التعصب الأعمى من المدرجات إلى الشاشات
بقلم : محمد حبوشة
الحمد لله الذي عافانا من لعنة التعصب الأعمى لفرق كرة القدم .. فلست من مشجعي أي فريق حتى المنتخب القومي، فلا أبالي به أي نوع من الاهتمام، من قريب أو بعيد، وقبل أن يتهمني أحد بعدم الانتماء لتراب مصر، أقول له مهلا يا صديقي إنها مجرد لعبة للتسلية والرفيه ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بمسألة الانتماء، فالانتماء يعني أشياء كثيرة ليست من بينها كرة القدم بالتأكيد .. الكلام في مناسبة الصراع الذي مازالت آثاره ممتدة حتى لحظة كتابة هذا المقال في أعقاب فوز نادي الزمالك ببطولة الدوري المصري، ذلك الحدث الذي قسم المصريين إلى فريقين يتاربى كل منهما على ذكر مناقب فريقه، وربما يكون مسموحا الانحياز لأي من الفريقين في إطار التشجيع لكن على طريقة الأخلاق الرياضية.
ولأنه يبدو أن التعصب الرياضي أصبح سمة للكثير من متابعي كرة القدم، لأنها تحظى بالاهتمام الأكثر على مستوى الأنشطة الرياضية الأخرى دون أي منازع، فقد سائني جدا أن ينتقل التعصب الأعمى من المدرجات إلى الشاشات، من خلال برامج (التوك شوز) التي تبارى فيها كل من (عمرو أديب، ويوسف الحسيني، وإبراهيم عيسى)، وهو مادفعني في البداية أن أقف عند كلمة (تعصّب)، ففي الأصل تعني التجمع والانضواء تحت عصبة معينة والعصبة في اللغة هم الجماعة ما بين العشرة والأربعين، لكن بحكم أن هذا التجمع والانتماء في الغالب لا ينتج عنه سوى نتائج وخيمة – مثل التعصب الرياضي والتعصب القبلي – تطورت هذه المفردة بمرور الوقت ليصبح معناها الانتماء البغيض الذي يصل دائما إلى درجة التمادي ورفض الحق ورفض كل من هو خارج هذه العصبة.
وكل تلك الصفات وغيرها لاينبغي أن يكون لها وجود في ممارسة العمل الإعلامي خاصة في برامج تتوجه للرأي العام كله دون تفرقة ما بين (الأهلاوي والزملكاوي)، لأن مثل هذا التعصب والانحياز الأعمى لفريق دون غيره، له مساوئ كثيرة جدا، قد تتسبب في كثير من المشكلات وما تنتج عنه من إفرازات وآثار سلبية تثير الفتن والتسيب الأخلاقي والانفراط في التعبير عن المشاعر بطريقة محزنة، ومن نتائج دراسات علم النفس الرياضي في تعريف التعصب الكروي والسمات الشخصية للمتعصب، أن التعصب Fanaticism هو حكم مسبق مع أو ضد جماعة أو موضوع، وقد لا يقوم على أساس منطقي أو حقيقة علمية، ويجعل الفرد يرى أو يسمع ما يجب أن يراه ويسمعه، ولا يرى ولا يسمع ما لا يجب رؤيته أو سماعه.
ومن ثم فإنه ينبغي على الإعلاميين تحديدا أن يكونوا على الحياد لأن التعصب في الرياضة مرض الكراهية العمياء للمنافس، وفي الوقت نفسه مرض الحب الأعمى فيعمي البصيرة حتى أن الحقائق الدامغة تعجز عن زلزلة ما يتمسك به المتعصب فردا أو جماعة، حتى نستطيع أن نفهم كيف ينتج التعصب الرياضي، لا بد أن نبدأ بالتساؤل عن سر هذا التعلق اللامعقول بالرياضة؟ .. ما الذي تفعله كرة القدم لتسحر الناس هكذا؟ كيف يخلق هذا الرابط المقدس الذي يربط الجمهور بمصير الفريق إلى درجة لا تكاد تصدق؟، وتلك الحالة تشير بشكل أو بآخر إلى حالة مرضية لا تعني الانتماء بالتأكيد بقدر ما تشير إلى أن العقلية الرياضية ما زالت (أسيرة) لنمط غريب من الحب زادت في حدة ذلك مدرجات الكرة وما تحفل بها من شخصيات أشبه بشخصيات المهرجين في طريقة تعبيرها عن انتمائها لناد أو إلى آخر.
وظني أن الإشكالية الكبرى في التعصب هو أنه يرتكز على مرجعية فكرية، وهو هنا يشكل نمط سلوكي متعدد المظاهر، وهذه المرجعية الفكرية التي يرتكز عليها التعصب ويستمد منها وجوده واستمراره لا توجد إلا في المجتمعات التي تتسم بالعصبية العقائدية والتخلف الفكري والثقافي، وتضخم نرجسية الذات على صعيد الفرد أو على صعيد الحزب، كما أنها لا توجد إلا في المجتمعات التسلطية القمعية التي ينتفي فيها حرية التعبير عن الرأي، وانعدام الحرية الفكرية، وهي بالتالي مجتمعات مريضة تقوم على الكذب والنفاق والتزلف والمداهنة مما هو في الأسفل لما هو في المرتبة العليا، كما أن هذه المرجعية توجد في المجتمعات القبلية حيث أن التعصب في تعريفه مستمد أيضاً من العصبية أي التعصب لفئة محددة قبيلة كانت أم أسرة وهكذا.
وعليه فقد أصيبت بحالة من الذهول لذلك الفرح الهيستري من جانب الزملاء (عمر أديب ويوسف الحسيني وإبراهيم عيسى) وربما يكون كلا من (أديب والحسيني) أقل وطأة في مسألة الغلو في الاحتفال بالزمالك مع أني لا أعفيهم من المسئولية، لكن إبراهيم عيسى وقع في المحظور حين قاد حربا باردة مع الأهلى لانتمائه المعروف لنادى الزمالك، وهذا ما حدث خلال حلقته مع رئيس نادى الزمالك المؤقت حسين لبيب للاحتفال بدرع الدورى المصرى.
فقد وصف إبراهيم عيسى خلال برنامجه شعار (الأهلي فوق الجميع) بأنه تعبير نازي استخدمته ألمانيا النازية، بقيادة هتلر، في الحرب العالمية الثانية، وأضاف: (الأهلي فوق الجميع) ده تعبير – نازي – أصحابه بيحملوا به العداء لأي حد يرفضه.. عايز تعيش في منظومتنا لازم يكون ده عنوانك واستطرد عيسى في حديثه المتعصب قائلا : أحمد عبود باشا صاحب عمارة الإيموبيليا كان مانع أي حد زملكاوي يسكن فيها، الاستثناء كان أم كلثوم وعبد الوهاب الزملكاوية.
والغريب أن عيسى أدان مسألة التعصب في كلامه ضمنيا، لكنه أغضب الجمهور من كلا الطرفين بقوله: كرة القدم المصرية متخلفة، والدوري المصري بدائي وعشوائي، وعاد ووصف جمهور الزمالك بأنه جمهور واعٍ ومثقف مش زي جمهور الأهلى سمعًا وطاعة، وذلك ردا على اتهام الزملكاوية بأنهم (بوابين)، وأن جمهور الزمالك جمهور مختلف، عنده رأي وتحليل وأفكار غير جماهير السمع والطاعة، واتهم إدارة الأهلى بأنها تغذي جو المؤامرة عند جمهور الأهلى عكس إدارة الزمالك التى تنفي وجود مؤامرة على النادى مع أن الجمهور مقتنع بوجود المؤامرة.
وأهمس في أذن عيسى منبها إياه: لا ينبغي أن نغذي شعورا لدى الجمهور بالتعصب لأنه يا صديقي في كرة القدم هذا الداء الفتاك الذي وصل بضعاف العقول إلى أن ينعكس على تعاملهم مع زملائهم ومع أهلهم ووصول مشاحنات وعداوات قد تمتد إلى المشاكسات والتكسير، وهو ظاهرة خطيرة تحتاج إلى تكاتف وتعاون الجميع يشترك فيها الجميع بكل فئاتهم المختلفة وعلى أعلى المستويات، فيجب أن تسهم الجهات الرسمية والقنوات الإعلامية المحلية من أجهزة مرئية أو مسموعة أو مقروءة والإداريون واللاعبون والجماهير وجهات أخرى كثيرة ذات صلة في هذا الأمر، بحيث يكون هناك نبذ للتعصب، خاصة في جانب الصحف والقنوات، التي تجسد هذه الظاهرة وأصبح سمة أزلية ملازمة للمجتمعات الرياضية، بل أيضا في غير الرياضية وله أشكال مختلفة تتخلق وفق الظروف والأحوال.
الأمر جدا خطير ياسادة فالتعصب الكروي هذا هو تعصب أعمى وأطرش وأبكم يعمي القلوب والعيون على حد السواء، والآثار السالبة التي تنتج عن التعصب الآثار الصحية إن مشاهدة مباريات كرة القدم وسيلة ماتعة للترفيه والترويح، لكن متابعة مباريات كرة القدم بحماس وانفعال زائد يؤدي إلى معاناة القولون العصبي وإزعاجاته والقولون العصبي أو تقلص القولون هو حالة من الألم أو الضيق بالبطن وشعور بالامتلاء والانتفاخ واضطراب وظيفة الإخراج من دون سبب أو مرض عضوي واضح، وهو من أكثر أمراض الجهاز الهضمي شيوعا، وأسباب الإصابة به وإزعاجاته تأتي من التوتر المستمر والقلق الدائم والانفعال المتكرر، وتؤدي إلى خطورة الإصابة بالذبحة الصدرية والنوبات القلبية والسكتة الدماغية.
ومع الجو المشحون بالحماس والاهتمام والانفعال لنتائج هذه المباريات يصاب بعض المشجعين بصدمات شديدة وأزمات نفسية قاسية، سواء كانوا يشاهدون المباريات في الملاعب أو أمام شاشات التلفزيون، خصوصا إذا كانت ظروف المباريات التي يشاهدونها تنعكس على مواقف فرقهم في بطولة ما أو هبوط من درجة إلى أخرى، ومشاهدة المباريات بالتركيز الشديد والانفعال والمتابعة الدقيقة بتوتر تؤدي إلى تغيرات مهمة وخطيرة في جسم الإنسان فيزداد إفراز هرمونات التوتر ويعتصر قلبه المجروح بالخسارة ألما يخنقه ويكاد يقضي على حياته.
هذا المشهد المحزن يتكرر في كثير من المباريات المهمة والحساسة، وأكثر الحالات التي حدثت عقب خروج من بطولة فمن الممكن أن يصاب بنوبة قلبية، ولدينا أمثلة كثيرة في عالمنا العربي وفي العالم أجمع، وما أشد الأزمات التي تعقب ضياع البطولة فهرمون التوتر المفرز بغزارة يؤدي إلى سرعة ضربات القلب وزيادة قابلية الدم للتجلط داخل الشرايين.. مشهد تراجيدي يتكرر لبعض مشجعي بعض الأندية في مدرجات ملاعب كرة القدم وأمام شاشات التلفزيون نتيجة لأن الأمور لم تجر كما يشتهون، لذا علينا كمجتمع إعلامي أن نراعي تلك الآثار الاجتماعية للتعصب الرياضي، رغم أن هذه الأحداث المؤسفة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتعصب الرياضي.
وفي الحقيقة أننا يجب أن ننظر إلى الجوانب الإيجابية المشرقة في عملية التعصب، فهي طاقة كامنة وقوة كبيرة في أعماق الجماهير نستطيع أن نخلق منها أداة لدعم الأندية التي تنتمي إليها هذه الجماهير، ومشاهدة كرة القدم وسيلة ماتعة نروح فيها عن النفس ونستمتع فيها بكل الفنون الجميلة لا أن تتحول إلى ساحة للتراشق والحث على البغض والكراهية على شاشات التليفزيون التي حتما تؤثر على المشاهد وتدفعه للعنف الذي يصل إلى حد القتل والعياذ بالله.