“الحارة” من نجيب محفوظ إلى “ملوك الجدعنة”
بقلم : محمود حسونة
تعد الحارة المصرية بمثابة الكنز بالنسبة للمبدعين أمس واليوم وغداً، وقد كانت وستظل مصدر إلهام لكل من يريد أن يعبر عن المجتمع المصري روائياً أو سينمائياً أو مسرحياً أو درامياً، ومنها استلهم أديب نوبل العظيم نجيب محفوظ العديد من أعماله وعلى رأسها ثلاثيته الشهيرة، بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية، وفي الحواري والأزقة عاش الكثير من الأبطال والفتوات وأولاد البلد الجدعان الذين رسم ملامحهم أديبنا الكبير ابن أحد حواري الجمالية، ومن أعماله أحببنا الحارة وأهلها وكثيرون منا عاشوا فيها أو على الأقل تمنوا ذلك.
ومثلما ألهمت الحارة نجيب محفوظ ألهمت غيره الكثير من مبدعينا وشاهدنا أبنائها المبدعين درامياً من كبار كتاب السيناريو والحوار، وعلى رأسهم أسامة أنور عكاشة الذي ترك لنا شخصيات ستظل خالدة في وجداننا نستدعيها وقتما نشاء لنستعيد معها أصالة ووطنية وصدق وشهامة أهالي ليالي الحلمية، وأرابيسك، وزيزينيا وغيرهم.
نجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة أستاذين كبيرين سار على نهجهما الكثير، واستلهم منهما ومن أعمالهما العديد من الكتاب أعمالاً تدور أحداثها في الحارة الصغيرة للتعبير عن مصر الكبيرة الممتلئة بالجدعنة والرجولة والتضحية عبر التاريخ.
سينمائياً استمتعنا بالكثير من الأعمال التي تعبر عن الحارة ومواقف أبنائها تجاه بعضهم في وقت الضيق، وهل يمكننا أن ننسى موقف محمد رضا وزينات صدقي وشفيق نور الدين وباقي أهل الحارة من المؤامرة التي أحيكت ضد ابن حارتهم عبدالحليم حافظ ومحبوبته شادية في “معبودة الجماهير”، أم يمكننا نسيان هبة عمر الشريف وعبدالحليم حافظ وأحمد رمزي لإنقاذ فاتن حمامة جارتهم في السكن بالحارة من المرض متناسين صراعهم على حبها؟.
خلال السنوات الأخيرة أطلت علينا أعمال درامية تصر على أن تغير ملامح الحارة المصرية وتشوه صورة أبنائها وتظهرهم كبلطجية خارجين على القانون ومعتدين على القيم ومتجاوزين للتقاليد ومنتهكين للأعراف ورافضين لسلطة الدولة، أعمال تظهر أبناء الحارة متصارعين متآمرين متربصين لبعضهم البعض، خائنين للعيش والملح، ملفقين لبعضهم البعض التهم، غير قادرين على لفظ الشرير خارج حارتهم، متبنين نظرية البقاء للأكثر بلطجة ودموية وقدرة على إزهاق الأرواح وإراقة الدماء.
عشنا خلال مراحل في حياتنا داخل حارات، وتربطنا علاقات كثيرة بأصدقاء شبوا وشابوا داخل الحارة، وواقعياً نؤكد ويؤكدون أن الحارة ليست بهذا القبح الذي يسعون لتكريسه درامياً، بل لا يزال لدينا حارات يتعامل أبناؤها وكأنهم أهل وعائلة واحدة، وإذا ظهر بينهم الطالح قوموه حتى يعتدل وإلا لفظوه ليخرج من بينهم.
آخر الأعمال التي تنال من صورة الحارة المصرية مسلسل “ملوك الجدعنة” ومن الإعلان عنه قبل بداية رمضان تخيلناه سينصف الحارة ليظهر أهلها ملوك الجدعنة، ولكننا فوجئنا به يقدم لنا حارة فيها الجدع ولكن فيها أيضا الخائن والفاجر والمتجاوز في حق الجميع من دون رادع، ورغم توقعنا بأن المسلسل لن ينتهي إلا وهذه النماذج الرديئة قد نالت جزائها كالمعتاد إلا أن الميزان لن يعتدل إلا في آخر حلقات بعد أن نكون قد تشبعنا بلطجةً وتجاوزاً، بل أن جدعان الحارة عمرو سعد ومصطفى شعبان أو سفينة وسرية لا يؤمنان سوى بالبلطجة وسيلة لاستعادة الحق من بلطجية آخرين مثل زاهي العتال أو عمرو عبدالجليل وتوابعه وابن الحارة الموبوء عنتر وتوابعه.
إذا تقبل الناس أفعال الصديقين سفينة وسرية باعتبار أنها إثارة درامية بهدف جذب الجمهور وسط تنافس محموم في موسم مزدحم، فلن يتقبلوا أبداً الخطيئة الكبرى التي ارتكبها صناع المسلسل في مشاهد غُسل الطفلة حبيبة بعد مقتلها ولا مشهد دفنها ودخول الكاميرا إلى المقبرة لتصور الدفن بجوار جثة أخرى، ليس ذلك فقط بل ويدور حوار وشد وطبطبة داخل المقبرة، وهي مشاهد غريبة على الدراما المصرية وغريبة على المشاهد المصري ومليئة بالتجاوز والابتزاز العاطفي والاستفزاز للناس، وكل ذلك يحدث بلا أي ضرورة درامية، ولعل المخرج أحمد خالد موسى يعلم أن هذه المشاهد لم تضف إلى المسلسل سوى قبحاً وتشويهاً.
شخصية عطية التي تتألق فيها الفنانة دلال عبدالعزيز تخيلناها مكتوبة لتكون ضمير الحارة ومصدر جدعنة ابنها سرية وصديقه سفينة إلا أن قبولها الهروب من السجن نفى عنها ذلك، ولعله من الأخطاء التي وقعت فيها المؤلفة عبير سليمان وباركها المخرج.
“ملوك الجدعنة” يشبه أغاني المهرجانات التي تتجاوز في حق قيمنا وتشوه صورتنا الشعبية، ولكن بيننا أناس يفضلونها ويلتفون حولها، وهذه النوعية من المسلسلات والأغاني لا تحمل رسالة ولا تترك أثراً ولكنها فقط تدغدغ مشاعر مشاهديها وتثيرهم وتستأثر بهم وقت المشاهدة فقط.
جديد المسلسل الوحيد أنه جمع نجمين اعتدنا أن ينفرد كل منهما ببطولة مسلسل خلال السنوات الماضية، وهو ما خلق بين مصطفى شعبان وعمرو سعد تنافساً في التمثيل ليجد المشاهد نفسه أمام مباراة يبذل طرفيها أقصى ما لديهما، والنتيجة تحقيق قدر من المتعة ساعد عليها الحوار المأخوذة كثير من جمله من لغة الحواري الحقيقية وصاغته كاتبته بأسلوب السجع المحبب.
العلاقة النموذجية للصداقة، التي يعتبر كل طرف فيها سند وظهر وداعم للآخر والتي لا يسمح طرفيها لأحد بإفسادها ليست جديدة، وسبق أن قدمها الزعيم عادل إمام وصديق عمره الراحل سعيد صالح في فيلم “سلام يا صاحبي” وأعاد تقديمها الصديقان محمد هنيدي وأشرف عبدالباقي في فيلم “صاحب صاحبه”، ورغم أن عبير سليمان اعترفت في حوار صحفي أن “ملوك الجدعنة” مستوحى من “سلام يا صاحبي” إلا أنه لم يتم ذكر ذلك على تتر المسلسل.