رسائل المخابرات
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
مع نهاية شهر رمضان المعظم انتهت المسلسلات ، ليبدأ الحديث عن الحصاد و مدى نجاح كل منها ، فبعضها نجح جماهيريا و بعضها نجح فنيا ، و القليل منها ما جمع بين النجاحين و هى مسلسلات معدودة ، و لكن خارج كل المقاييس يأتى مسلسلى (الاختيار 2 و هجمة مرتدة) لارتباطهما بالشعور الوطنى ، حيث تتغلب العواطف الجياشة على مقاييس الجودة الفنية و المعايير الدرامية ، و يقاس النجاح بمدى مايثيران فى النفس من تعاطف مع الشهداء و كراهية لاعداء الوطن ، و من شدة التقدير للمسلسلين اعتبر البعض أن أى نقد يوجه لأيا منهما هجوم على الدولة يكشف عن الانتماء للتيارات الإرهابية أو على أقل تقدير – و بافتراض حسن النية فيمن ينقد – اجحافا بحقوق الشهداء .
و برغم تقديرى الكبير للجهد المبذول فى كلا المسلسلين و أنهما حققا الهدف منهما فكريا ، إلا انهما جاءا فى مستوى متواضع فنيا على مستوى الكتابة و المعالجة الفنية ، و كان من الممكن تقديم موضوعاتهما فى صورة أفضل على المستوى الدرامى . و خاصة أن الموضوع الذى تناوله مسلسل ( هجمة مرتدة ) كان من الممكن أن يجعل منه ( أهم مسلسل مصرى ) فى السنوات الأخيرة من الناحية السياسية .
لكن برغم أوجه القصور سيبقى المسلسل طويلا فى ذاكرة المشاهدين بكل ما يكشف من أسرار و بكل ما يحمل من رسائل هامة ، فمن المعروف أن المسلسلات المأخوذة من ملفات المخابرات العامة ، تسرد أحداثا حقيقية وقعت بالفعل ، و عامل الخيال فيها فى أضيق الحدود ، و لكن هذا المسلسل يتفوق على سابقيه فى أن وقائعه الأساسية ( أو العملية المخابراتية ) تدور على أرض مصر خلال السنوات القريبة الماضية ، و ليس عن أحداث مضى عليها سنوات طويلة ( كمسلسل الحفار مثلا ) ، كما أن الوقائع لم يمت أبطالها بعد ( كمسلسل رأفت الهجان ) ، و بالتالى مازال الموضوع ساخنا ، و يزداد الأمر سخونة عندما نكتشف أن المسلسل يطرح بعض خبايا و أسرار ثورة يناير 2011 ، مجيبا على كثير من التساؤلات ، و طارحا فى الأذهان تساؤلات أكبر.
و بما أن مثل هذه المسلسلات تتم مراجعتها على أعلى مستوى ، و تأتى كل كلمة فيها موزونة بدقة ، لذا يمكننا أن نعتبر هذا المسلسل وثيقة تاريخية ، و شهادة على أحداث معاصرة مازالت محل جدل و مازلنا تحت تأثيرها سلبا و إيجابا ، و الخلاف على تقييمها مازال قائما ، و بالتالى فليس هدف المسلسل إذكاء روح الانتماء أو الفخر بأحد أذرع حماية الوطن فقط كبقية المسلسلات من نفس النوعية ، بل هناك هدف آخر من وراء كشف الأسرار ، و تعرية الشخصيات – برغم تغيير الأسماء – و أعتقد أن ذلك كله من أجل بث رسائل ، علينا أن نحاول رصدها و اكتشافها .
يبدأ المسلسل متتبعا عنصرا ميدانيا من عناصر المخابرات ( أى يعمل على الأرض ) ، هذا العنصر تم زرعه بالعراق ( سيف العربي أو الفنان أحمد عز ) و معه مجموعة مهمتها مراقبة التنظيمات المتطرفة و من خلال الحلقات الأولى يكشف المسلسل عن رعونة ذلك العنصر و عدم التزامه بالأوامر بدقة ، و برغم تحقيقه للنجاح فى كشف اسم المسئول الأول فى هذه التنظيمات إلا أن جهاز المخابرات يقرر إبعاده عن العمل ، و فى نفس الوقت نرى عنصرا ميدانيا آخر من عناصر الجهاز ( دينا أبو زيد أو الفنانة هند صبرى ) تعمل فى دولة أجنبية داخل منظمة أجنبية مشبوهة ، و من خلال الحلقات نعرف أن العنصرين بينهما قصة حب قديمة ، لم تكتمل بالارتباط ، لأن العمل مع الجهاز يمنع الارتباط بين عناصره الميدانية ، و هكذا قرر الاثنان التخلى عن حبهما من أجل حب أكبر هو حب البلد .
و فجأة يتم استدعاء ( سيف ) مرة أخرى للقيام بمهمة جديدة بشرط النجاح فى عدة تدريبات يقودها قائد متقاعد من قواد جهاز المخابرات ، ليتم زرعه فى منظمة إغاثة أجنبية هى غطاء لجهاز مخابرات أجنبي ، و فى نفس الوقت يتم إرسال ( دينا ) إلى مصر للعمل بمكتب المنظمة التى كانت تعمل بها للخارج ، حيث تبدأ عمليات تجنيدها فى مصر للعمل ضد الدولة ، و يتقاطع عملها مع عمل سيف ، فالاثنان يتم استخدامهما من قوى أجنبية للتحضير لإشاعة الفوضى خلال أحداث يناير 2011
ساهمت الإطالة فى الحلقات الأولى فى انصراف المشاهدين عنه قبل أن تبدأ الحلقات الساخنة و والمهة ، و التى بدأت مع الحلقة 20 ، فهناك حلقات تم استهلاكها فى شرح تدريب ( سيف و دينا ) كانت أطول مما يجب و لا تفيد المشاهد ، بالطبع هى توضح كيف يتم إعداد عناصر جهاز المخابرات و صعوبة تدريبها ، و لكن فات صناع العمل أن التشويق هو عنصر أساسى لنجاح مثل هذه الأعمال ، و إنه يجب أن يجعلوا المشاهد فى حالة خوف دائم على البطل ، فكيف يتحقق ذلك الخوف و نحن نعلم أن ما يتم أمامنا مجرد تدريب ؟
و ليس هذا العيب الوحيد ، فالثغرات الدرامية فى المسلسل كثيرة ، منها على سبيل المثال : هل كان أحمد عز يستحق الاستغناء عن خدماته برغم نجاحه فى مهمته بالعراق ؟ ، و لماذا عاد الجهاز إلى الاستعانة به مرة أخرى ؟ ، ألم يكن هناك من يصلح سواه ؟ ، و هناك أيضا خطوط قدمها العمل لنا و لم يحسن استغلالها ، مثل تجنيد أحد العاملين فى وكالة اخبارية اجنبية ( الفنان محمد جمعه ) و تجنيد آخر فى قناة فضائية ( الفنان أمجد الحجار ) ، و لا نعرف سببا لكل الخطوط الكثيرة غير المستغلة جيدا سوى أن جهاز المخابرات أراد من وجودها بالمسلسل إيصال عدة رسائل للمشاهدين ، و لذا فالأجدر الالتفات لتلك الرسائل التى جاءت خلال أحداث المسلسل أو حوارات بعض الشخصيات فيه ، و لندع الدراما و قوانينها جانبا .
أولى الرسائل التى يبثها المسلسل أن مصر كانت تعلم بوجود حقول الغاز فى البحر المتوسط من قبل 2011 و أنها لم تعلن عنها رسميا ، و أن جهاز المخابرات كان يستشعر بوجود مؤامرات تستهدف المنطقة نتيجة وجود الغاز ، و لذا أعد العدة بزرع عناصره مبكرا بحيث يستطيع تحويل الهجوم الى هجوم مضاد أو ( هجمة مرتدة ) بلغة كرة القدم . و أن هذه المؤامرات كانت تحاك بين أجهزة استخبارات عدة دول أشار المسلسل إلى بعضها و لكن تم التركيز على إحداها .
ثانى الرسائل أن أحداث 25 يناير ليست من صنع المؤامرات الخارجية و إنما قام بها شباب ثائر ضد الظلم و ضد الفساد ، و المدهش أن جهاز المخابرات يقر بانتشار الفساد فعليا قبل 2011 ، و يؤكد على لسان ممثلى المسلسل أنه قد حذر من أن الشارع المصرى مشتعل ، و لكن النظام القائم لم يلتفت لتلك التحذيرات ، و ترك الشارع يغلى تحت دعوى ( خليهم يتسلوا ) فكانت النتيجة أن استغلت قوى أخرى تلك الأحداث من خلال قناة تليفزيونية عربية ( ذكر المسلسل اسم مديرها بكل وضوح ) تابعة لدولة تهتم بشدة بألا يظهر غاز البحر المتوسط فى مصر لكى لا ينافسها ، و أيضا الوكالة الإخبارية الأجنبية التى استغلتها أجهزة مخابرات معادية فى تأجيج الاحتجاجات ، ثم بدأت الوجوه المتآمرة فى الظهور فى المشهد بداية من 28 يناير .
و لعل أغرب ما كشف عنه المسلسل هو دور ( الدكتور الجامعى و الباحث ) المتزوج من أجنبية و الذى يدير مكانا أسماه المسلسل ( مركز الجبرتى ) و الذى جعل من مركزه ساحة للقاء أجهزة المخابرات العاملة ضد مصر ، حتى أطلق عليه جهاز المخابرات المصرى لقب ( المأذون ) لأنه يقوم بربط الشبكات المعادية بعضها ببعض . و يروى المسلسل كيف قام هذا المركز بدور فى تدريب الشباب على الاحتجاجات و استخدام السوشيال ميديا ، و دفع ببعضهم للتدريب خارج مصر تحت يد أجهزة مخابرات معادية دون أن يعرف هؤلاء الشباب . و وجه الغرابة فى هذا الكشف أن هذا الرجل مازال بيننا يعمل و يكتب و يتنقل ، و لم يتم القبض عليه ، و لكن المسلسل يفسر هذا بأن القبض عليه سيدفع جهات عدة للدفاع عنه ، و أن بقاؤه تحت بصر و سمع الجهاز يجعله مشلولا عن الحركة .
و ينتقل بنا المسلسل إلى كشف أخطر : أن مصر كانت تعلم بوجود أنفاق سرية فى شمال سيناء تربط بينها و بين قطاع غزة المحتل ، و أنها تغاضت عن تلك الأنفاق حماية للإخوة فى القطاع من الموت جوعا فى ظل حصار إسرائيلى خانق . و لكن تلك الأنفاق تم استغلالها فى تسلل عناصر أجنبية مسلحة ، ليلة 28 يناير و قامت تلك العناصر بمهاجمة أقسام الشرطة بشمال سيناء و دخلت إلى القاهرة و هاجمت السجون و أفرجت عن زعماء جماعة الإخوان و عناصر حماس و حزب الله ، و يكشف المسلسل أيضا أن بعض الجماعات الإرهابية فى سيناء كان يتم إمدادها بالمال و السلاح عن طريق أجهزة مخابرات أجنبية ، و أنه كانت هناك سفينة محملة بالأسلحة على وشك عبور قناة السويس لتوصل الأسلحة لتلك الجماعات و لكن جهاز المخابرات عرقل وصول تلك السفينة الى مياهنا الإقليمية . و كانت المفاجأة التى كشفها المسلسل أن بعض الجماعات الإسلامية التى تمول الإرهاب من الخارج مخترقة من مخابرات إحدى الدول !!
و يقرر المسلسل على لسان أبطاله عدة مرات أن انحياز الجيش الى الشعب و تبنيه لمطالب الثائرين فى يناير 2011 هو ما انقذ مصر من الوقوع فى دائرة الفوضى ، و أن المشير حسين طنطاوى قام بعمل وطنى و كان مخلصا فى الحفاظ على وحدة مصر و سلامة أراضيها ، و ذلك ليس غريبا على المشير طنطاوى الذى قاد كتيبته اثناء حرب أكتوبر فى واحدة من أعنف المعارك و أقواها عرفت وقتها باسم ( المزرعة الصينية ) ، كبد فيها العدو خسائر فادحة بفضل ذكائه و تخطيطه ، و لم يدهشنى ذلك الرأى الذى تكرر على لسان قائد جهاز المخابرات فى المسلسل فالمشير طنطاوى رجل معروف بمواقفه الوطنية التى عاينت بعضها بنفسى من خلال تعامل مباشر ، اتمنى لو يتاح لى يوما أن اكتب عنها .
و يكشف لنا المسلسل – و لأول مرة – أنه قد حيكت مؤامرة لتفجير اجتماع القوى السياسية مع بعض أعضاء المجلس العسكرى أثناء احداث مارس 2011 لإلصاق التهمة بالمجلس ، و كيف نجحت المخابرات فى كشف المؤامرة و إبطال القنبلة المعدة للانفجار و القبض على عناصر المخابرات الأجنبية المشاركين فيها ، و كيف تم استبدال ضابط المخابرات المعادى بمساجين مصريين فى سجون العدو.
و فى نهاية الحلقات يعدنا صناع العمل بجزء ثان من المسلسل ، ليؤكدوا لنا – من خلال صورة تكشف عن محتوى ذلك الجزء – عن أى جهاز مخابرات كان المسلسل يتحدث ، حتى و لو لم يُذكر اسمه صراحة . و تلك رسالة لكل المشككين و الواهمين و المطبعين بأن المؤامرات مازالت تحاك خلف بوابة مصر الشرقية ، و أن جهاز مخابراتنا يعى تلك الحقيقة . فتحية و تقدير لرجاله الذين نفخر بمجهوداتهم ، و كل شكرنا للعيون التى لا تنام من أجل سلامة الوطن .