كومندان التمثيل (أحمد فؤاد سليم) يغادر (هجمة مرتدة)
بقلم : محمد حبوشة
من خلال مشهد تراجيدي قصير زمنيا، شديد الدلالة على البراعة في التجسيد الدرامي الحي، غادرنا بالأمس في الحلقة (21) من مسلسل (هجمة مرتدة) الرجل (الشبح) الذي أطلق عليه (رفعت المسيري) لقب (كومندان)، والمعروف اسما بالنجم (أحمد فؤاد سليم) أحد عمالقة الفن المصري المخضرمين، والذي سطر تاريخا كبير لنفسه، لينصب نفسه واحداً من أهم الممثلين الذين ظلمهم الحظ ولكن أنصفهم القدر بعد سنوات، ويكتب اسمه في قائمة نجوم لن ينساها الجمهور، فقد أصبح وجوده في أي عمل دليل على قوة العمل، وربما كانت السنوات الكثيرة التي قضاها في المسرح هى السبب في جعله الأفضل بين أقرانه، ليعود بعد ذلك متفوقاً عليهم جميعاً.
ولأن أحمد فؤاد سليم يتمتع بإمكانات فنية وتعبيرات وجه وانفعالات خاصة تمكنه من لعب دور (الجوكر) في أي عمل فني، لذا فقد كان (كومندان) في السرد الدرامي لشخصية (فاروق السوهاجي) التي لعبها بحرفية على مدار (11 حلقة) في مسلسل (هجمة مرتدة)، تلك الشخصية التي سطرها المؤلف (باهر دويدار) عبر ورق السيناريو، وحولها المخرج أحمد علاء، إلى صورة متجسدة في شكل الفنان القدير، وهي ليست شخصية عادية، لكن (سليم) حولها بحسب الحكي الدرامي إلى داهية في العمل المخابراتي، وطبقا لمشاهدتي لأداء الفنان القدير (أحمد فؤاد سليم) فأرى أنه امتلك زمام شخصية تشبعت بالفكر المخابراتي منذ الصغر، لدرجة جعلت الرئيسين الراحلين (عبد الناصر والسادات) تباعًا، يعتمدان عليه في عمليات دقيقة وهامة رغم صغر سنه، واستطاع تنفيذ مهام كبيرة في إسرائيل، لم يستطع الكيان الصهيوني أن يعرف منفذ تلك المهام فأطلقوا عليه (الشبح).
شبح المخابرات العامة المصرية – فاروق السوهاجي – لم يكن بهذا الوصف فقط، ولكن كفاءته جعلته مركز ثقل في الجهاز، فاستعان به تلامذته (من الضباط) للأخذ من خبراته، فكان (كومندان) حتى بعد تقاعده واختفاؤه عن الظهور، فتم الاستعانة به لإعادة تأهيل وتدريب الكوادر الجدية، وقد ظهر (سليم) في أدائه التعبيري لشخصية (الكومندان) صارما تماما مثل رجل المخابرات القوي المحنك وصاحب الخبرة في زرع صفة الطاعة والتقيد بالأوامر في عناصره التي يجهزها للقيام بمهام في الخارج كما حدث مع (سيف العربي) الذي جسده النجم أحمد عز، و(دينا أبو زيد) التي لعبت دورها النجمة هند صبري، وقد بدت براعته من خلال نظراته المحسوبة، ونبرة صوته المعبرة، علاوة على أدائه المُثقل بالخبرات، جعلته يجسد بكل اقتدار شخصية اللواء المخابراتي الداهية (فاروق السوهاجي)، أو كما يُطلق عليه (الكومندان).
استمتع المشاهد المصري والعربي من الحلقة (10 إلى 21) بشخصية فاروق السوهاجي (أحمد فؤاد سليم) التي أبهرتهم وجعلتهم متعلقين بها طوال الوقت، وجعلتهم يتساءلون حول رجل المخابرات الخارق والمحنك، الذي استطاع أن يخدع العدو الصهيوني، وبراعة الحوار المستخدم في المسلسل عبر عن سمات هذه الشخصية، التي زادت من شوق الجمهور لها، ففي بداية مشهد ظهوره، ذهب الضابط رفعت (هشام سليم) إلى الضابط المتقاعد فاروق السوهاجي، ليطلب منه تدريب سيف، فرد (السوهاجي) وهو يلقي بسنارته في الماء بصوت معبر وهز رأس قائلا: (أنا واحد مات يا رفعت واتحط على قبره شاهد)، ليؤكد سليم هنا على براعة التجسيد الحي لشخصية الشبح الذي حير المخابرات الإسرائيلية ومن شدة يأسهم منه بقى كل أملهم أن يعرفوا هل هو ميت أم حي؟
ظني أن المشاهد أدرك ثقل (أحمد فؤاد سليم) في الأداء الدرامي العذب لشخصية ضابط المخابرات (فاروق السوهاجي)، حيث برزت طريقته الاحترافية بلغة جسد تتماهي مع الشخصية على نحو مذهل، وهو يقوم بتدريب أحمد عز وهند صبري في مسلسل (هجمة مرتدة)، بحيث يجعلك في دور فاروق السوهاجي تشعر بأنه حقيقي، وأنه في أوقات فراغه يصبح أحمد فؤاد سليم، وربما تمكنه وتألقه الكبير في تقمص للشخصية يجبرك على تصديقه، فقد ظهر فنانا يعطي دروسا في التمثيل حتى في المشاهد الصامتة، نظراته توشي بحديث ينم عن ذكاء خارق في كثير من الأحيان، حتى حركاته الجسدية، ملابسه، إكسسواراته، كل شيئ تم اختياره بعناية ليجعلك تصدق أنه ضابط المخابرات (فاروق السوهاجي)، ذلك الشبح الذي حير الموساد وأربكه في كل حساباته قبل تقاعده.
ببراعة وحرفية عالية للغاية استطاع القدير (أحمد فؤاد سليم) أن يجعلنا نرتبط ارتباط شرطيا باللواء (فاروق السوهاجي) كمرادف للوطنية المصرية، فقد بدا لنا من إطلالته الأولى بأنه القدوة والنموذج المثالي لرجل المخابرات وصاحب الرسالة، والذي خلق حالة من الانبهار لدى المشاهدين لتقديمه مزيج المعلم الذي يخاف على أبناء من تلاميذ المخابرات، المتمسك بالقيم، الصادم والصارم في تعليماته، وربما ساعده في أداء الشخصية على هذا النحو الاحترافي إجادته لفن الإلقاء الذي اكتسبه من خبرته الطويلة على خشبة المسارح، والإلقاء – كما نعرف – هو جزء لا يتجزأ من فن التمثيل، بل هو أحد أدواته الفنية المهمة، فالهدف الرئيسي الذي يصبوا إليه الممثل من خلال وسائله الفنية وخاصة الإلقاء هو أن يوّلد القناعة لدى الجمهور بأبعاد الشخصية التي يجسدها، سواء بالأقوال والمشاعر التي تقدمها تلك الشخصية فـ (ليست مهمة الفنان أن يعرض مجرد الحياة الخارجية للشخصية التي يؤديها، بل لابد أن يتلائم بين سجاياه الإنسانية وبين حياة هذا الشخص الآخر، وأن يصب فيها كلها من روحه هو نفسه، تما كما فعل (سليم) مع (السوهاجي).
أحمد فؤاد سليم، في هذا المسلسل قدم لنا درسا عمليا مهما وضروريا بأنه على الممثل أن يتعرف على العناصر التي تجذب السامع وتثيره من أجل إبراز القيم الدرامية المختلفة، صحيح أن كلنا يستطيع أن ينقل أفكاره وأفكار غيره إلى السامعين أو المشاهدين بوسائل متعددة، إما عن طريق الخطابة أو الإنشاد والغناء أو الإشارة، ولكن ليس باستطاعة كل منا أن يتقن فن الإلقاء كما أتقنه (سليم) صاحب الخبرة الطويلة في المسرح، بحيث استطاع الوصول إلى هدفه من نقل أفكاره أو أفكار (السوهاجي) بشكل واضح ومحدد ومن ثم التأثير على السامعين أو المشاهدين بحيث يتفاعلون مع هذه الأفكار، فالإلقاء يعتبر الوسيلة الوحيدة والفعالة في مخاطبة الجماهير كونه يجسد الأفكار والأحاسيس والأهداف بشكل معين، كما فعل القدير (أحمد فؤاد سليم) برخامة صوته ونبرته المميزة التي كانت تهتز لها مشاعر الجمهور وأحاسيسة في متعة المشاهدة.
بالتأكيد سنفتقد إطلالته التي كانت تطمئننا على أننا نملك أقوى أكفأ أجهز المخابرات في العالم، في الحلقات الـ 9 المتبقية من عمر مسلسل (هجمة مرتدة)، ولكن سيبقى أثره في نفوسنا كرمز وطني وأسطورة حية من أساطير المخابرات المصرية، وذلك لأن أبرز ما يملكه (أحمد فؤاد سليم) من مهارات هو أن لديه جزء عقلي ثقافي، فمثله لا يستطيع أن يناقش شكسبير أو بريخت أو غيرهما إلا مع ممثل يعرف قيمة المؤلفين، يعرف تاريخ الرسم والنحت والموسيقى، يستطيع أن يعي في ذهنه على الدوام ولو بصورة تقريبية أسلوب الحقب وخصائص كبار الفنانين، وهذا التدريب الذهني أتاح له القدرة على أداء أكبر عدد من الأدوار وأكثرها تنوعا، لأن الممثل عنده يحتاج إلى ذهن يفكر بسرعة كسرعة البرق مركزا إلى حد كبير في لحظات الشك، وهو ما فعله تماما مع (فاروق السوهاجي) في (هجمة مرتدة).
تحية تقدير واحترام مكللة بالشموخ والوقار للقدير (أحمد فؤاد سليم) الممثل الذي أتقن التواصل الوجداني الحقيقي، هذا إذا تحدثنا عن الممثل من خلال الحركة والصوت، وقدم لنا دروسا عملية لكيفية أن يتحرك الممثل؟ وكيف يخرج صوتا؟، هذا مايفسره ستانسلافسكي بقوله: على الممثل أن يمتلك القدرة على تهيئة نفسه للفعل، فالشيء المهم ليس في الفعل ذاته، ولكن في الولادة الطبيعية لدواعي الأفعال، لذا يجب على الممثل في مراحل تحضير الدور عدم تنفيذ الأفعال عضليا بل الوصول للفعل النفسي ثم الانتقال من مهمة وفعل آخرين إلى الاكتفاء بإيقاظ الدوافع للفعل وترسيخ هذه الدوافع بالتكرر، لذا يجب على الممثل أن يمتلك القدرة على البحث وإيجاد العلاقات التي يتطلبها الدور، وأن يجعل منها علاقات خاصة تساعده على تجسيد شخصية رجل المخابرات على نحو(أحمد فؤاد سليم) المذهل في الأداء.