رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

قابل للكسر .. ترنيمة شجية تقاوم الهزيمة النفسية !

أفيش الفيلم

كتب : محمد حبوشة

تناولت السينما عبر تاريخها الطويل الذي تجاوز مئة عام وأكثر العديد من القصص والمآسي والأحداث الواقعية، واستطاعت أن تعبر عن كثير من الشخصيات، والمهن، والوظائف، لدرجة تجعلنا نقول إنها لم تترك أمرا إلا وتناولته، حتى أصبحت سمات الاختلاف والتجاوز والتفرد في بعض الأفلام؛ ناتجة عن كيفية التناول الفني، والتجديد في رسم الشخصية، والتكوين والكادر، ويبدو ملحوظا أنه في أوائل الألفية الثالثة تناولت أفلام (السينما المستقلة) إشكالية الدين بطرائق متباينة ومغايرة لما اعتاده المشاهد وخاصة العلاقات الإنسانية تجاه الآخر/ المسيحي، وتجاه الآخر/ المسلم، والمتأمل لهذه الأفلام يجد أنها تشكل اتجاها جديدا في التعبير السينمائي عن هذه الإشكالية، كما شاهدت ذلك مؤخرا في فيلم (قابل للكسر).

نانسي وكريم .. حب مكتوم حتى النهاية

قدم هذا الفيلم معالجة رائعة وبطريقة غير مباشرة عبر علاقة عاطفية بين شاب مسلم وفتاة مسيحية من خلال  رصد أدق التفاصيل التي تمر بها البطلة خلال فترة استعدادها للهجرة خارج مصر، وفي خضم تلك الحالة الرومانسية الشائكة في الواقع بينما نراها سلسة للغاية على الشاشة من خلال (نانسي / حنان مطاوع )، و(كريم/ عمرو جمال) يتناول الفيلم عددا من القضايا والعلاقات الإنسانية أبرزها علاقة نانسي/ المسيحية على كريم/ المسلم في مساعدتها على قضاء كل متعلقاتها قبل السفر.

أعجبني جدا طرح الفيلم لإشكالية الدين برؤية جديدة ومختلفة في طريقة تناوله الجريئة، من خلال تجاوز الدين باعتباره هما شخصيا لا يجب أن يؤثر في العلاقات الإنسانية أو يتحكم بها، فبرغم وجود خلافات بين نانسي وبعض الشخصيات الأخرى في الفيلم، إلا أن اختلاف الدين لم يذكر وكأنه غير موجود، حتى في أمور الحب والعلاقة العاطفية، ولذلك يمكن النظر إلى خطاب الفيلم من حيث موضوع الدين بأنه خطاب غير مباشر، مما يقوض المفاهيم الاجتماعية السطحية الخاصة بالدين والنظرة القاصرة له خاصة في العلاقات الاجتماعية. 

كريم .. شخصية رومانسية حالمة لكنه متمسك بتراب هذا الوطن

كما أن الفيلم من الأفلام القليلة التي عالجت إشكالية الرومانسية في ارتباطها بموضوع الدين بصورة جديدة غير مباشرة، حيث تتصاعد الأحداث من خلال علاقة (كريم ونانسي) اللذان يرتبطان بعلاقة صداقة حقيقية، إلا أن هذه الصداقة تخفي حبا كبيرا بينهما وعلى الرغم من أنها مسيحية وهو مسلم، إلا أن الدين لا يمثل عائقا في استمرار علاقة الحب المكتوم بينهما (بحسب الفيلم)، لكن إصرار نانسي على الهجرة هو السبب الرئيسي، وينتهي الفيلم بمشهد رومانسي بديع تعبيرا عن نهاية مفتوحة على احتمالات وتأويلات شتى، ففي الطريق إلى المطار لتوديعها تتلامس الأيدي ويتبادلان نظرات حانية تكشف عن مشاعر صادقة، بينما السيارة منطلقة في طريقها إلى المطار.

والملاحظ من هذه العلاقة أن الفيلم سعى أن يطرح معالجة مختلفة في تجاوز مسألة الدين بجعلها هامشا لا يعول عليه في علاقات الحب والصداقة الحقيقية، فيكون التجاوز بالإهمال بنية فنية لها مدلولاتها التي تجعل من الدين أو اختلاف الأديان مسألة هامشية لا ضرورة للتوقف عندها، على اعتبار أن العلاقة الإنسانية هى الأسمى، وقد تسنى لمؤلف الفيلم ومخرجه (أحمد رشوان) التأكيد على وجهة نظره والحفاظ على المعادل الجمالي الذي يضمن شخصيته الفنية؛ بحيث جعلنا لاننتظر طويلا حتى يتاح له أن يقدم لنا الفيلم الذي يؤمن به بعيدا عن أية حسابات نفعية، لكنه في ذات الوقت عبر عن نبض الناس الحقيقي، بطرح فني جريء وجدي، ليؤكد على حقيقة أن السينما المستقلة قد استطاعت، وبالرغم من كل المحبطات والمنغصات، أن تقدم عملا كشف فعلا عن جنون وطموح في عرض الحقيقة بأسلوب فني آخاذ.

ناسي ولبني حالتنان تمثلان معاناة المرأة في المجتمع

وعلى الرغم من أن السينما المستقلة في مصر تعاني كما في الوطن العربي، من قلة الإنتاج والمنتجين، ومع ذلك تبقى هناك تجارب لمخرجين على قلتها ما زالت تحاول أن تقدّم شيئا ضمن ظروف اقتصادية صعبة وربما شبه معدومة، مثل (قابل للكسر) الذي يأتي للمخرج والمؤلف المصري أحمد رشوان كواحد من تلك الأفلام القليلة المستقلة التي جاهدت للخروج إلى القاعات، وفي هذا الصدد يقول أحمد رشوان: نعم عانى الفيلم ظروفا اقتصادية صعبة، وكنت أنا المنتج الأساسي له، بمشاركة الفنان خالد خطاب الذي لعب دور حسين في الفيلم، بالإضافة إلى أن عددا كبيرا من الفنانين سواء من عمل منهم خلف الكاميرا، أو أمامها، قد شاركوا في الفيلم بأجورهم، أذكر منهم حنان مطاوع، رانيا شاهين، محمود لطفي، جيهان مشير، غادة يوسف، خالد الورداني، كما أنه ما زالت لدينا أجور لبعض العاملين مؤجلة.

ومع ذلك يعد (قابل للكسر) واحدا من الأفلام المستقلة – بحسب رشوان – التي لم تستند لمنتجين ولم تستفد من صناديق الدعم، حيث يقول: لقد حاولت بالفعل، ولم ينجح الأمر، وآخر دعم حصلت عليه كان من (صندوق إنجاز) في مهرجان دبي عام 2011 لفيلمي الوثائقي (مولود في 25 يناير)، و(قابل للكسر) الذي فازت بطلته (حنان مطاوع)  مؤخرا بجائزة (مهرجان الأمل الدولي) بالسويد هو الروائي الطويل الثاني للمخرج رشوان بعد فيلمه (بصرة) الذي أخرجه في العام 2008 وشارك به في عدة مهرجانات داخل مصر وخارجها ونال عنه سبع جوائز، من أهمها جائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم طويل من مهرجان بروكسل للفيلم العربي، وجائزة السيناريو من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وجائزة أفضل إخراج عمل أول من المهرجان القومي للسينما، واعتبره النقاد حينها من أكثر الأفلام جرأة، لأنه تناول التابوهات الثلاثة المحرمة، الدين والسياسة والجنس.

حنان يوسف .. الأم المهوسة بستر ابنتها ولو على حساب أعصابها

ويدور فيلم (قابل للكسر) الذي لعبت بطولته حنان مطاوع ببراعة مطلقة إلى جانب كل من (رانيا شاهين، فاطمة عادل، عمرو جمال، خالد خطاب، حنان يوسف، عاصم نجاتي، كريم العطار، محمد موجي، ناجي شحاته)، مع ظهور صغير للمخرج، حول الأيام الثلاثة الأخيرة القاسية والصعبة لنانسي وهي في طريقها لوداع المدينة والأصدقاء والأشياء، بعد أن قررت أن تغادر مصر متوجهة إلى كندا، وقد أكدت أحداثه على أن كل شيء قابل للكسر، المعاني والإحساس بالوطن والبيت والأمان والغربة، وحتى الإنسان، وهو ما عبرت عنه بصدق نادر في الأداء (حنان مطاوع) من خلال شخصية  نانسي الصعبة والمستحيلة، بداية من علاقتها بكريم الذي يصغرها سنا ويختلف عنها من حيث المذهب الديني، وتربطه علاقة بأخت صديقتها، كل هذه الأمور المتداخلة في حياتها، حتى موضوع سفرها يعتبر بالنسبة لها أمرا صعبا، كما أن البقاء أيضا بات أمرا مستحيلا، وتلك حالة تشبه معظم المصريين، الذين يعيشون على أحلام مجهضة، بعد أن باتت الحياة بالنسبة لهم متعبة وقاسية، لكنهم في الوقت نفسه يتمسكون بمصر، بسبب علاقات الحب والجذور.

حسين .. شخصية كريهة في تصرفتها لكنها تمثل شريحة من المجتمتع غير المبالي

ولقد لفت نظري في أداء (حنان مطاوع) أنها استطاعت أن تضغط على العصب العاري في المجتمع ولكن بطريقة أداء ناعمة للغاية وتقمصت شخصية نانسي إلى حد أنها أنستنا (شخصية حنان مطاوع الحقيقية)، حيث جسدت باحترافية عالية شخصية فتاة مصرية نمطية، فرغم أنها إنسانة ملتزمة أخلاقيا وسلوكيا، إلا أنها سيدة متحررة على الأقل ذهنيا وعقليا، تمارس حياتها بتلقائية وبطريقة مختلفة جدا عن النموذج التقليدي لفتاة تعيش بمفردها وسط مجتمع مصري ضاغط ومحاسب، وربما مخيف في بعض مفاصله، وظني أن اختيار رشوان لحنان للعب دور نانسي جاء موفقا جدا، وخاصة مع ما تحمله تلك الفنانة من صورة ذهنية إيجابية في قلب الجمهور المصري والعربي، كما أن إيمانها وصدقها كممثلة بالدور ومعايشته قد ينجيه من خطورة طرقه لشخصية امرأة غير نمطية، ربما لا تتلقى قبولا جماهيريا.

وربما (رشوان) باختياره لـ (حنان) قد  حقق نجاحا كبيرا حيث رسم شخصية نانسي بحيث تأتي مسألة الديانة في الخلفية وبشكل غير مباشر، فاسمها لا يدل على ديانتها لكن تفاصيل بسيطة كشفت عن ديانتها مثل اسم خطيبها السابق (مايكل)، والتحاقها بكورال الكنيسة حينما كانت صغيرة، حتى تمثال السيدة مريم الذي تحتفظ به وتهديها لصديقها كريم قبل سفرها يوجد مثله الكثير في منازل المصريين من مسلمين ومسحيين، حتى اختلاف الديانة بينها وبين كريم لم يكن العائق الوحيد لاكتمال علاقتهما غير الواضحة، فهناك فارق السن، وشروع نانسي في الهجرة، وارتباط كريم بفتاة أخرى.

وعن الرسالة التي أراد أن يقدمها الفيلم فيمكنني القول أنه بدءا من عنوانه وصولا إلى مضمونه وعلاقته بالكسر، يؤكد الأبطال ودائرة العلاقات المحيطة بهم كلهم عن حقيقة أننا جميعا قابلون للكسر، ولعل أبطاله يشبهون فكرة حلم الهجرة الواهي في حد ذاته بالنسبة إلى المصريين، والتمسك الواهي بوطن هو نفسه غير متمسك بأولاده أحيانا، فمصر عموما والقاهرة بصفة خاصة من وجهة نظري أصبحت مدينة طاردة لأبنائها، وخاصة بالنسبة لسيدة تريد أن تعيش كما ترغب رغم تحفظها.

حوار جدلي عقيم بين الصديقين اللدودين دائما كريم وحسين

وفي النهاية أقول أن فيلم (قابل للكسر) استطاع مواجهة عالم الاحتكار، خصوصا من جانب شباب الفنانين والمخرجين، ما يحفز بالضرورة عدد من السينمائيين إلى تقديم أفلامهم ومشاريعهم السينمائية الجديدة في شكل إنتاجي مستقل، بعدما فشلوا في اختراق حاجز الطرق التقليدية، والتي تتمثل في الكيانات الإنتاجية والتوزيعية الكبيرة التي تضع العديد من العراقيل والصعوبات، بداية من شروط التعاقد مع نجوم قادرين على جذب الجمهور، وانتهاء بآليات معقدة للتوزيع والعرض في دور السينما، كما أنه يثبت في الوقت ذاته أنه أصبح من السهل إقناع النجوم بالمشاركة في الأفلام المستقلة، خصوصاً وأن بعضهم لديهم شغف لتجربة أنواع أخرى تكون أكثر حرية.

ومع كل ما مضى ذلك يبقى لدي سؤال ملح وآخر استنكاري، والأول هو: رغم أن الأفلام المستقلة نجحت خلال الفترة الماضية فى فرض حضورها بقوة فى السينما المصرية بعد أن حققت المعادلة الصعبة مابين مناقشة قضايا المجتمع وبين جذبها للجمهور .. لماذا تبقى المرأة هى القاسم المشترك الأعظم في كل تلك التجارب الناجحة؟، والثاني : لماذا يزيد عالم السينما المستقلة ألقا وتميزا يوما تلو الآخر عندما تصنعه السيدات، سواء كن ممثلات أو مخرجا أو حتى منتجات؟! ..قد تبدو تلك مسألة محيرة للكثيرين، لكنها تؤكد على حقيقة أن المرأة أصبحت المعادل الموضوعي للرجل في كل المجالات ومنها السينما بالطبع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.