كتب : محمد حبوشة
صحيح أن الأعمال الدرامية والسينمائية تناولت مشاهدا من رحم ثورة 30 يونية على استحياء دون الدخول في تفاصيل انتفاضة شعب على نظام عنصري فاسد كاد أن يودي بمستقبل البلا ويذهب بها نحو حافة الهلاك، لكن بقيت الثورة حدثا سياسيا لم ينتبه أحد إليه على المستوى الدرامي الذي كان جديرا بالاهتمام بتلك الأحداث المتلاحقة، من حظر للتجوال، وخريطة للطريق، ثم الترشح لرئاسة الجمهورية، الذي جاء متزامنا مع محاكمات قادة جماعة الإخوان المسلمين، ومع ذلك بقيت الدروس المستفادة التي حاول صناع الدراما التلفزيونية التعلم منها بالابتعاد عن الثورة وتفاصيلها، واللجوء إلى أعمال اجتماعية وكوميدية هشة في غالبتها، والحال نفسه ينطبق على السينما التي لم تقدم عملا يوثق للثورة الأخيرة، بعكس نظيرتها الأولى.
تلك الظاهرة فتحت الباب للتساؤلات – ونحن نحتفل بالذكرى الثامنة لثورة 30 يونيو – حول سبب ابتعاد صناع الدراما عن الثورة هذه المرة، والتي تأتي تأكيدا لمقولة روائي نوبل نجيب محفوظ (المعاصر هو أسوأ مؤرخ)، وهو ما جعل صناع الدراما يتخوفون من أن تكون الأعمال التي تتناول ثورة 30 يونيو على شاكلة الأعمال التي تناولت الثورة التي سبقتها، ورغم الانتقادات التي وجهت للأعمال التي تناولت ثورة 25 يناير، ما من شأنها أن يخيف أي شخص من تناول أحداث سياسية في الأعمال الدرامية، وهذا يشير إلى أن تناول الثورة في الدراما يحتاج إلى مرور المزيد من الوقت عليها، من أجل أن تتكشف حقيقة كافة الأمور حتى يمكن تناولها بشكل صحيح.
ولهذا السبب قدم المؤلف محمد سليمان عبد المالك، عام 2013 مسلسله (اسم مؤقت)، الذي تناول بعض جوانب ثورة 25 يناير، وكانت هناك أعمال تلفزيونية عديدة سابقة تتحدث عن ميدان التحرير في إطار حالة هوس مفاجئة كانت تسيطر على صناع الدراما عقب ثورة 25 يناير، وهو ما أوجد هذا الكم من الأعمال التي تحدثت عن الثورة دون إدراك فحوى الرسالة والهدف أو حتى استخراج تلك الطاقة الفكاهية التي تمتع بها المواطن المصري خلال تلك الأحداث.
ومع ذلك ورغم زخم الأعمال التي قدمت عن ثورة 25 يناير في مواسم رمضانية متتالية، وعلى عدم جدواها من الناحية الفنية والتقنية، فلم يكن هنالك مسلسل درامي واحد يرصد أحداث ثورة 30 يونيو، وماتزال تفاصيلها حاضرة عبر الشاشة، في مشهد مماثل لاختفائها عن شاشة السينما، وهذا ما يفسر لنا أن كثير من الانطباعات فيما يتصل بالمستوى الفكرى والفنى للدراما التليفزيونية فى السباق الرمضانى تفرض على طرحها ومناقشتها أنها لا تمثل أحكاما نقدية قاطعة أو تحليلا منهجيا صارما، بقدر ما تعبر عن رؤية عامة وملاحظات مختلفة، تعكس تصورات تحتاج إلى دراسات دقيقة أرى أنها لازمة وضرورية، أول هذه الانطباعات يتركز حول إيجابية خاصة بتقدم وتطور تكنيكى واضح وجلى فى مستوى التصوير والإضاءة والمونتاج والديكور والصوت واستخدام الحيل المرئية التى تنافس الإمكانات السينمائية.
وبصرف النظر عن مستوى المحتوى الفكرى، يبدو أن هناك تناقضا واضحا بين التقدم التقنى والإبداعى فى تلك الفنون الدرامية وبين التراجع الكبير فى المحتوى الفكرى، أو بين الشكل والمضمون، ويبدو ذلك التناقض جليا فى الأفكار والموضوعات والقضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية التى طرحتها المسلسلات التي جاءت في أعقاب ثورة 30 يونيو، والتى تظهر فى معظم الأحوال بعيدة كل البعد عن واقع حياتنا المعاصرة وإشكالات مجتمعنا، وهموم الإنسان المصرى واهتماماته، وتفاصيل معاناته الحياتية، والتأثيرات المتبادلة بينه وبين البيئة المحيطة.
ومعروف أن تلك القضايا والاهتمامات كانت تميز كتابات المؤلفين الكبار من الرواد فى مجال القصة والسيناريو والحوار: أسامة أنور عكاشة ورحلة بحثه عن الهوية المصرية.. صراع الشرف والضمير فى مواجهة البلادة والتسيب.. المنازلة بين القبح والجمال فى نفوس البشر.. التمسك بالمبادئ فى زمن اختلال القيم، وكذلك الحال مع (وحيد حامد) الذي قام بتعرية الإرهابيين الذين يرتدون مسوح التقوى وأردية الإيمان، وأيضا (يسرى الجندى) فى استلهام التراث مسقطا دلالاته ورموزه على عصرنا، و(محمد جلال عبدالقوى) في بحثه عن تمزق أبطاله وعذاباتهم من خلال ثنائية أطماع البشر وأشواق الروح، و(بشير الديك) والتحامه بإشكالات واقع متغير وانقلاب السلم القيمى، ولكن للأمة والتاريخ فإن شيئا من مما خطر في خيال هؤلاء الكتاب العظام شاهدنا بعضا منه في الأعوام الثلاثة السابقة اللهم إلا شيوع القبح وتقلص الجمال والأفكار العميقة والبراقة.
ويبدو لي أن وعى الكتاب مؤخرا بالمعارف والثقافة العامة، إلى ضرورة اتباع أصول البناء الدرامى.. وما يتصل بذلك من آفة جديدة تتمثل في انتشار تلك اللغة الجديدة المتدنية التى لا علاقة لها بلغتنا العربية الجميلة بشقيها (الفصحى والعامية) والتي تفشت تفشيا خطيرا، وأصبحت تشمل كل البيئات والطبقات والشخصيات الدرامية فى المسلسل الواحد، لقد جاء طوفان تلك المسلسلات فاقدا طموح التطوير الفكرى والفلسفى والارتقاء الإبداعى والرؤى المغايرة والتجديد الذى يدفع إلى التنوير والإصلاح وخلق تيارات تدعم التحضر والتقدم والرقى الإنسانى، لقد وعي كتاب الدراما الجدد مؤخرا لأهمية صناعة أفلام ومسلسلات الهوية الوطنية (الممر، كلبش، الاختيار بجزئيه، هجمة مرتدة، القاهرة كابول)، وهذا ربما جاء تتويجا لروح ثورة 30 يونيو حتى ولو لم تضمن تفاأحداثها في السياق الدرامي.
نعم وعى الكتاب الذين استمدو أفكارهم من روح 30 يونيو لمقولة (الفن مرآة الشعوب) باعتبارها مقولة تختزل أهمية الفن في الحضارة الإنسانية باعتباره مكنون وإبداع بشري يظهر جانبا من رؤية الإنسان لعالمه، ونظرا لدوره الرائد في العمران البشري يحظى باهتمام بالغ من جانب صانعي القرار السياسي، لذلك يرتبط بالاسترتيجيات القومية للدول في إطار السياسية الثقافية لكل بلد، وقد وعت كثير من الأنظمة الحاكمة على مر التاريخ الحديث لدور الفن في التنشئة الاجتماعية في محيطها الاجتماعي، وارتباطه في ذات الوقت بالسياق الثقافي العام وبالوضع السياسي للبلد، ولقد أصاب الرئيس عبد الفتاح السيسي بحسه الوطنى عندما خاطب الضمير الفني المصري والتوجيه نحو إيقاظ هذا الضمير لدى القائمن على صناعة الفن باعتباره أداة لها اليد الطولي في بث روح الحماسة والوطنية من أجل تحسين صورة مصر الجديدة التي تسير بخطى واثقة على طريق الحرية بعد ثورتين حركتا الضمير الإنساني كله.
ولأنه لم تعد الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية مواد للترفيه فقط، بل إنها أصبحت تمثل إحدى أهم أدوات (القوة الناعمة) التي تمتلكها الدول وتحرص على تطويرها لدعم حضورها وربما نفوذها خارج حدودها الجغرافية، وقد تبلور توظيف صناعة السينما والدراما عالميا وإقليميا خلال السنوات القليلة الماضية بشكل كبير، لا سيما مع تطور هذه الصناعة ومواكبتها للتقنيات الحديثة، حيث اتسمت معظم الأعمال الدرامية الوافدة على وسائل الإعلام العربي بمستوى عال من الحرفية وجودة جماليات الصورة، والإخراج، والتركيز على المناطق الطبيعية الخلابة، وهو ما جذب المتلقي ناحية المتابعة لمشاهدة المزيد من عناصر الإبهار التمثيلية والجمالية، في ظل رتابة المحتوى المقدم محليا، وتدني المستوى التقني للصورة على الشاشة المصرية.
على أية حال فإن الدراما المصرية الحالية أصبحت تعى أنها لم تكن من قبل على مستوى أهداف ثورة 30 يونية، ولعلها ترجمت عكس ذلك بصدق وواقعية في الموسم الرمضاني 2021 من أعمال وطنية خاطبت الشباب بعقلانية ووثقت لجرائم الإخوان في (رابعة والنهضة)، كما جاء في مسلسل (الاختيار 2) ومن قبله (الاختيار 1) في موسم رمضان 2020، ونجحت بالفعل في رصد سير وبطولات الشهداء من أبناء الجيش والشرطة، وأتاحت الفرصة لاستعراض بطولات المخابرات المصرية من قلب ملفاتها الحديثة والمعاصرة في (هجمة مرتدة)، وأيضا كشفت عن جذور الأفكار الإرهابية في (القاهرة كابول) .. وهى كلها أعمال جاءت أفكارها من روح ثورة 30 يونيو التي أعادت الثقة للمواطن المصري بعد أن آمن بقائدها (الرئيس السيسي) الذي دفع بمصر نحو التقدم والتنمية بخطى متسارعة تؤكد تحقيقه لما وعد به من أهدف تلك الثورة العظيمة.