إعلاميون مصريون غارقون في مستنقع الجهل !
بقلم : محمد حبوشة
في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة والتي انتهت بوساطة مصرية خالصة، ساقني الريموت إلى مشاهدة بعضا من برامج (التوك شوز) المصرية – رغما عني – في محاولة لمعرفة ردود فعل بعض إعلامينا الكاشفة لحقيقة لما جرى من جهود دبلوماسية في سبيل وقف نزيف الدم الفلسطيني الذي سال طوال 11 يوما على أثر القصف الذي خلف دمارا في الأرواح والمنشآت المدنية والبيوت، لكني صدمت بسبب جهل بعض الإعلاميين الذين تركوا المشهد السياسي برمته وراحوا يثرثرون بحديث ينم عن جهل مدقع حول الـ 500 مليون دولار التي قرر الرئيس السيسي تخصيصها لإعادة تعمير غزة، ولأن أعلاميونا مصابون بداء (العته المنغولى)، فقد ذهب أحدهم ويدعى (محمد على خير) بطرح أسئلة استنكارية تحمل معان مضادة حول تلك الفلوس – المقطعة من قوت الشعب المصري – لإخواننا في غزة على حد تعبيره.
قال (خير) بصوت يحمل قدرا من الصراخ غير المجدي في بداية برنامجه (المصري أفندي) على قناة (المحور) : (مصر تعلن عن دعم إعمار غزة بـ 500 مليون دولار، يعنى 8 مليار جنيه، أول الخبر ما اتنشر لقينا الناس بتقول ايه: هوه احنا لاقيين ناكل، مش اللي يحتاجه البيت يحرن على الجامع .. مش احنا كل يوم والتاني عمالين نستلف دولارات .. نش الأفضل الدولارات دي نصرفها على حاجة في بلدنا .. ظاهر الكلام كده سليم لأنه مش معقولة تبقى انته مديون لطول الأرض وتطلع فلوس كمان تبقشش) – وتلك شهاد حق يراد بها باطلا ولكن عن جهل من جانب خير .. هكذا يفهما العامة من أبناء شعبنا البسيط – وعبثا حاول إنقاذ نفسه عندما توجه للجمهور قائلا: بس لازم الناس دي تفهم شوية، يبقى عندك (سينس شوية) ، الـ 500 مليون دولار مصر على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي أعلن أنها لدعم إعمار غزة .. بمعني احنا مش حنطلع 500 مليون دولار من الخزينة ونروح نقول للحكومة الفلسطينية اتفضلي.
وعلى الرغم من توضيحه بأن المبلغ سوف تتقاضاة الشركات المصرية التي ستقوم بعمليات الإعمار في غزة إلا أن (خير) في الحقيقة أحدث التباسا واضحا، عندما بدا ينعم في الجهل ودون وعي طرح أسئلته الاستنكارية معتقدا أنه يخدم الدولة المصرية بكلام ينحرف عن الصواب وينم عن عدم إدراك فحوى الرسالة الإعلام السلبية حتى ولو بدا موضوعيا في الطرح الذي يدعيه، فجاء كلامه على عكس المطلوب بما يوحي أنه يصب في خدمة الأجندة الإخوانية دون وعي أو حصافة منه، ومن ثم أصبح كالدبة التي تقتل صاحبها جراء تصرفات هوجاء وحماس زائف دون علم ودراسة مسبقة لحقيقة ماوراء الـ 500 مليون دولار، ويبدو أنه لم يعمل عقله الذي يتمتع بنوع من (الجهل الواعي) معتمدا في ذلك على فريق إعداد أكثر جهلا منه، ومن ثم جاء حديثه على درب العبث، وأصبح حاله يشبه الخلايا النائمة المزروعة كشوكة في جسد الدولة المصرية بتفسرياته التي تشبه فحيح الأفعي الذي تبثه في وجه عدوها حماية لنفسها من هجوم متوقع.
ظني أن بعض إعلامي مصر الحاليين لايفهمون كيف يمكن أن يوجهوا رسائل ذكية تصب في دعم الدولة المصرية في مساعيها الدبلوماسية أو حتى في تسليط أضواء كاشفة على إنجازات الرئيس السيسي في المشروعات القومية أو البنية الأساسية التي تتعلق بحياة المواطن، وذلك بسبب افتقادهم للحس الوطني المبني على أسس وقواعد سليمة علمية سليمة تتعلق بكيفية هضم المعلومات وإعادة تصديرها للمواطن في شكل رسالة إعلامية تحمل مضومنا للتوعية لا لكي تشحن المواطن بطاقة سلبية لمجرد محاولة الاختلاف والفزلكة عن جهل بأمور تتعلق بالأمن القومي المصري، وهنا أدعوهم لمشاهدة حلقة (الليلة) للإعلامي اللبناني (نديم قطيش) بقناة (سكاي نيوز عربية) بتاريخ 24 مايو الجاري، والتي تحمل عنون ( السيسي يخون غزة ، وإيران والاستثمار في غزة).
في هذه الحلقة سخر (قطيش) من طريقة طرح قنوات الإخوان الذين راحوا يهللون مفسرين بحقد أعمى كيفية خيانة السيسي للمقاومة في غزة، وذلك بزعمهم أن (المقاومة) كانت على وشك الانتصار التاريخي على العدو الصيوني لولا تدخل السيسي، وهنا لاحظت منطق الإعلامي المحترف في استخدام معلوماته الدقيقة بسلاحه اللاذع في السخرية من كلام هؤلاء المأفونين بحقدهم الأعمى، والذي أنساهم المأساة التي يعيشها إخواننا في غزة، وقد أعجبني جدا طريقة إلقائه بلغة جسد معبرا وهو يخاطب (أبو الوص) في إشارة استنكارية بين الحين والآخر بإسقاط واضح على كلام عناصر الإخوان الذي لايعبر إلا عن عدم فهم أو وعي أو شعور بالمسئولية عن الدم المسفوك على التراب الفلسطيني، ومن هنا أدعوا إعلاميينا إلى تعلم دروس الإعلام التي يقولها (نديم) بطريقة غير مباشرة.
كما كان يمكن لإعلامي مصر من الجهلاء ممن كانوا يرغبون في التخديم على الجهود الدبلوماسية المصرية في أزمة غزة وحساب المكسب والخسارة الاستعانة بمقال الكاتب اللبناني الشهير (سمير عطا الله) في الصفحة الأخيرة بجريدة الشرق الأوسط، والذي كتبه في أعقاب وقف إطلاق النار قائلا: مَن الذي خرج رابحاً من جولة القتال الأخيرة بين غزة وإسرائيل؟ على الأرض لا يصح القياس بمعيار الربح والخسارة. من ناحية استطاعت (حماس) أن تطلق 4 آلاف صاروخ على الداخل الإسرائيلي، ومن ناحية أخرى، ألحقت الآلة الجوية الإسرائيلية دماراً هائلاً بالقطاع وأهله، لكن على الصعيد السياسي ربحت (حماس) معركة الإعلام والتعاطف الدولي.
ويضيف عطا الله: هناك رابحون وخاسرون أيضاً في الميدان الدبلوماسي: عادت مصر إلى مقامها العربي التاريخي بعد الدور الذي لعبه الرئيس السيسي في ترتيب وقف إطلاق النار بعد 11 يوماً من العنف، وهو الدور الذي شكره عليه الرئيس جو بايدن، وجو بايدن خرج رابحاً بالضغط على إسرائيل من أجل الهدنة التي تحققت من خارج مجلس الأمن، أي من دون الحاجة إلى روسيا والصين.
لقد ذهب الكاتب – غير المصري – إلى توضيح الحقائق الموجودة على الأرض والتي تقول: عادت مصر من خلال أدائها السياسي، وواجبها العربي، في إسعاف ضحايا غزة، وموقعها الأخوي في تخصيص 500 مليون دولار مساعدات للقطاع. والجميع يعرف أن الاقتصاد المصري ليس اقتصاد تبرع ومساعدات، ولأنه على قدر كبير من الفهم والإدراك للسياسية وحقائق التاريخ قال : كانت عودة الدور المصري قد بدأت تدريجياً منذ فترة، لكن حرب الصواريخ حسمت العودة مرة واحدة، وأعادت الأشياء إلى مواقعها، وذكّرت العرب بحجم الخطأ السياسي والاستراتيجي والقومي عندما قرروا (طرد) مصر، ليس فقط من الجامعة بل من حياتهم، غير مدركين مدى الأثر على مدى أهمية وفاعلية الدور المصري في وجودهم المعنوي والقومي.
ولتوضيخ خفايا اللعبة السياسية القذرة التي تلعبها إيران أشار (عطا الله) قائلا: من أعداد الصواريخ يبدو بلا أي شك أن إيران قدّمت لـ (حماس) مساعدات من نفس النوعية التي تقدمها للحوثيين، لكن ليس هذا دور مصر، دور القاهرة الجمع بين الضفّة والقطاع، ودعم السلطة سياسياً إلى أقصى الحدود، وتقديم شتى أنواع المساعدات عبر الحدود مع غزة،
واختتم سمير عطا الله، مقاله الكاشف للحقيقة المرة، والذي كان أولى بعرض تفاصيلة على الشاشات المصرية الغارقة في مستنقع الجهل قائلا : ثمة عمل جبار آخر لا بدّ أن يبدأ الآن: إعادة الإعمار. ما من أحد يستطيع أن يقدِّر الكلفة الحقيقية الآن، ومن أين سوف تتوافر الأموال لرفع الأنقاض العربية في كل مكان، وقد تشابهت مناظر الردم على نحو فائق الرثاثة، وكذلك مشاهد النزوح المرير من المنازل إلى الملاجئ. لكن لم يعد في إمكان نتنياهو بعد الآن الاعتماد على تفتت العرب. غزة أعادت توحيدهم. ويبقى أن يتصالح الفلسطينيون، وأن ترى (حماس)، أنها انتصرت على إسرائيل، لا على العرب.
نقطة أخرى مهمة: ألم يلفت نظرا إعلاميونا الطاوويس مانشرته (واشنطن بوسطت) – الصحيفة التي تناصب مصر العداء لحساب جماعة الإخوان الإرهالبية منذ سنوات – في مقال تحليلي لها بعنوان (هنا القاهرة .. مفتاح المنطقة) عن الدور المصري منشور بتاريخ الجمعة 21 مايو، حيث اعتبرت (واشنطن بوست) الأمريكية أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عظم الدور الذي لعبته بلاده في الوصول إلى هدنة بين إسرائيل و حماس في قطاع غزة في التأكيد على دور مصر في المنطقة ، و ذكرت الصحيفة في تحليلها إخباري أن الرئيس الأمريكي جو بايدن كان قد قال إنه لن يعطي (شيكات على بياض) لـ (صديق ترامب المفضل) – بحسب وصفه – في إشارة إلى علاقة السيسي بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب .
و أضاف مقال (واشنطن بوست): وقع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الأخير و إنتهز السيسي الفرصة لصالح مصر، حيث أن مصر هى إحدى القوى الإقليمية القليلة التي لديها اتصالات وثيقة مع حماس و إسرائيل إلي أن توصل الطرفان إلى إتفاق هدنة برعاية مصرية ، و تابعت الصحيفة : بالنسبة للكثير من المحللين و الدبلوماسيين، فإن المنتصر الوحيد الواضح في الصراع الذي اندلع بين الإسرائيليين و الفلسطينيين هو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي
ونقلت (واشنطن بوست) عن الدكتور مصطفى كمال السعيد أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة قوله: في مواجهة التصريحات التي تتحدث عن تراجع دور مصر في سياسات الشرق الأوسط، فإن السيسي أظهر أهميته و أهمية مصر وأكد للولايات المتحدة أنه يستطيع أن يكون لاعباً مؤثراً في المشهد الخاص بالمنطقة.
وقالت الصحيفة: طالب بعض النواب الأمريكيين بخفض المعونة العسكرية التي تحصل عليها مصر و قيمتها 1.3 مليار دولار، في محاولة للضغط على القاهرة من أجل تحسين أوضاع حقوق الإنسان، إلا أن الدور الذي لعبته مصر في الهدنة يمكن أن يؤدي إلى تغيير هذا التوجه في واشنطن، و أشارت إلى أنه بعد إعلان وقف إطلاق النار أعرب بايدن عن (امتنانه الصادق) للسيسي و فريق الوساطة المصري الذي لعب دوراً حاسماً في الوصول إلى اتفاق الهدنة، كما اتفق الرئيسان خلال مكالمة هاتفية على استمرار الاتصال بينهما.
الصحيفة الأمريكية الأبرز في العالم قالت أيضا: نجحت مصر في الضغط على حماس من خلال سيطرتها على المعبر الحدودي بين سيناء و قطاع غزة، و أرسلت القاهرة مبعوثين إلى الطرفين، و دخل السيسي بنفسه في لقاءات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون و العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني لبحث الموضوع ،و اختتمت (واشنطن بوست) تقريرها قائلة: مصر سترسل وفدين أمنيين إلى إسرائيل و غزة لمراقبة وقف إطلاق النار و تنفيذه، فيما تعهد السيسي بتقديم 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة و السماح للفلسطينيين الجرحى بدخول مصر عبر معبر رفح الحدودي المغلق لتلقي العلاج.
عندئذ ندرك أن إعلاميونا ينعمون في الجهل ولا يقرأون ولايحللون ولا يلتفتون إلى ما يقوله غيرنا عنا في إشادة واضحة وصريحه على نجاح الدبلوماسية المصرية، فقد كان حريا بهم عرض الطرح الذي طرحه (نديم قطيش، ومقال سمير عطا الله ، وتقرير الواشنطن بوست) كما عرضتهم هنا، وظني أن هذا كان كفيلا بتوضيح الحقائق التي ترتبط بواقع السياسة في المنطقة والعالم ونظرة غيرنا لنا، خاصة أننا نجهل قواعد اللعبة الإعلامية باعتبارها سلاح أمضى من كل الأسلحة التقيلدية التي تستخدمها الجيوش، لأنها ببساطة تخاطب العقول التي تعي وتدرك وتحلل، ومن ثم تفهم الدور المصري الذي لعبه الرئيس السيسي في مايو 2021، ليؤرخ لمصر القوية القادرة على اللعب الذكي على المسرح الساسي الدولي ، وبهذا أدخل مصر مرحلة جديدة بعد هذا التاريخ في سجل الدول صاحبة التأثير في مجريات الأحداث.