كتب : محمد حبوشة
ربما يحمل رمضان 2021 معه عذره في مسألة خلوه من أعمال دينية أو تاريخية، بسبب وباء (كوفيد 19) الذي يجتاح العالم منذ أكثر من سنة، لكن غياب هذا النوع من الأعمال التلفزيونية في السنوات الأخيرة يثير العديد من التساؤلات، ويطرح الكثير من علامات الاستفهام التي تقول: هل أصبحت الأعمال الدينية غير مرغوبة من المشاهدين إلى هذه الدرجة؟، هل أضحت الثقافة والهوية الإسلامية مسألة ثانوية في ترتيب أولويات صناع الدراما المصرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة ؟، ماهي الأسباب الحقيقية وراء تجاهل إنتاج مسلسلات دينية وتاريخية؟، هل الأمر له علاقة بكتاب السيناريو أو بقدرة الممثلين أو برغبة المنتجين؟.
الأمر المؤكد أن هذه النوعية من المسلسلات الدينية والتاريخية في رمضان له أبعاد كثيرة من شأنها أن تعزز الهوية والثقافية الإسلامية، وتبث في نفوس النشء الجديد روحا جديدة، تستلهم قوتها من التاريخ الإسلامي المجيد، بشخصياته البطولية وعلماءه وفقهائه ودعاته المرموقين، وهى بذلك تظل أعمالا راسخة في عقل ووجدان المشاهدين، تبلور التاريخ وتخلده في الذاكرة، وعليه فإن غياب المسلسلات الدينية والتاريخية عن الدراما الرمضانية منذ سنوات، يأتي ليؤكد على تجاهل الثقافة الإسلامية مقابل الترويج لثقافات أخرى لا تمت لثقافتنا العربية والإسلامية بأية صلة، تزيد من تغريب الأجيال، وتساهم بشكل أو بآخر في إبعاد المسلمين عن دينهم وهويتهم وثقافتهم، فالأعمال الجادة والهادفة منها، عادة ما تترك أثرا ثقافيا عميقا في وجدان المشاهدين، بل إن بعضها ساهم في تشكيل عقل ووجدان الأمة.
قد يرجع صناع الدراما المصرية والعربية سبب غياب الأعمال الدينية والتاريخية عن الدراما في رمضان 2021، إلى نفس أسباب غيابها في السنوات الأخيرة، ولعل أهم هذه الأسباب على الإطلاق تكلفة الإنتاج الضخمة، وتوقف بعض التلفزيونات العربية الرائدة في هذا المجال عن إنتاج هذا النوع من الدراما، وعدم سعي القطاع الخاص لإنتاج دراما تاريخية ودينية، إذ يبحث جموع المنتجين عن الربح السريع، من دون الخوض فيما يمكن أن يفيد المشاهد العربي في دينه وسلفه وأصله وتاريخه، ويبدو ظاهرا أن منطق تكلفة الإنتاج الضخمة هو منطق معكوس، فلدينا في خارطة دراما رمضان 2021 مسلسلات ذات تكلفة أعلى بكثير من المسلسلات الدينية ومع ذلك تبقى فاشلة على مستوى التصنيف، فلاهى إجتماعية تحمل هدفا ورسالة ولا هى كوميدية يمكن أن تجلب التسرية والفكاهة لجمهور يتعطش للضحك من القلب، ولا هى حتى أكشن بصناعة جيدة ومنها على سيبل المثال وليس الحصر (نسل الأغراب، موسى، كوفيد 25) وتلك أعمال فشلت فشلا زريعا كما شاهدنا.
صحيح جدا أن الدراما التاريخية تحتاج إلى تكاليف مادية مرتفعة جدا خاصة في التجهيزات ومواقع التصوير والأعداد المطلوبة، كما تحتاج أيضا إلى جهد كبير، وتجدر الإشارة في هذا الشأن أن قطاع الإنتاج أو (صوت القاهرة) في التليفزيون المصري قدما أعمالا خالدة في هذا المجال، ولم يخل أي موسم من رمضان لعشرات السنين من عمل ديني أو تاريخي ضخم، لكن عندما توقفت الدولة عن إنتاج هذا النوع من الدراما وغاب التمويل (لأسباب عديدة لا يتسع المجال لذكرها)، تراجع الاهتمام بالدراما الدينية، في ظل توجه القطاع الخاص إلى المشاريع السهلة السريعة والمربحة.
لكن بعض النقاد رفضون هذا العذر أو السبب، مؤكدين أن هناك أعمالا لا دينية ولا تاريخية، استحوذت على ميزانيات خيالية، وتم انتاجها بمبالغ ضخمة، تفوق حتى ميزانيات الأعمال الدينية والتاريخية!! ولا ينكر هؤلاء تأثير غياب التمويل على انتاج مثل هذه الأعمال، لكنهم يشيرون إلى (توجهات فوقية) بعدم الخوض في هذا النوع من الإنتاج، بسبب تأثيرها السلبي القوي على بعض الفئات من المجتمع، وهى في الواقع حجة العاجز أو البليد، فلو أن صناع المسلسل الديني لجأوا لكاتب جيد يقوى على تصحيح المفاهيم ويميط الأذي عن النص المكتوب متبعا حقائق التاريخ وجوهر الدين الصادق لاستطعنا إنتاج نوعية من المسلسلات الدينية التنويرية التي تقدم صحيح الدين وجوهره الحقيقي، ولدينا في هذا المجال كتاب عظام مثل (كرم النجار، ويسري الجندي، ومحمد جلال عبد القوي، ومحمد السيد عيد)، وهؤلا لهم سوابق أعمال تشهد بالكفاءة والتفوق على كافة المستويات.
ولعل ما يشجع على إنتاج مسلسلات دينية ذات هدف ورسالة صحيحة يتفق تماما الآن مع رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي في دعوته لتجديد الخطاب الديني وتلك دعوى يمكن أن تسفر عن إنتاج أعمال درامية دينية لكنها لم تجد أحدا يفكر فيها ، كما أن هناك حقيقة ثابت مؤداها: أن المسلسلات الدينية منذ سنين طويلة كانت تتعرض لمرحلة معينة من التاريخ الإسلامي وكانت تقدم بصورة معينة للجمهور، لكن الأمر اختلف الآن على مستوى الشكل والمضمون وفروق تكنولجيا العصر، فلم يعد متوقعا أن يقبل المشاهد على رؤية مسلسل ديني على طريقة (محمد رسول الله) الذي كتبته أمينة الصاوي في الماضي، خاصة أنه كان يقدم المسلمين في صورة هزلية حيث يظهره على أنهم متعبين دائما والكفار هم في حالة جيدة طيلة الوقت، لاسيما أن الديكورات كانت ضعيفة وهناك أسلوبا من الصياح في المسلسل، فنحن استكفينا من هذه النوعية من المسلسلات حقيقة.
وفيما يتعلق بمسألة التمويل، فيمكننا البحث عن إنتاج أعمال درامية دينية وتاريخية مشتركة مع شركات عربية مثلا، أو قطاع خاص يعي أهمية الدور والقضية، أو محاولة الإنتاج بأقل التكاليف فيظل وجود تكنولوجيا متطورة قادرة على الدمج وصناعة إبهار بصري يفوق الخيال، ولأن الأمر الثاني الذي لايقل عن مسألة التمويل وهو وجود الممثل الذي يملك القدرة على الأداء لنوعية الأدوار الدينية والتاريخية فلدينا الكثيرين الذين أثبتوا كفاءتهم ولا تخلو الساحة الفنية أيضا من ممثلين كبار، ممن يجيدون الأدوار التاريخية والدينية، ومن ثم تصبح تلك حجة واهية بالتأكيد، فهناك مواهب كثيرة مصرية وسورية وخليجية وغيرها لا تجد فرصا سانحة للتمثيل، ولديهم المقومات اللازمة للإنتاج الدرامي التاريخي والديني مثل اللغة العربية السليمة والأداء الجيد، وفضلا عن كل ذلك لابد من الاهتمام بجودة الورق والسيناريو المكتوب للمسلسل بالاضافة لتحضير العمل منذ وقت طويل.
وقد يرى البعض من النقاد أسبابا مختلفة لغياب الدراما الدينية والتاريخية في رمضان، منها على سبيل المثال: أن الأعمال الدينية والتاريخية غير مربحة ولا تجلب الإعلانات، أو أن الشكل الكلاسيكي الهزيل للاإتاج الديني أصبح مستهلكا وبحاجة للتطوير وهو أمر غير متاح حاليا في غياب نصوص جيدة، فضلا عن عدم جرأة المؤلفين وكتاب السيناريو للخوض في قضايا دينية وتاريخية (محل جدل)، إضافة إلى أن الأعمال الدينية والتاريخية عادة ما تتعرض لسيف الرقابة للموافقة عليها، وأن تقديم أي انتاج ديني أو تاريخي يتطلب وقتا طويلا للتحضير والتدقيق والاهتمام بالسيناريو، وبالتالي تصبح الأعمال الدينية والتاريخية هى أكثر الأعمال التي تثير الحساسية الدينية والتاريخية، والتجربة تشهد توقف انتاج بعضها بسبب إثارتها لنزعات دينية وطائفية وتاريخية.
لكني أرى من وجهة نظري أن بعض هذه الحجج والأسباب ليست واقعية، مؤكدين أن ما يحدث لا يعدو أن يكون مؤامرة تحاك منذ سنوات لمحاصرة الانتاج الديني والتاريخي والقضاء عليه نهائيا، أما عن المقولة التي يتشدق بها البعض في مسألة عدم ربحية الانتاج الديني، فأقول أن هذا كذب وافتراء وأؤكد على أن مسلسل (يوسف الصديق) مثلا ، وهو من إنتاج إيراني، أرباحه تجاوزت 70 مليون دولار، كما يمكنني الحديث أيضا عن مسلسلات دينية وتاريخية حديثة العهد حققت نجاحات وإيرادات، على غرار مسلسل (عمر)، وهو إنتاج مشترك قطري سعودي بتكلفة 200 مليون ريال، وقد شاهدنا جدلا كبيرا لأنه تناول مسألة تجسيد الصحابة في تمثيله للخليفة عمر بن الخطاب، وكذلك مسلسل (ممالك النار) الذي رغم نجاحه فنيا وماديا، وتعرض لانتقادات تركية بحجة أنه قدم صورة مغلوطة عن واحدة من أهم مراحل التاريخ العثماني .. صناعة الدراما ياسادة ليست مسألة تجارية فقط ولكن من الضرورى أن يكون لها دور فى الثقافه والفكر.
المهم في الأمر الآن أن وجود المسلسل الدينى أصبح ضرورى أكثر من أي وقت مضى، لأن مصر تواجه وتحارب الارهاب والتطرف الفكري، وهذه النوعية من الأعمال تعد وسيلة من وسائل مواجهة الفكر المتطرف، لذلك لابد من إنتاج الدراما التاريخية والدينية بشكل جاذب ومؤثر ويتكاتف فى إنتاجها عدة جهات مثل الأزهر والجهات المعنية بالدولة لتقديم دراما دينية وإيجاد نمط إنتاجى بديل عن النمط الحالى الذى يعتمد على حسابات الربح والخسارة ولابد لصناع الدراما أن يشغلهم التاريخ، والإحساس بالمسئولية التي تحتم عليهم تقديم نوعيات أخرى، لأننا فى حالة حرب ضد أشياء كثيرة متوارثة، فالدولة تبذل جهدا رهيبا فى الوقوف وإثبات كيانها ولكن الفن لديه اختلال ويظهر بوضوح فى المفارقة والفجوة فى إعلانات شركات المحمول وإعلانات التبرعات، فهذا النوع من الخلل والاضطراب يثير علامات استفهام ، ولابد أن يكون للأعمال الدرامية رسائل إنسانية، وأن يكون لصناع الدراما إحساس بالمسئولية وخطة يتم العمل بها.
ويبقى في النهاية، أنه منذ عدة سنوات لم يعرض للجمهور العربي أي مسلسل ديني أو تاريخي يظاهي نوعيات المسلسلات الأخرى التي تشهدها سوق الدراما سواء الأكشن أو الكوميدي أو الاجتماعى، فمتى تعود مثل هذه الأعمال للشاشات العربية في رمضان، لاسيما أن روح شهر رمضان الكريم تتناسب مع هذه النوعية من المسلسلات الدينية التى كان يحبها الجمهور وتعلقت بالكثير من الأعمال الدينية لكبار الفنانين الذين شاركوا فيها، وكانت هذه الأعمال متواجدة منذ سنوات في شهر رمضان الكريم كل عام، لكنها أصبحت غائبة عن الساحة الدرامية وعزف عنها منتجوا الدراما منذ فترة طويلة حتى أصبح البعض يتحدث عن مؤامرة ضد نشر الثقافة الإسلامية والاكتفاء فقط بنشر الثقافات الغربية التي زادت في تغريب وانسلاخ المجتمع الإسلامي وتخليه عن هويته الإسلامية، والمفروض أن التلفزيون المصري تحديدا يدعم هذا الجانب الديني، فمسلسل أو اثنان فقط خلال الشهر الكريم لا يكفيان أبدا، لأن احتياجات الناس للدين والروحانية والعبادة كبيرة، وهذا لا يعني أننا ضد الترفيه أو المسلسلات الاجتماعية، لكن لا تكون الأساس في رمضان، ولابد من تحقيق التوازن على الأقل.