كتب : محمد حبوشة
ربما لم يحالف الحظ الكاتبة ناديا الأحمر في صناعة أحداث درامية متقنة في مسلسل (350 جرام)، حيث وقعت في أخطاء كثيرة على مستوى الحبكة الدرامية والحوار غير اللافت، وأفلتت التشويق المطلوب في القصة التي رواحت مكانها بعد الحلقة العاشرة، لكن الأداء أنقذ المسلسل من الوقوع في براثن الملل خاصة مشاهد التحدي بين (عابد فهد وسلوم حداد)، وهنا تألق داهية التمثيل (عابد فهد) في تقمص شخصية نوح الريس أو (المخلص)، كما يحب أن يطلق عليه، ولأنه يهوى التجديد و التغيير في كل شخصية جديدة يقدمها، فقد لعب على خيوط مشدودة طوال الوقت مع (المخلص) وما بين القسوة واللين استطاع (عابد) الذي تلون كالحرباء في التعامل مع كل من حوله أن يلفت نظر الناس بداية من شكله و أسلوبه الذي كان مختلفاً عن المعتاد.
المسلسل الذي ينتمي إلى الأعمال العربية المشتركة والذي صور في أبو ظبي، فكرته ليست بالمألوفة كثيرا في الدراما العربية، وأحداثه سعت إلى إثارة تشويق الجمهور منذ الحلقات الأولى حتى الحلقة العاشرة، والتي أكد من خلال (نوح الريس) أنه فعلا محامي شيطان و قادر على حل كل القضايا مهما كانت لدرجة أنه لقب بـ (المخلص)، و لكنه في الوقت ذاته يمتلك خطوطا حمراء تتعلق بالمبادئ و الممنوعات التي لايمكن لا يتعداها، وهذا التناقض في الشخصية التي تتأرجح بين بواطن الخير والشر، ساهم إلى حد كبير في إجادته تجسيد تلك الشخصية المركبة وعاش في الدور إلى حد أننا نسينا (عابد فهد) وعشنا الأحداث مع (نوح الرئيس) بأعصاب مشدودة على جناح أداء احترفي بارع، وبإتقان نادر الوجود في ممثل عربي مثله مولع بالتدريب والتنوع في تناول شخصيات جاذبة، وهو ما دعاني أن أطلق عليه (عابد في محراب الفن الجميل)، قبل 13 عاما في أعقاب مشاهدتي لمسلسل (عرب لندن 2008) الذي يعد نقطة تحول في حياته المهنية.
عابد فهد ممثل عرف عنه التحدي وقهر مناطق شائكة في قلب الدراما العربية من بدايته في (مرايا) ياسر العظمة مرور بـ (بأيام الغضب ، حمام القيشاني، الزير سالم، الحجاج، أنشودة المطر، الظاهر بيبرس، دعاة على أبواب جهنم، عرب لندن، هدوء نسبي، حكايات وبنعيشها: كابتن عفت، الولادة من الخاصرة، لعبة الموت، سنعود بعد قليل، منبر الموتى )، وصولا إلى قمة نضجه في (لو، 24 قيراط، سمرقند، أوركيديا، هارون الرشيد، طريق، دقيقة صمت، عندما تشيخ الذئاب، هوس، والساحر) وحتى وصل إلى محطة (350 جرام) التي تتوج رحلة ممزوجة بالجهد والعرق والاجتهاد الذي كتب له صدارة المشهد الدرامي السورى والعربي على حد سواء.
في مسلسل (350 جرام) بدا لي (عابد فهد) بشكل مغاير عن أدواره السابقة حيث كان الهدوء سمة أساسية واعتمد طوال الوقت على تون الصوت المنخض، وأحيانا كان يلجأ إلى (قرار القرار) بشحوب متعمد مع عيون معبرة عما يجيش بداخله من أحزان أدت إلى كثير من التشوهات النفسية التي لازمته طوال الوقت، فضلا عن ضعف القلب الذي عزف على أوتار الشجن والحب والحنين والقسوة في مزيج أدائي يؤكد أننا أمام (داهية) في التمثيل عن كثب، أنظر إليه في مشاهد مع زوجته (ياسمين) التي تلعب دورها كارين رزق الله، حيث تجمعهما قصة حب كبيرة، وهذا واضح في مشاهد الغزل إلا أن وراء هذا الحب الكبير، قصة محزنة و ماضي سيئ تخفيه ياسمين، حيث تكشف الأحداث عن أن لها إبن إسمه سامي اعتقدت أنه ميت إلا أن اتصال هاتفي كشف لها عن وجوده في دار للأيتام، لكن (نوح) بقسوة مفزعة وبأعصاب باردة تعكس التناقض بداخله افتعل حريقا داخل مركز الأيتام في الحلقة السادسة من المسلسل أدت إلى وفاة سامي.
ساهم إلى حد كبير في تغيير الصورة الذهنية لدى مشاهد رأى أن حبكة (350 جرام) غير متقنة ذلك التناغم بالشخصيات الأحداث يكملها (فايز الأشقر) زعيم المافيا الذي يجسد دوره في احترافية متقنة (سلوم حداد)، والذي لعب على الشخصية بكافة تفاصيلها بدءا من التاتو الذي نراه على يديه و انتهاءا بالأداء المذهل لأب فقد ابنه (فارس) و يبحث بكل ما أوتي من قوة عن الانتقام من عائلة (الشناع) عن طريق الاستعانة بالمحامي الداهية نوح الريس، الذي لعب على حبال الصراع الخفي بأساليب شيطانية، لكنه يتعرض لوعكة صحية، ويخضع على إثرها لعملية زراعة قلب من أحد المتبرعين المعروف بطيبته و قلبه الحنون، و هو ما أثر لاحقا على (نوح) و جعله يتغير و تنقلب حياته رأساً على عقب، و يتحول الأصدقاء إلى أعداء في أحداث مليئة بالتشويق.
تبدو لي علة مسلسل (350 جرام) أنّه أصابه الممل بعد الحلقة العاشرة، وظني أنه مطبوخ على نار هادئة، كوع القصة يتداخل مع بوعها، فاختلطت الأوراق مما أدى إلى تفكك السياق، لكن (عابد فهد) تمكن طوال الوقت من السيطرة على المشهد، بحيث أصبح هو البوصلة والاتجاه، ويأتي سلوم حداد على يمينه وشماله، كلاهما على جبهة دائما مشتعلة، وفهد حريف، يمثل بمهارة مسددا الكرة بين الحين والآخر بمشاهد غاية في العذوبة، ويقدم دائما الواجب المطلوب من شخصية نوح الريس، حمالة الأوجه والمتمسكة بثوابتها، وربما كانت المعضلة في التركيبة الدرمية لناديا الأحمر بذاتها، فلا هى كتبت نصا حرفيا يساعد ولا المناخ الدرامي يشوق إلا بأداء منفرد لعابد فهد وسلوم حداد.
قد يكون طارق الصباغ أكثر من استفاد من المسلسل، فبينه بشخصية متقنة، تلفت الأنظار إليها، لكن الباقون مثل (كارين رزق الله) تقريبا على حالهم من ارتباك الأداء، ولعل السبب في ذلك يرجع لضعف الحوار، إلا من هم أصلا أرقام صعبة، وقد بدت (ستيفاني عطاالله) متوارية، دورها ضئيل، لم تترك بصمة، ويستمر الحال على ماهو عليه حتى تتحقق (قفزة) المسلسل حين يستبدل قلب نوح بقلب آخر، فيقلبه رأسا على عقب، لكن للأسف سيره على مهل لم يصب في مصلحته كثيرا، وفي ظل اشتعال جبهة (فايز الأشقر – نوح الريس) لا يبقى من المحامي المحنك سوى الاسم فقط، فالقلب الجديد يجعله إنسانا جديدا، مما لا يبقي مكانا للمصلحة بين الرجلين، خصوصا أن نوح يمتلك ملف ابنه، وكان الاعتماد مطلقاً عليه في إنقاذه من حبل المشنقة، لكن العودة من الجراحة بمثابة صفحة تطوي صفحات سابقة طالت سطورها. على أية حال يمكنني القول بأن (عابد وسلوم) استطاعا بحسن أدائهما وضع الجمهور في حالة استكشاف جديد لهم، إذ يلبس كل منهم رداء جديدا بأدوات مختلفة لا تكرار ولا إعادة فيها لأدوارهم السابقة في قلب الدراما الر مضانية، ومن خلال المشاهدة المتأنية بعيدا عن زحمة رمضان لاحظت أن في كل حلقة من حلقات (350 جرام) أكثر من ماستر سين من جانب (عابد فهد) لكني أتوقف أمام مشهد عناده لزوجته وكل المحيطين به في إصرار عجيب على رفض إجراء جراحة زرع القلب، وقد بدا حزينا على قهر المرض له وهو المحامي الجسور الذي لم يخسر قضية واحدة في حياته وقد بدأ المشهد من اللقطة التمهيدية للحلقة العاشرة على النحو التالي:
زووم على الوجه المتجهم لـ (نوح الريس) بينما صوته يأتي من خلف الشاشة قائلا: القرار سهل إنك تاخد قرار لغيرك .. بس القرارات الأصعب اللي بتتطلب منك طاقة جبارة هى قراراتك عن نفسك .. خاصة لو كان قرارك يوم تغمض عيونك عن الحياة وأنت بكل إرادتك ووعيك وإدراكك .. بس يمكن بيجي بكره وما يكون بايدك القرار انك تقدر تفتحهم مرة تانية.
يسقط نوح على الأرض على أثر نوبة قلبية بينما تحاول (ياسمين) إسعافه دوى جدوى فتذهب به إلى المستشفي لتكتشف أن له تاريخ مرضى مع القلب، وأنه هناك ضعف في عضلته تسلتزم زرع قلب جديد.
ياسمين تنظر للأدوية الموجدة على طرف سرير نوح قائلة في استنكار: شكلهم بيرعبوا شيئ .. هيك صار فيها لما لقيتهم بالسيارة، مضيفة بسخرية ممزوجة بالألم : سوري حبيبتي نسيت أخبرك هيك خبرية .. أصلا شغلة صغيرة ما بتحرز.
نوح : حاج .. طولي بالك شوي .. طولي بالك وخليني أحكي.
ياسمين : انت كيف تعمل في هيك؟ .. انته ياللي بتحسب كل شغلة على الأبرة ما فتكرت شي نهار انك ممكن توقع بالأرض .. شي نهار وانته بتسوق سيارتك يصير معك شيئ .. انته وعم تتصيد بآخر الدنيا مطرح ما بتروح .. وأنا مرتك ما أعرف .. باعرف بتحب تفاجئني على طول نوح بس مش بهاي.
نوح بعد أن يتعدل في سريه: حبيبتي انتي.
ياسمين في انفعال وهى تقترب منه : اوعك تقول حبيبتي .. انت كذاب انت ما بتحبني .. انت لو بتحبني مظبوط ما كنت تعمل في هيك .. ماراح خليك تموت نوح .. ما فيك تموت وتتركني .. مابقى فيا أخسرك انت كمان.
نوح بصوت خفيض : أنا كمان ؟! .. ايش فيه؟ .. اتطلعي في: ايش فيه مين قبلي؟
ياسمين ترد بغضب : أهلي .. أنا من وقت اللي تعرفت عليك وحاسه بالأمان .. شافتك إنسان كبير ولا بيموت ولا بيختفي ولا بيمرض ولا بيصيرله شيئ .. حتى ولا مرة قدرت أتخليك في تخت (سرير) مستشفي .. ما فيك تتركني فهمت .. ما في أعمل شيئ بلاك .. أنا ما بعرف فكر .. ما بعرف قرر .. ما بعرف اتصرف.
يمسك نوح بيد ياسمين قائلا : لا تخافي حبيبتي .. لا تخافي وانتي ماراح تعملي شيئ .. أنا لما أروح حتكوني مظبطة .. ثم بابتسامة خفيفة يضيف : عم بامزح معك .. خلاص لا تزعلي.
ياسمين : نوح ليش ؟!
نوح : اقعدي .. اقعدي .. ثم يشرب جرعة من الماء ويقول : اللي متلي أنا الناس بيهابوه وبيحترموه ما بيقبل حدا يشفق عليه وبيستخف فيه كرامل شقفة مرض.
…………..
زووم على وجهه وهو يستجمع قدراته التمثيلية من خلال وجه معبر عن مكنونه الداخلي بطريقة غاية في الروعة والعذوبة التمثيلية.
…………..
ياسمين : راح ندبر لك قلب وراح نعمل العملية .. فيه أمل كتير كبير .. أنا راح أعمل المستحيل لحتى ندبر قلب .. راح نعمل العملية وراح نرجع لبيتنا سوا.
يرد نوح باقتضاب شديد وفي صدمة لياسيمين قائلا : لأ !!!.
ياسمين : لأ .. شو يعني لأ ؟! .. أنا ما بافهم عليك .. ليه ما بدك تعمل العملية؟.
يرد نوح نوع بثقة : باختصار أنا ما باحب أختار ساعة موتي .. ك
ما احب يوم وساعة العملية فوت وما أطلع .. أفضل الأيام اللي بقت لي برات الحيطان اللي طابقها على صدري .. أنا نوح الريس موت وتنتهي ساعة أجلي .. عندئذ ينتهي المشهد الأكثر تراجيدية في حلقات (350 جرام) لتدور من بعده المناقشات طوال الحلقتين التاليتين مع نوح ليوافق في النهاية على إجراء عملية زرع قلب جديد، وعلى أثرها تتغير مجريات حياته حتى نهاية الحلقات.