فهو وسيلة فاعلة لتحقيق الأهداف المنشودة للمعلم والداعية ولرب الأسرة وطالب العلم ولكل مسؤول فهو ضرورة من ضرورات الحياة مع ما فيها من شقاق ونزاع ومد وجزر وأخذ وعطاء وهو ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فالحوار محمود والجدال والمراء مذموم، ولقد وضع لنا القرآن الكريم أسس الحوار العقلي مع الآخر في قوله سبحانه وتعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، والهدف من الحوار الهادي مع الطرف الآخر إيصال الحق إلى مستحقه مع احترامه والحرص على مصلحته دون استفزاز أو إثارة أو استهزاء أو سخرية أو الاتهام بألفاظ سوقية.