كتب : محمد حبوشة
لأن الجمهور يحتاج إلى الضحك في ظل الظروف التي يمر بها من ضغوطات وتحديات الحياة الحالية في ظل تلك الأجواء الحارة، والأسعار الجنونية، وتبعات زلزال الثانوية، إلا أن فكرة صنع (الضحك) أصبحت صعبة وتحتاج إلى كوميديا مصنوعة بشكل جاد وليس مجرد عبارات مرتجلة يغلب عليها السخرية بطرقة (الاستظراف)، إن الضحك يلعب دور المصلح الاجتماعي – على حد قول برجسون – فحين يضحك المرء من شخص أخر أو من أفعاله فإنه يلفت النظر إلى العيوب المسيئة للمجتمع والتي تصيبه بالخلل، ولهذا يضحك الناس على الشخص الأحدب أو النحيل، لقد حاول (بيرجسون) إظهار السمة النبيلة للضحك لكونه صفة جمعت الإنسان بالإنسانية ولعبت دور صوت الضمير الذي يخاطب الأرواح ويمتد، إلى الأبعاد التي لا نشعر بها، الضحك سلوك اجتماعي بواسطته ينبه المجتمع مشيرا إلى الحس السليم، كل أولئك الذين ينحرفون عن النشاط الاجتماعي المستقيم والحقيقي والذين يسعون، إلى تفتيت التماسك الاجتماعي.
وفي الآونة الأخيرة بدأ منحنى السينما المصرية ورغم أنه آخذ في التطور من الجانب التقني بشكل كبير عما قبل، إلى جانب الابتعاد عن ما يمكن أن نسميه (هيصة) ما بعد يناير 2011، إلا أنه بدأ يسقط في فخ آخر، ربما لم نتداركه بعد، وهو البعد عن الروح الفنية المصرية، لحساب (تقليد) الأفلام الغربية، الأمر الذي يشبه إلى حد ما أن تدخل سباق سيارات بفيات 128 أمام فيراري، لا أقول إنه في المجمل سيء، فالاتجاه نحو التطور أمر حميد، ولكن يبدو أنه يأخذ منحى آخر لا يخصنا، خاصة بعد أن أصبحت الكوميديا تعتمد على الاستظراف و(الألش المبالغ فيه)، وهى سمة ربما نجد جانبا منها في الأفلام المعروضة حاليا والتي تصنف كوميدية، ولقد أعياني البحث الطويل في ثناينا اثنين منها هما فيلمي (الإنس والنمس، والبعض لايذهب للمأذون مرتين) على أجد مشهدا واحدا يمكن أن ينتزع الضحك من صدري، لكني فشلت فشلا زريعا في تحقيق ذلك.
ولأن المزاج العام حاليا يتطلب قدر من الضحك فاسمحوا لي بحق العودة قليلا إلى الوراء واللجوء لمشاهدة فيلم (وقفة رجالة) للمرة الثانية، لأنه يتميز بخلق لحظات كوميدية مصنوعة بشكل جيد من رسم الشخصيات أو المواقف التي يقابلونها وخاصة أنهم ليسوا شبابا، فهناك بعض اللقطات التي يحاولون فيها مواكبة العصر من خلال صنع فيديوهات (تيك توك) تقوى على تفجير طاقة هائلة من الضحك النابع من القلب، وقد حاول مؤلفه (هيثم دبور) السير على نفس نهج أسامة أنور عكاشة، لكن الأمر اختلف كثيرا معه حيث إن العمل مقتبس من فيلم أمريكي يدعى (Last Vegas)الذي صدر في العام 2013، بطولة مجموعة من نجوم هوليوود وهم: مايكل دوجلاس، روبرت دي نيرو، كيفين كلاين مورجان فريمان، حيث قرر أحدهما الزواج في هذا السن، ودعا أصدقائه لرحلة وداع العزوبية، وفي (لاس فيجاس) تدور الحكايات والمواقف، ويشبه أيضًا سلسلة أفلام (The Hangover) والتي تدور حول نفس القصة.
وعلى الرغم من الاقتباس الواضح للفيلم إلا أن (وقفة رجالة) يبدو فيلم كوميدي ليس سطحيا أو تافها، بل يحتوي خطوطا درامية حاضرة في كل الأحداث، تطور بعضها إلى رسائل إيجابية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، وفي النصف الأول من الفيلم ركز على الوصول إلى النغمة المناسبة للضحك والتمهيد للدراما والخط الرومانسي، ومع أن الكوميديا فيه لم تكن متفجرة بقدر كبير، إلا أن التناغم بين فريق البطولة لم يسمح بتسلل الملل ولو للحظة، أما النصف الثاني من الفيلم، فقد اتسم بأن الكوميديا فيه كانت في أفضل صورها، ولم تكن الدراما دخيلة على الأحداث، وتألق الخط الرومانسي بقوة وإقناع، إلى جانب الأصالة في الأحداث، وهذا لا ينفي التشابه بين الفيلم وعدد من الأفلام الأمريكية، وتحديدا Last Vegas.
ومن خلال مشاهدتي الثانية بشكل أكثر تأني أستطيع القول بأن (وقفة رجالة) نجح العمل فى التحدى لتقبلنا رؤية رجال فى السيتينيات وكأننا نشعر بأنهم فى سن العشرين، من خلال كوميديا الموقف وبالطرح الذكى لاستخدام هؤلاء الرجال للتكنولوجيا الحديثة التى ترسل الكثير من المعانى الإنسانية عن رمزية السن فى مواكبة العصر، وفى عرضهم لمعاناتهم وصراعاتهم بحرفية داخل المشاهد التراجيدية، فهذه المعادلة الصعبة التى توضح مهارة الكاتب والأداء التمثيلى لهولاء الأبطال المتمرسين فى قدرتهم على ربط المشاعر والأجيال معا، وتوليد المفارقات الكوميدية من هذه الحالة، فلا نشعر بفوارق حتى على مستوى الحوار الذى ينتمى إلى الحوار المعاصر المكتمل بطريقة الملابس وحركة الأجساد والانفعالات، فرؤيتنا لفيلم بطولته لمجموعة من رجال يعد حالة قليلة الظهور فى السينما المصرية التي لها مذاقها الخاص في هذا الوقت الراهن.
توفرت لفيلم (وقفة رجالة) معظم عوامل النجاح ليكون عملا سينمائيا دسما مميزا بداية من الإنتاج الذي تشارك فيه أربع شركات منهم ثلاث من الشركات الكبيرة، ثم توليفة ممثلين من أصحاب المواهب الكبيرة والعيار الثقيل مثل (ماجد الكدواني وسيد رجب وبيومي فؤاد وشريف دسوقي) ومعهم أمينة خليل التي تسير بخطى ثابتة وتثبت وجودها من عمل لآخر، وأيضا محمد سلام وهو ممثل كوميدي يلاقي القبول، لكن العامل الذي يأتي في الترتب الأول هو وجود المخرج (أحمد الجندي)، وكما هو معروف فإنه صاحب سلسلة طويلة من نقد الموروث الشعبي والفني، بداية من (طير إنت)، فلا يترك الجندي حجرا في بر مصر إلا وسخر منه، أو على استعداد أن يسخر منه، لا على سبيل إهدار قيمته، لكن على طريقة نقد الذات، أو أقرب لطريقة عمرو بن كلثوم: (ألا لا يألشن أحد علينا فنألش فوق ألش الآلشينا).
كما أن أحمد الجندي يعد أحد أبرز المخرجين المتخصصين في الأعمال التي تمزج الكوميديا مع الرومانسية خاصة تجربته المميزة مع أفلام أحمد مكي، وأما العامل الآخر والمهم أيضا هو الموضوع الذي تدور خلاله الأحداث وهو يرتبط بخريف العمر عند الرجال ووجود اسم المؤلف هيثم دبور، الذي كانت لديه تجربة سابقة في تقديم هذا الطرح الخاص بخريف العمر لدى رجل وامرأة في فيلم (فوتوكوبي) عام 2017، وهو سيناريست متميز في (التغطية) بالمعنى الصحفي، أي كشف جميع الخيوط بحيادية تامة، وترك المشاهد أمام احتمالات متعددة مع كل مشهد، دون مصادرة رأي أو تخيل أو استنتاج، لذا نجح من قبل في ذلك تراجيديا بقسوة في فيلم (عيار ناري)، وها هو ينجح في ذلك بخفة في (وقفة رجالة)، والتي حملت أغلب إيفيهاته (الإطلاق الدلالي)،
ويحسب للفيلم في كل الأحوال أمران هما أولا التجربة في حد ذاتها في حبكة متعلقة بفكرة مهملة في السينما المصرية، وثانيا المغامرة في طرح الفيلم في دور العرض خلال فترة وباء كورونا الذي تسبب في جعل قاعات العروض خالية من الجماهير ومن الأفلام، ولعله من الملحوظ أنه في أعمال أخرى مختلفة يشارك خلالها الرباعي (الكدواني ورجب وبيومي والدسوقي) يتركون بصمات مهمة ويحققون نجاحات تفوق الأبطال الرئيسين لتلك الأعمال ولكل منهم رصيد كبير، فكان السؤال ماذا سيكون شكل العمل الذي يضم الرباعي معا لأول مرة؟، نحن أمام أربعة أصدقاء في خريف العمر في عمر الستين، تتوفى زوجة أحدهم فيقررون قضاء عطلة نهاية الاسبوع معا في الفيلا الخاصة بأحدهم في شرم الشيخ بهدف التخفيف عن صديقهم وإخراجه من حالة الاكتئاب والوحدة وتكتشف ان الثلاثي أيضا كلا منهم لديه أزمة اجتماعية مع عائلته.
إنه طرح يبدو في ظاهره تقليدي فقد قدمته السينما العالمية كثيرا ومازلت تقدمه وبالطبع التجربة الأكثر شهرة كانت (Last Vegas) عام 2013، والمأخوذ عنها فيلم (وقفة رجالة)، لكن على مستوى السينما المصرية لم ينل حظه الوافر أو المساحة التي يستحقها، قد تبدو التجربة الأقرب لدينا كانت من خلال تحفة تامر حبيب وهاني خليفة (سهر الليالي) عام 2001 التي اقتربت حبكة (وقفة رجالة) منه لكن الاختلاف كان أن فيلم حبيب تناول مشكلات المتزوجون أقرب إلى أزمة منتصف العمر وليس خريف العمر.
على أية حال استطاع المؤلف (هيثم دبور) والمخرج أحمد الجندي والأبطال الأربعة (ماجد الكدواني، سيد رجب، بيومي فؤاد، شريف دسوقي) ومعهم (أمينة خليل، ومحمد سلام) أن يقومدوا توليفة كوميديا تعتمد بالدرجة الأولى على (كوميديا الموقف) على عكس معظم الأعمال الكوميدية الأخرى التي يعتمد الضحك فيها على (الإفيهات)، وعلى الرّغم من الهوية الكوميدية للعمل، فإنّ دبور تمكن من مد خيوط من الشجن واللحظات الإنسانية المؤثرة التي كان ذروتها مشهد الاعترافات، والتي ينزع فيه كل صديق قشرة النجاح الخارجي وتعرية ذاته نفسيا والبوح بآلام داخلية عميقة لا يسهل الشفاء منها، كما استطاع المخرج أحمد الجندي إطلاق العنان للكاميرا لتشتغل على الفضاءات المبهرة للشواطئ والمنتجعات والحفلات المبهرة فضلاً عن الامتداد اللازوردي للمياه على نحو يقدم حالة جمالية مدهشة تتناسب مع رغبة الأبطال في كسر روتين حياتهم اليومية.
نقطة مهمة أخرى ولافتة للنظر ينبغي أن نتوقف عندها وهى لجوء المخرج لتقديم مقاطع شهيرة من تطبيق (تيك توك)، يقوم بأدائها الأبطال، في محاولة أن يخاطب جمهور المراهقين، ومقدما إياها كما لو تم تصويرها بهاتف موبايل، في مجموعة متتالية من مقاطع الفيديو التي يتسلى بأدائها الأصدقاء، وهي وإن كانت تخرجنا عن الشكل الفني للفيلم السينمائي، فقد جاءت طريفة نوعا، كما أبدع (الجندي) في تقديم مشاهد رائعة من أجواء القرية السياحية التي اختارها الأصدقاء لرحلتهم، حتى ولو بدا الأمر إعلانا لهذه القرية، بالإصرار على تكرار اسمها أكثر من مرة، وقد تكون القرية نفسها قد شاركت في إنتاج الفيلم بالسماح لصناعه بالتصوير فيها، لكن في النهاية كانت النتيجة صورة مبهرة وإثارة وتشويق، فضلا عن الكوميديا التي رسمت ابتسامة كبيرة على وجه الجمهور.
وتبقى أهم نقاط نجاح هذا الفيلم على الإطلاق هى النقطة التي اعتبرها تحولا مهما في الدراما المصرية، والتي تحسب لشركة (سينرجي) للإنتاج، وصناع العمل، هي الاعتماد على مجموعة أبطال ليس من بينهم الفنان الشاب (الجان) الذي يمارس الرياضة ويملك جسدا رائعا ولحية والفتيات يركضن خلفه، ولكن اعتمد على 4 من صنايعية التمثيل، كانوا هم الأبطال، رغم أن فكرة نسب البطولة لممثلين خبرات وكبار في السن نوعا ما، غير متعارف عليها في السينما المصرية، والتي تعتمد على نجم الشباك لضمان الربح، ويكون معه في الأدوار الأخرى نجوم من أصحاب الخبرات، أما (وقفة رجالة) فقد كان وقفة حقيقية من صناع العمل لتقديم وصفة مختلفة وتحتاج جرأة، ويمكنها تحقيق النجاح، وهى عدم الانبطاح التام لرغبة السوق، وتقديم منتج يجعل الزبون يشتري ما لم يكن يعرف أنه يريده .. فتحية تقدير واحترام لصناع هذا العمل الذي ينتصر للكوميديا الحقيقية في زمن العبث السينمائي والدرامي والمسرحي الذي نعيشه.