بقلم : محمد حبوشة
بداية لابد من تسجيل إعجابي الشديد جدا بأداء النجمة (أمينة خليل) لشخصية (زينب/ زيزي) في مسلسل (خلي بالك من زيزي)، والتي تسطر من خلالها تاريخا جديدا على درب النجومية القائمة على الموهبة والاجتهاد، وأعترف بخطئي لعدم وضع هذا المسلسل ضمن اهتماماتي في قائمة الأعمال التي سوف أتابعها في رمضان، ربما لأن الخريطة كانت مزدحمة بكم هائل من المسلسلات التي صاحبتها دعاية كبيرة، ونظرا لأسماء النجوم المشاركين فيها أو لأسماء المخرجين، أو للقضية التي يناقشها المسلسل، ولهذا شاهدت (خلي بالك من زيزي) بعد انتهاء رمضان، وأدركت أن الجدل الكبير الذي أثاره في الشارع المصرى وعلى السوشيال ميديا كان في محله، فنحن أمام مسلسل جيد جدا على مستوى الصناعة والأداء المبهر لطاقم الممثلين وعلى رأسهم (أمينة خليل) التي أظن أنها قفزت قفزة كبيرة نحو النجومية بهذا المسلسل فائق الجودة.
فور مشاهدة الحلقة الأولى لـ (خلي بالك من زيزي) أيقنت أننا بصدد عمل مختلف، ويتميز بمواصفات فنية خاصة، بداية من أغنية التتر تقدمها (فرقه شارموفرز)، وتؤكد كلماتها أن (الكدب مالوش رجلين ولكن له أنياب) ومروروا بقصة وسيناريو وإخراج وديكور وموسيقى تصويرية موحية ومعبرة للغاية ساهمت في صناعة دهشة الصورة وبريقها الأخاذ، فضلا عن حبكة درامية متقنة تأليف ورشة يتقدمها أسماء (منى الشيمي ومجدي أمين)، وتشرف عليها (مريم ناعوم)، ومن اللقطات التمهيدية، اللافتة للانتباه وتقودك إلى تفاصيل العمل تلك التي قدم فيها المخرج كريم الشناوي وصفا بالصورة لسلوك بطلة الحكاية زينب أو زيزي (أمينة خليل)، حيث نلحظ أن هناك قطع حلوى على أرضية سوبر ماركت، ثم نتبين أن تلك القطع تتساقط من كيس تحمله زيزي، التي تنتقي عدة أكياس من الحلوى لا تضعها في سلة شراء كما هو معتاد، ولكنها تحملها بين يديها بطريقة عشوائية، ما يؤدي إلى تساقطها، ويعطي انطباعا أننا أمام امرأة هى في الواقع طفلة عشوائية التصرفات، مضطربة أغلب الوقت، لا تهتم بشيء إلا تحقيق رغباتها فورا، وتصاب بحالة هياج إذا لم تصل إلى ما تريد.
ربما توحي البداية في الحلقات الأولى أننا أمام عمل درامي معقد، بسبب حركات وإيماءات أمينة خليل التي تتضمن جوانب من شخصية المريضة نفسيا، لكن الحقيقة أن المسلسل يتضمن أحداثا ومواقف وأسلوب أداء يؤكد أنه ينتمي إلى الكوميديا الاجتماعية التي تعتمد على الشخصيات المركبة التي تصطدم مصالحها إلى حد الصراع، وربما تذكرنا شخصية زيزي بشخصيه لبنى عبد العزيز في فيلم (آه من حواء) المأخوذ عن مسرحية شكسبير (ترويض النمرة)، لكن كتاب السيناريو قاموا هنا بنقل تلك الشخصية إلى أحداث عصرية وقصة مختلفة في بدايتها وتداعياتها، فزيزي تعتمد في معيشتها على زوجها، وعلى أسرتها التي ضاقت بكثرة مصاريفها، وهى بعد طلاقها من هشام لم يعد لها باب رزق ولا مكان تعيش فيه بحريتها، خاصه أن والدتها (صفاء الطوخي)، وهي امرأة عاملة وذات منصب، تدرك أن حال زيزي لن ينصلح وشخصيتها سوف تزداد سوءا طالما تعتمد على الآخرين ماديا، ولا تتحمل تبعات تصرفاتها.
المسلسل لا يعتمد على نجوم كوميديا تقليديين وحسنا فعل المخرج في اختيارته، لكنه يعتمد على ممثلين محترفين مشهود لهم بالموهبة والقدرة على التلون، والكوميديا هنا تنبع من تصاعد المواقف ومن سوء الفهم، والأداء جاد جدا بدون أية محاولة لـ (التكلف أو المبالغة أو الاستظراف) وهذا ما يمنحه قيمته وتميزه بين هذا الكم الكبير من مسلسلات رمضان، والغريب أن بعض متابعي خريطة رمضان يعتقدون بأن الموسم يخلو من الأعمال الكوميدية مقارنة بالمواسم السابقة، وهذا يضعنا أمام الفهم الخاطئ للأعمال الكوميدية، التي وصلت لقمة الهزل والرداءة على أيدي مجموعة من المضحكين اعتقدوا زورا بأن الكوميديا هى فن التهريج والاعتماد على السخرية من الآخرين، أو المبالغة في الأداء أو الإيحاءات المبتذلة.
ظني الشخصي أن (خلي بالك من زيزي) ربما يعيدنا إلى المعنى الحقيقي للكوميديا الاجتماعية بمفهومها الصحيح التي شاهدناها في أفلام العصر الذهبي مثل (مراتي مدير عام) لشادية وصلاح ذو الفقار، و(الزوجة 13) لشادية ورشدي أباظة و(الأيدي الناعمة) لأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وصباح، و(إشاعة حب) لسعاد حسني وعمر الشريف يوسف وهبي، وغيرها الكثير من تلك الأفلام التي اتسمت بالكوميديا التلقائية مغلفة بطابع اجتماعي لذا لا تزال تمتعنا كلما شاهدناها رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على إنتاجها.
وبفضل الأداء العذب والاحترافي من جانب (أمينة خليل) جاء مسلسل (خلي بالك من زيزي) عمل هام ومتفرد، وهو مفاجأة حقيقية على مستويات كثيرة، فالعمل دراما ناضجة، أشرفت مريم نعوم على كتابتها، وكما هو معروف أن لدية رؤية درامية ناضجة انعكست على رسم شخصياتها بشكل ممتاز، بل إننا تقريبا في منطقة رمادية طوال الوقت، ويترجم ذلك بدقة وبإتقان المخرج كريم الشناوي، وبأداء مدهش من الممثلين، ويقصد بالمنطقة الرمادية على حد تعبير الناقد (محمود عبد الشكور) أن الأحداث ليست ذات جانب واحد بسيط، فحكاية زينب أو زيزي مثيرة للضحك، ولكن تكمن خلفها مشكلة مؤلمة تماما: امرأة تعاني اضطرابا سلوكيا، وفشلا عائليا، ولذلك تثير أيضا الرثاء والتعاطف، والزوج على الجانب الآخر لا يكره زوجته التي اعتدت عليه، ولكنه مجروح الكرامة، لا يمكنه أن يعود كما كان، ويعاني صراعا داخليا صعبا، أما التفاصيل الإنسانية فهي حاضرة على كل الاتجاهات، والمعالجة جادة وكوميدية ونفسية واجتماعية وقانونية في نفس الوقت، وهو أمر مركب وصعب، ومع ذلك يتغير المود بشكل سلس وممتع.
امتلكت أمينة خليل طوال الوقت قدرة مبهرة على التحول بين الجد والهزل في المشهد الواحد، كما أن لغة الجسد لديها مناسبة لكل موقف، وكذلك طريقتها في التحدث سريعا، وأكثر ما لفت نظري هو أزياء العمل، التي جاءت بتنسيق الستايلست ناهد نصرالله، إذ عبرت كثيرا عن شخصيات العمل الدرامي، فقد لعبت أزياء (زيزي) الشخصية التي تجسّدها أمينة خليل، دوراً لافتاً للغاية في العمل الدرامي، والتي تم الاعتماد فيها على ستايل عشوائي يركز على الملابس الرياضية المريحة جداً، مع افتقاد كبير للذوق والأناقة، هذا بالإضافة إلى ارتداء تلك القطع أكثر من مرة خلال العمل الدرامي، كما كان هناك تركيز واضح على اعتماد صيحات مكياج بسيطة، وشعر ويفي عشوائي، مع اختيار إكسسوارات بعينها، ليتم اعتمادها هى الأخرى طوال مسلسل خلي بالك من زيزي، وهو ما انعكس بشكل كبير على الشخصية، إذ تقوم أمينة خليل بدور فتاة عشوائية، تتمتع بشخصية عصبية للغاية، وتُوقع من حولها في المشاكل بسبب تصرفاتها.
قدم المخرج كريم الشناوي المشاهد بروح إبداعية كاشفة عن موهبة حقيقية تكمن داخله في استيعاب التكوين النفسي للأبطال، لذا جاء مسلسل (خلي بالك من زيزي) أفضل عمل درامي اجتماعي متكامل يعرض خلال ماراثون رمضان، كونه يركز على المرض ودوره وتأثيره في ترابط وتفكك الأسرة بسبب الجهل بالعلاج أو التعامل معه على أنه سلوك عادي، وقد نجح فريق العمل كاملا في عرض اختيارهم على الشاشة، فالشخصيات وتفاصيلها واضحة بشكل كبير، إلى جانب التعامل مع الكثير من المشاكل التي تواجه المجتمع ولا تحظى بالاهتمام الجيد بأسلوب مبسط وجمالي.
لفت نظري مؤخرا تصريحات لأمينة خليل بعد انتهاء المسلسل تقول فيها: إن الجانب الإنساني بالشخصية التي قدمتها بالمسلسل كان سببا رئيسيا في تحمسها لتقديمها، حيث تجسد شخصية سيدة عصبية ومتسرعة في قراراتها نتيجة معاناتها من مرض فرط الحركة، وأوضحت أنها تسعى دائما إلى تقديم أعمال تصقل موهبتها وتتلاءم مع ملامحها لتكون قدرتها التمثيلية طاغية، مشيرة إلى أن العامل الأساسي لقبول المشاركة في أي عمل فني هو الدور الجيد والمناسب لها والذي تخرج منه مستفيدة، مؤكدة أنها بذلت مجهودا لكي ينال دورها إعجاب الجمهور – وهو ما تحقق بالفعل عبر أدائها – ومن ثم كانت ردود الفعل إيجابية للغاية والجمهور تفاعل وتعايش مع الأحداث بسبب الجانب النفسي للموضوع، والذي تم كتابته بعناية شديدة استطاعت أن تقفز بأمينة خليل خطوات كبيرة نحو عالم نجومية الصف الأول.
أجمل ما في (خلي بالك من زيزي) أنه نجح في تغيير الصورة النمطية للمريض النفسي، والتي انتشرت عبر أعمال فنية سابقة على مدار سنوات طويلة، إذ قدمه بشكلٍ أقرب إلى الواقعية، لكونه يتناول مرضا نفسيا لا ينتبه له الكثير، وهو ADHD أو (اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط)، وتدور أحداثه عن فتاة مصرية مصابة بداء (نقص الانتباه مع فرط الحركة)، إذ تضرب الخلافات بين (زينب) وزوجها (هشام)، بعد فشل محاولتها للإنجاب مجدداً، وسرعان ما يتطور الأمر لساحات القضاء، وتصبح هى في خطر بفقدان كل شيء بجانب الأمومة، وتلك هى الدراما الواعية دون مثالية وقد ساهمت (أمينة خليل) في إبراز فكرة تغيير الشخص من حال إلى آخر، بفضل الأزمات التي يقابلها في حياته، فقد بدت بطلة المسلسل مضطربة نفسياً، ولكن مع الوقت نكتشف أنها ليست الوحيدة، بل إن هناك كثيرين في المسلسل غير متزنين.
كما أثبت المسلسل أن الدراما تستطيع تغيير نظرة المجتمع للطب النفسي، إذ نجح مسلسل (خلي بالك من زيزي)، في تغيير نظرة الجمهور لمرض نقص الانتباه وفرط الحركة، وبات الناس أكثر معرفة عنه،لأن معالجة الدراما لقضايا الطب النفسي هنا أصبحت أكثر تطورا الآن، فبدلا من الصورة النمطية عن المريض، أصبحنا نراه من منظور إنساني، وهى صورة حقيقية، فالمريض النفسي هو شخص له أحلام وطموحات وآمال، ولكنه مختلف في التفكير عن باقي المجتمع، لكن للأسف لا تزال هناك أعمال درامية تعرض الصورة النمطية للطبيب النفسي ذي السمعة السيئة أو المريض النفسي المجنون.
يبدو لي أن المخرج كريم الشناوي يثبت نفسه خطوة بعد أخرى، حيث يعد هذا المسلسل العمل الخامس الذي يقوم بإخراجه بعد مسلسلي (قابيل، وعهد الدم)، وفيلم (عيار ناري) والفيلم القصير (فردي)، فقد نجح الشناوي في تنويع الأعمال من بوليسي لفيلم جريمة، ومسلسل يستعرض علاقات الأهل بأبنائهم ومدى تأثيرها عليهم كما في (خلي بالك من زيزي)، ولعل أكثر قرارات الإخراج جرأة هو أن المسلسل جاء خفيفا وبه طابع كوميدي، في الوقت الذي يستعرض فيه قضية شديدة الأهمية مثل متلازمة فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD) ، وتأثير تصرفات الأهل على أبنائهم بسبب عدم تفهمهم لما أصابهم، وأستطاع الشناوي أن يخرج من الحالة الخفيفة الكوميدية ليركز على أزمات الأبطال وصراعاتهم، فجميع الأبطال حتى الشخصيات الفرعية لديهم صراعات، وبرع في أبراز هذه الصراعات بزوايا التصوير ولغة الكاميرا، وفي رسم المشاهد التي توضح حكاية الأبطال، على سبيل المثال لا الحصر، في مشهد عائلة تيتو التي تعاني من أزمات كثيرة، وغيرها من المشاهد التي تتسم بالإبهار أيضا.
وفي النهاية يحسب لأمينة خليل أنها لم تقلق وتعايشت مع الشخصية التي تحمل الدراما والكوميديا خارج الإطار المألوف والمتعود عليه، ورغم أن العمل مليئ بالمشاهد الصعبة والأحاسيس المختلفة، وأغلبها كان حقيقيا، فقد بذلت جهدا كبيرا حتى تصل إلى الجمهور ، ونجحت إلى حد كبير في تقمص شخصية زيزي، التي تتميز بالعناد والاندفاع الطائش، وبقليل من التأني والتحكم في النفس، لم يتبخر جزء كبير من هذا الاندفاع الذبي تتمتع به الشخصية، مخلفة في أدائها التلقائية والبساطة المحببة والجميلة التي نهفو إليها كثيرا في أيامنا العصيبة تلك.
ويبقى أكثر ما أعجبني في هذا المسلسل المشهد الذي يفك (مراد) فيه مقبض الباب ويضعه في يد (زيزي)، وهو يحاول طمأنتها أنها لن تحبس ثانية في تلك الغرفة، التي كان أبواها يحبسانها فيها حين تتمادى في شقاوتها وعنادها الطفولي، ويحاول طمأنتها أنها لن تصرخ ولن تضرب الباب المغلق مرارا بيديها دون أن ينتبه لها أحد، كل هذا لن يحدث مجددا، سيظل باب الغرفة مفتوحا إلى الأبد، هذا المشهد في الواقع يخبرنا أننا كلنا محبوسون في غرف ما، غرف تحبسنا في داخلها أو في داخلنا، كلنا نتوق لمقابض مخلوعة توضع في أيدينا بتلك البساطة، كلنا في حاجة لهذا الهواء الحر من الباب المفتوح أو الموارب، لكن كالعادة العالم المتعجل يمضي بإيقاع أسرع من اللازم، يعاملك كطفل بليد عليه أن يظل محبوساً في غرفته حتى ينهي فروضه، العالم يعتبر الأبواب أهم من البشر، والمقابض والأقفال أغلى من أرواحهم .. تحية تقدير واحترام لأمينة خليل ولصناع مسلسل (خلي بالك من زيزي) على أمتاعنا بهذا العمل الاجتماعي في ثوب كوميدي رشيق.