مفارقات حديث (أسامة سرايا) لصوت العرب
بقلم : محمد حبوشة
استمعت إلى حوار شيق ورائع جدا للكاتب الصحفي الكبير والقدير أسامة سرايا، رئيس تحرير الأهرام السابق، في إذاعة صوت العرب قبل أيام قليلة من خلال برنامج (دفتر أحوال) الذي يقدمه الإذاعي (هشام مهران) ، ولاحظت في هذا الحوار جنوحه نحو مكاشفة الحقائق التي أصبحت الآن أقرب إلى الذكريات المؤلمة على مستوى المهنة التي انهارت في عصر الأقزام، وقد أعجبني أكثر أنه تحدث عن إعلاء شأن المهنة والقارىء ومكانة الأهرام ووزنها النسبي والاختيارات العشوائية في السنوات الأخيرة، ويظل أجمل مافي هذا الحوار أنه قريب من القلب والعقل والوجدان المصري الحقيقي، وهو ما يأتي بمثابة درس عملي لكل العاملين في مهنة القلم التي تتواري في شكلها الورقي على صخرة التكنولوجيا التي دفعت بالصحافة الإلكترونية إلى الإمام حاليا.
تحدث (سرايا) منتشيا – وله كل الحق – عن فترة توليه رئاسته لتحرير الأهرام وتلك التحديات التي واجهته إزاء تلك الفترة العصيبة من عمر مصر في نهاية عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، ولم تنقصه الصراحة المطلقة من الحديث بشفافية عن الأخطاء التى ارتكبها في حق القارئ وخاصة عنوانه الشهير في يوم مولد مبارك، والذي أثار كثيرا من الجدل في حينه بعنوان (ولدت يوم ولدت مصر)، اعترف رئيس تحير الأهرام السابق بتسرعه في اختيار هذا العنوان، وربما كان ذلك تعبير عن حبه الجارف لمبارك وامتتانه له حيث وقف بجانبه في لحظات العواصف والرياح العاتية التي كادت تعصف به وإقصائه عن منصبه، حيث كان مثار حقد الصحفيين في تلك الفترة داخل الأهرام وخارجه على حد سواء، خاصة في أعقاب الصورة التي يتقدم فيها مبارك الصفوف أمام زعماء العالم، والتي اعتبرها البغض سقطة مهنية لا تغتفر رغم أنه لم يكن صاحب الفكرة.
تكلم أسامة سرايا بجرأة وشفافية عن أسرار عمله الصحفي كرئيس تحرير خلال ست سنوات ما بين أعوام (2005 – 2011)، وكيف قفز بتوزيع الجريدة مرة أخرى بعد أن تراجعت في الفترة الأخيرة لرئاسة الكاتب الصحفي الراحل إبراهيم نافع في ظل ترهل وتراجع السياسات التحريرية التي واكبت تراجعا في الأداء السياسي المصري إبان تلك الفترة، وقد تطرق سرايا في حديثه الذي يبدو ذو شجون عن انفراداته الصحفية مثل تغطيته الموضوعية عن (حريق مجلس الشعب) والتي نغص بمقتضاها السيد على صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى – آنذاك – وعلى الرغم من قوة ونفوذ (الشريف) دخل الدولة المصرية، فلم يجرؤ على معاتبة (سرايا) – وقت أن كانت الأهرام أهرام – بل اشتكاه إلى رئيس الجمهورية الذي تحدث معه مستفسرا عن الحقيقة، فقال له سرايا لقد نقلت الحقيقة التي لو ترددت في نشرها لنشرتها صحف المعارضة على عكس تلك الموضوعية التي نشرتها الأهرام، ومن حق صفوت الشريف الرد إذا كنا قد أخطأنا أو بالغا في شيئ.
ناهيك عن حديثه المتوراي حول القفز بإيرادات المؤسسة من (800 مليون) إلى (2 مليار جنيه) قبل تركه منصبه، وتلك الأرقام لم يذكرها (سرايا) صراحة في معرض حديثه لصوت العرب، بل أنا أعرف تلك الحقائق جيدا بحكم قربي وعملي معه لمدة تزيد على ربع قرن.
وأشهد هنا أنه كان الأكفأ بين زملائه لتولي هذا المنصب الرفيع، فقد لمست مدى حبه وانتمائه للأهرام من ناحية ونظافة يده من ناحية أخري، كما يعرف القاصي والداني أنه في عهد أسامة سرايا لم ينكل بصحفي ولم يقصف قلم طالما كان موضوعيا ووطنيا محبا لمصر، رغم أن الكثيرين منهم كانوا يرون أن المنصب أكبر منه، ولم يدركوا حقيقة المهنية والأخلاقية وجوهره النفيس إلا فور مغادرته الأهرام وإقصائه عن الكتابة حتى وقت قريب عندما عاد كاتبا أسبوعيا قبل السنوات الأربع الأخيرة.
وعن علاقة الأهرام بالقارئ وبرئيس الجمهورية تحدث أسامة بضمير حي قائلا أنه كان يراعي (القارئ والمهنة ورئيس الجمهورية) بطريقة متوازنة، إنطلاقا من وازع إيماني بأن الصحيفة لابد أن تعبر عن هموم المواطن، كما تجلى ذلك في التحقيقات والحوارات وحتى الأخبار التي نشرها بجرأة و حرفية تكسب الأهرام أرضا جديدة في كل يوم، وتزيد من توزيع الجريدة دون إخلال بأنها صحيفة قومية تعبر عن مصر وهى في ذات الوقت لسان حال الدولة المصرية، لذا كان حريصا على الحوار المباشر مع رأس الدولة في كل أوقات الأزمات كي يستقي المعلومات الحقيقية التي لا تفقد المواطن الثقة في دولته أو رئيسه مبارك الذي كان يكن له كل التقدير والاحترام، ويخصه بالأخبار والمعلومات التي يراها ضرورية لتوضيح الصورة أمام الرأي العام في الداخل والخارج.
وعندما سأل المذيع (هشام مهران) أسامة سرايا عن حقيقة ما حدث بالضبط في فترة أحداث 25 يناير 2011، أجاب بموضوعيته المعهودة وبرحابة صدر عن حقيقة ماحدث خلال الأيام الآخيرة التي قضاها – مرغما – في رئاسته تحرير الأهرام، ففور انطلاق شرارة الأحداث اعترف على الفور بأن النظام قد سقط ولابد له أن يرضخ للمعطيات الموجودة على الأرض، وهو ما جعله يبتعد قليلا عن دفة القيادة تاركا المهمة لديسك الأهرام الذي كان يكتب (مانشيتات) تخاطب الشارع، وبغض النظر عن مدى قربها أو بعدها عن الحقيقية فقد آمن (سرايا) بأننا نعيش مرحلة انتقالية سوف يحكم عليها التاريخ فيما بعد، ولعله يبدو جليا الآن ماذا أصاب مصر من تلك الأحداث المؤسفة التي أدت إلى حكم الإخوان الذين عصفوا بمقدرات هذه الأمة لمدة سنة كادت تخرج مصر من التاريخ.
وفي هذا الصدد أشار أسامة سرايا إلى استهدافه بالقتل في فترة حكم الإخوان مرتين، لكنه لم يهتز ولم يتراجع عن قناعاته الشخصية والمهنية، كما تحدث عنها في خلال ساعة مثيرة حول تاريخ المهنة والصحافة في مصر في أدق وأخطر أيام مصر، وإن أكد هذا على شيئ فإنما يؤكد بالضرورو على أن (أسامة سرايا) بدا للمستمع من خلال حوار لاتنقصه الصراحة والمكاشفة والنقد الذاتي للتاريخ قامة صحفية كبيرة ستتوقف عندها أجيال كثيرة، لتؤكد أنه كان رجلا محبا لمؤسسته الأهرام، ومحبا لرئيس الجمهورية السابق حسني مبارك الذي كان يراه مخلصا لوطنه كونه أحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة، وبشيء من الأنصاف سوف تعمل تلك الأجيال على رد حقوق (سرايا) الذي ظلمه كل من جاء بعده، رغم أنهم لايمثلون نقطة واحدة في بحر مهنيته ووطنيته وإخلاصه وأخلاقه الرفيعة.
لقد عايشت أسامة سرايا أكثر من ربع قرن من الزمان ولمست فيه كثيرا من الصفات التي لم ولن تتكرر فيما تبعه في رئاسة تحرير الأهرام من قيم الشهامة والأصالة وحب الغير الحنو عليه حتى ولو كان قد اختلف معه، فقد كان (أسامة) في عز سطوته ومجده الصحفي يتعرض لملاسنات كثيرة وتقليل من كفأته المهنية، ولم ينتبه لكل ذلك قيد أنملة، بل إنه بنبل أخلاقه لم يصفي أية حسابات مع أحد، بكل كان دائما يتبع المثل القائل (إتق شر من أحسنت إليه بمزيد من الإحسان إليه)، ولا أنسى عندما كنت ألومه على ذلك قائلا : إنهم يطمعون فيك ويرونك ضعيفا، فكان يرد على بمقولته الشهيرة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
وكان رده الهادئ الذي يقول : (دعهم في غيهم فكل شيئ بإرادة الله مكتوب ولا مفر منه)، وكأنه كان يرى فيسلوف الصابرين وهو يقول: (سيأتي يوما وأجلس على حافة النهر وأرى الجثث تطفو أمامي على صفحة الماء)، وهاهو الآن قد بدت لنا المفارقات المذهلة وصدقت نبوئته وهو يتحدث كشاهد على عصر من الفتوة الصحفية المصرية، عبر أثير (صوت العرب) في وقت نلاحظ فيه جميعا أفول نجمها وإلى الأبد على صخرة الواقع المخزي، وفي ظل قياداتها الحالية التي تخلو من عقل مفكر وضميرحي ، ومن فوق كل ذلك أدني مقومات الأخلاق.