كتب : محمد حبوشة
على الرغم من بعض الهنات التي اعترته يعد أن مسلسل (الناموس) بمثابة أوركسترا فنية متكاملة ، حيث يضم نخبة كبيرة من النجوم لم تجتمع في عمل آخر بموسم رمضان 2021، وكل منهم يعزف بأدائه المنفرد تارة والجماعي تارة أخرى أفضل ما لديه من مقطوعة فنية، وذلك في عمل يعكس (نوستالجيا) قادمة من رحم واقع فترة السبعينيات برؤية مثيرة ومعالجة مميزة لكاتب العمل محمد أنور، الذي أبدع في نسج خيوط عمله الدرامي، بعد نجاحه الملحوظ من قبل في (الديرفة، ومحمد علي رود)، ومن ثم يمكن اعتبار مسلسل (الناموس) ثالث أجزاء سلسلة الكاتب الصاعد بقوة على الساحة الخليجية عملا متكاملا على كافة المستويات وذلك بقيادة مخرج مخضرم وصاحب رؤية، هو جاسم المهنا الذي يعد أحد أهم نجوم هذا العمل.
جريمة قتل غامضة وقعت في سبعينيات القرن الماضي هى الفكرة الأساسية التي دارت في ذهن محمد أنور، حولها أحداث المسلسل، ووجدت طريقها إلى النور أخيراً بعد نجاح تجربته في مسلسل (محمد علي رود) الذي قدمه رمضان الماضي، حيث شعر أن المشاهد الخليجي جاهز لتلقي أعمال الغموض و الإثارة التي قد تكون جديدة على الدراما الخليجية، و لكن التحدي الأكبر هو القدرة على الاحتفاظ بنسبة مشاهدة عالية و جذب المشاهدين طول الـ 30 حلقة، وخاصة أن عمل بهذه الضخامة لن يكتمل إلا بوجود نجوم صف أول، حيث نجح المسلسل في جمع عدد كبير من نجوم الدراما، و هو أمر قد لا يحدث كثيراً في الدراما الكويتية.
يتسم مسلسل (الناموس) برسم شخصياته بعناية، وهذا عنصر قوته الأساسي الذي يستحق أن ننظر إليه من خلاله، حيث تسهل ملاحظة العناية التي يوليها الكاتب لكل شخصية من شخصياته كي تترك بصمتها الخاصة، فحتى الأدوار الصغيرة جاءت في مجملها فاعلة ومؤثرة ولا تخلو من الغموض الذي يستدعي التمعن كثيرا في تصرفاتها لفهمها ومتابعتها، وتلفت شخصية (سعد/ محمد المنصور) الذي رفعته أزمة المناخ الشهيرة من سائق لا يملك أجر منزله إلى رجل أعمال على رأس إمبراطورية كبيرة، وابنه (فواز/ أحمد النجار) يقع في حب (شيخة/ حصة النبهان)، وهى من فئة الصم والبكم في خط جميل مضموناً وتمثيلاً، فضلا عن عبدالله بهمن بشخصية (نبيل) التي تصنف في نفس خانة الصعوبة والطبيعة، فهو شاب يعاني إعاقة ذهنية تجعله أسير تصرفات طفولية وفريسة للاستغلال من تشكيل عصابي للسرقة والإجرام التي يتورط معها.
والتأثير ذاته ينطبق على باقي شخصيات المسلسل مثل (راشد الماثر/ جاسم النبهان) امبراطور المال الذي نرافقه من بداياته إلى مقتله، وصهره (سالم) الانتهازي والمجرم (حسين المهدي) الذي بدا حضوره بشكل لافت في الحلقات الأخيرة بعد بداية بطيئة حتى فرض نفسه محوراً للحلقات الأخيرة، و(نعمة/ هيفاء عادل) القاتلة التي انتزعت الطفل (نبيل) ابن راشد بعدما ادعت وفاة المولود، متسببة في انهيار ومأساة والدته، وشخصية (نعمة) على عمقها هي الأقل نجاحا مقارنة بأدوراها السابقة، ونواصل النظر إلى العمل من زاوية رسم شخصياته، ولابد من التوقف عند شخصية الصحافي (رياض)، الدور الذي أجاده الممثل عبدالله الزيد، لافتا الانتباه إليه ومالئا مساحته بشكل وأسلوب غير تقليديين يبلغان حد الاستفزاز، وفي مقابله دور المحقق (ناصر/ فيصل العميري)، الذي أبلى بلاء حسناً في إظهار معاناة رجل الأمن الملتزم وتأثير مهنته على حياته، والأهم المخاطر الحقيقية التي يواجهها في عالم الجريمة بكل غموضه وبشاعته.
ولا يخلو العمل من خطوط دراميا مترهلة مثل قصة حب الدكتور (طلال/ خالد أمين) ابن (راشد الماثر) و(غنيمة/ بثينة الرئيسي) والتي غاب عنها تماما التشويق والإحساس بالحالة الرومانسية، لكن بالمجمل لم تشهد أحداث (الناموس) سوى بعض حالات البرود على مستوى الأداء كغنيمة وعلياء في بعض الحلقات، ومن ثم كانت تزخر كل حلقة بتسارع جيد إلى حد ما للأحداث، ويمتد الاهتمام بالشخصيات إلى الشكل، كحالة (أبو شعر ثلاجة/ مشاري المجيبل) رجل العصابات الذي يعيد شعره المشاهد إلى فترة اشتهرت فيها قصة الشعر هذه تلفزيونيا، وبجانب صراع الشخصيات، تعد (حبكة الاكتشاف) من سمات أعمال محمد أنور، فهو يحرص دائماً على إبقاء سر واحد كبير على الأقل يصمد حتى الحلقة الأخيرة ويفاجئ المشاهدين، وهو الأمر المستمر أيضا في (الناموس).
في مسلسل (الناموس) تكتسب التفاصيل الصغيرة أهمية رئيسية في تعزيز صدقية وواقعية الأجواء، وهنا كان اختيار مجموعة من الأغاني الغربية والعربية الشهيرة التي كانت حاضرة بقوة في تلك الحقبة: Daddy Cool وFly me to the Moon وI Will Survive، وأغاني عائلة بندلي.. إضافة إلى الملابس والسيارات والمنافسات الرياضية والأوضاع على الساحة السياسية وتوجهات المجتمع الثقافية.. كلها أمور غطاها المخرج المثقف بدقة مع موسيقى تصويرية أكسبت العمل تميزا خاصا.
ولعل الأزياء كانت من أكثر الأمور التي لفتت الجمهور إلى المسلسل، و قربها بشكل كبير إلى حقبة السبعينيات من شعر، مكياج و ستايل أعطى للمسلسل لمسة واقعية أكثر، وهنا يعترف صناع العمل بكرم المنتج الفنان عبد الله بوشهري، الذي وفر كل عناصر النجاح للعمل لدرجة أنه تطلب بناء أكثر من 100 موقع تصوير بكلفة إنتاجية ضخمة و كله تحت إدراة المخرج جاسم المهنا الذي اعتبر العمل فرصة لدخول الدراما التلفزيونية المطولة من باب الكبار و بصحبة نخبة نجوم الدراما الكويتية.
ولابد لي من الإشادة بأداء بثلاثة على وجه التحديد، فقد تألق القدير محمد المنصور، الذي أدى دور (سعد) بطريقة بسيطة وسهلة للغاية ومن ثم، فقد اعتمد في أدائه على النحو على قدراته الداخلية التي تتمثل في العقل، والإرادة، والشعور، والتخيل، والتخييل، واستكناه دوافعه الداخلية الشعورية واللاشعورية، واعتماده على الذاكرة الانفعالية على مستوى التخييل والتشخيص، بحيث استخدم العقل الواعي والعقل الباطن معا من أجل الوصول إلى الفكرة الرئيسة للموضوع، مع خلق فلسفة خاصة بالدور اعتمادا على قواه الداخلية الإبداعية، والتكيف مع الظروف بغية تحقيق التواصل مع الآخرين، والاشتباك معهم ذهنيا، ووجدانيا، واجتماعيا ،وحركيا.
وعلى غرار المنصور جاء أداء القدير أيضا جاسم النبهان، الذي يقترن التمثيل عنده بمجموعة المبادئ النظرية والتقنيات التطبيقية لـ (ستانسلافسكي)، والتي تسعف الممثل في أداء دوره أداء جيدا، وتساعده على استيعاب دوره وفهمه فهما دقيقا من أجل ترجمته دراميا، وتشخيصه فوق الشاشة لعبا يرضي الجمهور، ويقنعه إقناعا جيدا، وذلك من خلال المعايشة الحقيقية القائمة على الشعور الصادق، والإحساس النابع من القلب والعاطفة والوجدان، كما جاء من خلال تحولاته المذهلة بين الخير والشر عبر شخصية (راشد الماثر) الرجل ذو الجاه والجبروت والقدرة المادية.
ومن عذب الأداء عند منصور والنبهان إلى عبد الله بهمن في شخصية (نبيل)، الذي وصل إلى مرحلة النضج بعد تراكم تجاربه، متنقلا بين مختلف القوالب الدرامية، ومقدما بجرأة وشجاعة على خوض تجارب جديدة، ليعزز من قدراته ويصقل موهبته إلى أن ينتقل إلى المحطة التي تجبره على تغيير طريقه، ليسلك دربا وعرا مملوءا بالتحديات وهو قدر المبدع الذي يبحث عن التميز.
ومن خلال مشاهدتي له ومراقبة حركاته فقد وجدت الفنان عبدالله بهمن يتمتع بحس المغامرة، ويبدو ذلك واضحا منذ طرق أبواب الساحة الفنية قبل سنوات، حيث يسير بخطى ثابتة واضعا نصب عينيه هدفا يسعى للوصول إليه، بهمن هذا العام خاض تجربة جديدة ومختلفة من خلال مسلسل (الناموس)، حيث جسد شخصية (نبيل) غير متصنع في دوره ولا يؤديه أداء آليا سطحيا زائفا خاليا من الإحساس والمشاعر الصادقة، وينعدم فيه الإيمان الحي والحياة الواقعية الطبيعية، بل خلق روحا إنسانية وقدم شخصية تنبض بالحيوية والحركة والمتعة، ومن ثم تحقق الإيمان الصادق بتوظيف الأفعال الجسمانية الصادقة من جانبه، وتشغيل العواطف المتقدة ، وتفتيق الانفعالات النفسانية الحقيقية، وربطها بالخيال والخبرة والشعور.
وعلى الرغم من استمتعنا بكثير من المشاهد على مستوى الأداء فيبقى مشهد المواجهة بين الأب (جاسم النبهان/ راشد الماثر) والابن (طلال/ خال أمين) هو بمثابة (ماستر سين العمل)، حيث حاول الأب تلقين ابنه درسا قاسيا ولد لديه إحساس بالذنب ظل يطارده حتى نهاية المسلسل كما جاء على النحو التالي:
يدخل طلال على والده راشد الماثر في الاستراحة بينما يبدو الأب منشغلا بالقراءة.
طلال : سلامو عليكم
راشد ينظر إليه باندهاش قائلا: أنا قايل حق علياء ما أبي أحد يدس على.
طلال : يا بوه اللي صار اليوم مالي يدا فيه، وماني راض عنه.
راشد : هههههه انت طوال عمرك ما تبي تقرب يمي .. تنحاش بعيد عني .. لكن الحين لما سمعت الناس بيقولون عني حرامي أشوف فز قلبك.
طلال : انت السبب يا بوا عندك .. ما خليتني قريب منك خصوصا بعد اللي صار حقي.
راشد : أمك هى اللي ذبحت نفسها بنفسها .. لا ليانا ولا أنت زنب.
طلال بحقد دفين : انت اللي كنت قاسي عليها.
راشد : يا دكتور .. فيه صفحات مشقوقة من كتابك اللي تقراه اللي تقول انك تعرفه .. أمك اللي تقول ان هى أمك ترى .. .
طلال : مالها داعي .. كل أبو يابي عياله يكونوا قراب منه إلا أنت ماتبي .. لا أنت ما تحبني أني بالذات.
راشد : آه الحين عقب ما كال الشيبة راسك تقول أنا ما أحبك .. آه اش تبين أسوى لك أكتر بعد .. تبين أشيلك وأدبخك بالكلام على صدري.؟!.
طلال : انت يابوه عمرك ما حتتغير.
راشد : لأن أنا أبو .. أنا جنتك ونارك .. انت واللي تبون رضاي عليكم ما أنا اللي أبي رضاكم علىّ .. أنا اللي سوتك .. أنا اللي بنيتك .. ثم يستخرج نقوا من جيبة وينثرها على ابنه طلال قائلا : وأنا اللي أهدمك .. أنا اللي بقيت لكم عقب ما فاتتكم وراحت بكل أنانية .. أنا اللي بقيت .
طلال : تدري شنو أذكر يا بوه .. أذكر دراج كان يجيي على وجه أمي وعلى وجهي .. كل خيزرانة كانت تنكسر على ضهر أمي وعلى ضهري .. صح يابوه ما قصرت كنت تصرف علينا .. بس للأسف ما كنت أبو .. انت كنت جلاد، ثم يغادر من أمامه في فراق لايدري أنه الأخير.
راشد ببكاء حار : طلال .. طلال .. وكأنه كان يريد أن يضمه لآخر مرة. .. لكن دون جدوى يرحل .. عندئذ ينتهي المشهد الذي يشهد آخر لقاء بين الأب والابن قبل أن يختفي الأب ثم يتم اكتشاف مكانه ملقى على شاطء البحر، في غيوبة يظل بها حتى الموت.