سعد الدين وهبة حقق لـ (عبدالعزيز مخيون) ما كان يحلم به للصفقة (2/2)
* حاولت أن أدعو الفلاحين في القرية المجاورة القريبة جدا للتمثيل فى (الصفقة)
* مدير بيت الثقافة في (أبوحمص) اعتبر حبي لتمثيل الفلاحين فى (الصفقة) شطحات فنان
* كان الفرق كبيرا بين أداء الفلاحين وأداء الأفندية، لكن الصدق جمع بينهم
* أحد ملاك الحديقة استنكر عملنا وقال إننا نقدم (مسخرة فى القرية)
كتب : أحمد السماحي
فى الحلقة الأولى من كتاب (يوميات مخرج مسرحي في قرية مصرية) للفنان الكبير (عبدالعزيز مخيون) الذي يحكي فيه تجربة تقديمه لعمل مسرحي من الفلاحين الهواة الذين لا يجيد بعضهم القراءة والكتابة لكنهم يمتلكون الموهبة الفطرية، توقفنا عند بداية الفكرة وكيف جاءت؟ وحديثه وشرحه لعزبة (زكي أفندي) بأبو حمص بالبحيرة التى حدثت فيها التجربة، وكيفية استعانته بالفلاحين، حيث أسند بطولة مسرحيته إلى الفلاحين أنفسهم، بل إنه سمح لهم أن يقدموا رؤيتهم للمسرحية وتغيير عنوانها إلى (صفقة توفيق الحكيم كما يراها فلاحو قرية زكى افندى).
وفى هذه الحلقة نستكمل رحلة يوميات (عبدالعزيز مخيون) في عزبة زكي أفندي) ومع نجوم مسرحية (الصفقة) من الفلاحين وكيف وقع إختياره عليهم، والمفارقات الطريفة والغريبة التى وقع فيها على مدى شهرين حتى يخرج هذه المسرحية للنور.
نوفمبر 1974
تحت هذا العنوان يقول (مخيون) – الذى نحتفل يوم 3 يونيو القادم بعيد ميلاده الـ 78 – : أبوحمص، البلدة، الوسط، يمكن أن تكون مدينة وقرية في آن واحد، أو هى نصف مدينة ونصف قرية، لا يميزها طابع ما إلا كثرة الأوحال في شهور الشتاء، وكلما هطل المطر عليها بشدة ذاب الوحل وتحلل إلى (روبة) كما يسميها أهلها.
بروفات في بيت الثقافة
هنا بدأت العمل على مسرحية (الصفقة) لتوفيق الحكيم، ففي إحدى عمارات الإسكان الشعبي يشغل بيت الثقافة شقة ضيقة من أربع حجرات سقفها منخفض، حجرة لمكتب المدير، وحجرة تحتوي مكتبة صغيرة فقيرة وحجرة خالية إلا من قليل من المقاعد وأخرى خالية تماما وتعتبر كصالة أو ردهة.
وانضم إلى منضدة البروفات المشرف الزراعي، والطالب الجامعي وطالب الثانوي ومهندس الكهرباء والخياط والموظف، وكل هؤلاء لهم شيئ من خبرة المبتدئين بالمسرح، ومقياس الرقي الفني لديهم هو المسرحيات والأفلام التى ينقلها التليفزيون ليبثها في السهرات وأيام الخميس والجمع وفي مناسبات الأعياد.
كانت المسافة بعيدة بيني وبينهم كما كانت بعيدة بينهم وبين (الصفقة) التى في خيالي، وأقنعت اثنين من الفلاحين أن يشتركا معنا في التمثيل ودعوتهما إلى بيت الثقافة، ووزعت عليهما الدورين الرئيسيين فى المسرحية (سعداوي، وعوضين) أحدهما استمر معنا للنهاية، وهو (الشيخ مبروك) والآخر لم يستمر.
كان الفرق كبيرا بين أداء الفلاحين وأداء الأفندية، ميزة واحدة من بين كل ميزاتهما العديدة جعلت الفرق بينهما واضحا، هى الصدق وعدم تعمد التمثيل، أو استخدام الحرف التمثيلية بفشل المبتدئين.
حاولت أن أدعو الفلاحين في القرية المجاورة القريبة جدا من بيت الثقافة، ولما حضروا كانوا كالنبتة الغريبة فى ذلك المكان بين هؤلاء المتعلمين الذين ورثوا التعالي على الفلاح، فمهما كان تواضع الموظفين إلا أنهم في نهاية الأمر ينظرون إليه على أنه فلاح.
محاولات مع مدير بيت الثقافة
يستكمل (مخيون) تجربته فيقول: حاولت مرارا مع مدير بيت الثقافة في أبوحمص أن ننتقل إلى القرية المجاورة، وكان يبدو غير فاهم لما أقول وغير مصدق، أو غير واثق من جديتي في عرض هذا الاقتراح ومدى إيماني به، وللأسف لم يعقل الفكرة أبدا وأعتبرها شطحات فنان.
وابتداء من نوفمبر سنة 1974 وحتى يونيو 1975 زرت بيت الثقافة أكثر من عشر مرات وقرأت معهم المسرحية وشرحتها مرات عديدة وناقشناها معا، ولكن لم يكن هناك أي تقدم يذكر، فكلما قرءوا في المسرحية ابتعدوا عن عالمها الحقيقي، وتباعدت المسافات بينهم وبين شخصياتها، فتقفز إلى ذهني صور ممسوخة من الممثلين في القاهرة، وكان على أن أهرب، فلم أكن مقتنعا أن هؤلاء الهواة سيشاركون معي فى خلق (الصفقة) من جديد.
وفى لقاء مع وكيل أول وزارة الثقافة لشئون الثقافة الجماهيرية سعد الدين وهبه، عرضت عليه حيرتي، ولم يعترض مطلقا على رغبتي فى الانتقال إلى إحدى القرى وبدأ مرحبا ومشجعا لهذا الأسلوب في العمل، وترك لى اختيار القرية التى ستكون مهدا لتجربتي.
منشأة دميسنا
على الحشائش الرطبة فى إحدى حدائق البرتقال بقرية شقيقة لـ (زكي أفندي) اسمها (منشأة دميسنا) وضعنا نسخة المسرحية وجلسنا حولها في شكل حلقة الشيخ (مبروك) وثلاثة فلاحين من أهل القرية وحلاق ومجموعة من الطلبة والمدرس أيوب.
حكيت المسرحية وشرحتها بكثير من التبسط وأخذنا نقرأ الحوار ونلقنه للذين لا يعرفون القراءة ونفسر ما غمض فيه ونوضح معالم الشخصيات ودلالاتها الإجتماعية.
كانت هذه هى النواة وتكرر لقاؤنا مرتين فقط، وبعدها طردنا أحد ملاك الحديقة واستنكر عملنا وعتب على الرجال الذين حضروا مجلسنا وهم رجال كبار متدينون فيكف يقومون بعمل (مسخرة فى القرية).
المسرح القومي الشعبي
صعوبات كثيرة وأحداث مليئة بالإثارة والشغب والطرافة خاضها (عبدالعزيز مخيون) وتحدث عنها في كتابه (يوميات مخرج مسرحي في قرية مصرية) حتى تخرج تجربته للنور، وفى نهاية الكتاب يتحدث إلينا عن التجربة ككل تحت عنوان (على طريق المسرح القومي الشعبي) فيقول: الفلاحون ذلك التاريخ المصري الطويل المبلل بعرق العمل ودماء الاستشهاد، الفلاحون نبع الخير والصفاء المتدفق أبدا، الفلاحون تاريخ وتراث منه تكونت شخصية الإنسان المصري، الفلاحون هنا تكمن بكارة مصر، كانت نظرتنا لهم تتفاوت ما بين التجاهل التام أو الاستعلاء وحينما كنا نقترب منهم قليلا فقط لنأخذهم كشريحة في بحث، وعندما نتقرب منهم وإليهم – بدوافع سياسية – نقدم لهم الرشاوي الانتخابية نكذب عليهم ونزيف لهم الحقائق لسرقة أصواتهم.
كتفا لكتف
إننا هذه المرة نعمل مهم كتفا لكتف محاولين ألا نسقط فى عملية كذب عليهم أو استغلال لهم بأي شكل من الأشكال، منهم نتعلم بحق ونستمد أشكالنا ومفرداتنا في التعبير، حيث يوضع العلم المسرحي في خدمة التلقائية والفطرة والتدفق العفوي الخلاق، وحيث لا تخضع التلقائية والفطرة والتدفق العفوي الخلاق لقوالب العلم الجامدة وعقد المثقفين.
لغوا فارغا
دار جدل طويل فى العاصمة حول شكل ومضمون وهوية المسرح المصري، ومالبث هذا الجدل أن فقد معناه وأمسى لغوا فارغا من كثرة ما تكرر إن قضية الشكل المسرحي والتأصيل والهوية المسرحية المنحدرة من سلالة عربية تصبح كلاما فارغ المحتوى إن لم تأخذ حقها في الممارسة الرشيدة والتطبيق الواعي في وسطها الملائم وهو الجماهير الشعبية التى تختزن ثقافة الأجيال.
والليلة هذه (الصفقة) كما يراها فلاحو قريتنا، هى تجربة متواضعة على هذا الطريق لكنها نالت جهدا مضنيا وعسيرا فى تصديها للتخلف الاجتماعي ومعاداة الثقافة، ربما تطل منها أخطاء سنخضعها للبحث والتأمل والتدقيق، وربما نلمس فيها قدرا من النجاح فهو لهؤلاء الرجال البسطاء الذين تسحقهم مرارة الواقع اليومي.
صعوبات وتضحيات يومية
كان هؤلاء البسطاء يعانون من ضيق الحياة، ومع ذلك كانوا ينفضون تراب العمل فى الحقل نهارا ليرددوا ويغيروا ويفكروا ويضيفوا لما كتبه عنهم (توفيق الحكيم) ليلا عند الساقية في الخلاء، وفى أيام العمل المضني تحت شمس أغسطس الحارقة وبالرغم من الإرهاق والهزال كان بعضهم يأتي في المساء على البروفة لينام على الأرض بجوارنا من أجل برهه من الراحة ثم يقوم بجسد واهن إلى المسرح.
ألم المتعبين
ربما عثرنا من خلال كل هذا صيغة مسرحية أعبر بصدق عن ألم المتعبين في الحقول، إننا شعب من الفلاحين أولا فيجب أن تكون فنوننا القومية فنونا فلاحية أو فنونا تحمل تأثيرات فلاحيه.
من هنا نبدأ
أخيرا لقد أردت لهذه التجربة أن تقف فى الاتجاه المعاكس لانحدار المسرح المصري نحو هاوية الإسفاف وتجارة الضحك الرخيص، أردت لها مع غيرها من مسرحيات الأقاليم أن تنجرف بالمسار قليلا إلى نبع القرية، فهنا على الأقل 80% من السكان أمة لها تاريخها وتراثها وثقافتها وفنها الذي يختلف تماما عن فن المدينة المغتربة، نريد لهذه التجربة أن تقول لمحترفي الثقافة وتجار الأفكار في كل العواصم العربية يكفوا عن اللغو الباطل والدوران حول الأشياء والهرب من مواجهة الواقع فمن هند نبدأ.
كتابات نقدية مهمة
بعد عرض هذه التجربة نالت استحسانا كبيرا وحققت مشاهدة جماهيرية ضخمة وكتابات نقدية مهمة منها ما كتبه الناقد المسرحي (حسن عبدالرسول) يشيد بالتجربة تحت عنوان (الفلاحون يمثلون رواية: الصفقة) لتوفيق الحكيم)، كما كتبت الأديبة والناقدة (فوزية مهران) نقدا رائعا تحت عنوان (قرية زكي أفندي تصحح مسرحية لتوفيق الحكيم)، وأشادت الناقدة والفنانة (منحة البطراوي) بالعرض في مقال لها بعنوان (كلمة غير طنانة عن ثقافة القرية)، ولم تقتصر الكتابات النقدية على هؤلاء فقط فقد تحمس غيرهم للتجربة وكتبوا عنها.