اليد الطولى لأبطال المخابرات المصرية في (هجمة مرتدة)
كتب : محمد حبوشة
في جو من الإثارة والتشويق يعيد علينا مسلسل (هجمة مرتدة) على جناح سيناريو كتبه بدقة وبراعة (باهر دويدار)، أجواء بطولات المخابرات المصرية قبل 18 سنة تقريبا عندما كانت وماتزال لها اليد الطولى في الوصول إلى معلومات ووثائق من شأنها حماية الدولة المصرية ودرء الأخطار عن بعض الدول العربية التي ترتبط بذات المصير المشترك في مكافحة الإرهاب من جانب جماعات مثل (داعشوالنصرة) وغيرها التي تكونت على أرض العراق في ظل الفوضي التي كانت تعيشها على أثر السقوط في براثن الأمريكان في 9 أبريل 2003، وهو السقوط الذي فجر ينابيع الإرهاب الذي استهدف المنطقة العربية، وقوى في الوقت ذاته شوكة المخابرات المصرية التي رصدت منذ البداية خطوات التمهيد لما يسمى بالربيع العربي الذي حمل في طيات الخيانة من جانب بعض العناصر التي دشنت ما يسمى بالتغيير السلمي الذي حول البلاد والعباد إلى حالة من الفوضى الخلاقة على طريقة كونداليزا رايس.
المسلسل ركز في حلقاته الست الأولي على العراق وتحديدا عام 2007 عندما تحول إلى مستنقع يضم كافة جماعات العنف المسلح، وفي ذات الوقت نشط جهاز المخابرات المصرية في بعض العواصم الأوروبية وخاصة بريطانيا في وقت كان يعتقد نصف البريطانيين أن ضلوع بلادهم في الحرب على العراق دمرت سمعة بريطانيا حول العالم، بل إن عامة البريطانيين اقنتعوا لفترة في بداية الحرب بأن التدخل العسكري في العراق ضروري لكن بحلول عام 2007 أصبح نحو 83 بالمئة من البريطانيين يعتقدون أنهم خدعوا وأنه قد تم استبدال كارثة بأخرى، وقد أبدى 52 بالمئة من الشعب الإنجليزي أن ضلوع بريطانيا في العراق هز مكانتها في العالم بينما يعتقد أربعة أشخاص من بين عشرة أن هذه الحرب جعلت من العالم مكان أكثر خطورة.
وتكشف وقائع الأحداث في المسلسل أن تجنيد المخابرات المصرية لـ (سيف العربي) الذي جسده ببراعة وخفة ظل النجم (أحمد عز) وغيره من عناصر كانت تستهدف وضع قدم على أرض صلبه في أكثر المناطق سخونة في الأحداث على مستوى العالم، في بداية تكون (داعش والنصرة) وغيرها من جماعات الإرهاب الأعمى، كما اتضح لنا من خلال التفجيرات ادالمرعبة التي جاءت في سياق المسلسل، حتى أنه راح ضحيتها بعض المصريين المتعاونين مع المخابرات المصرية من خلال (سيف العربي) ، وفي الوقت ذاته نجحت المخابرات المصرية في زرع (دينا أبو زيد) التي لعبت دورها باحترافية (هند صبري) في قلب أوروبا التي وصفت الديموقراطية في ذلك الوقت بالسلعة الغربية الأكثر رواجا حول العالم.
ولعل أبرز ما كشفته وقائع مسلسل (هجمة مرتدة) هو نجاح عناصر المخابرات المصرية بقيادة السيد (رفعت) الذي جسده النجم (هشام سليم) بكفاءته المعهودة، في كشف أللاعيب الولايات المتحدة الأمريكية التي انتهجت أولاً من خلال سياسة تطهير المستنقع كما تزعم في العالم الإسلامي قبل احتلال العراق عام 2003، إذ رأت في الصعود الإسلامي – ضمن ما أطلق عليه الصحوة الإسلامية بعد انحسار المد الشيوعي والقومي في الدول العربية والإسلامية – خطراً على كثير من استراتيجياتها في المنطقة، كالحفاظ على مصالحها، وتأمين موارد الطاقة، وأمن الكيان الصهيوني، وقبل ذاك استهداف الموارد البشرية العربية والإسلامية المبدعة.
وقد سلط السيد (رفعت) من خلال عمله الدؤوب أضواء كاشفة على بعض المظمات العاملة في أوروبا، وظني أنه كان من بينها مؤسسة بالطبع (راند) التي لم يأتي ذكرها في المسلسل لضرورة درامية، لأنها كانت معنية في ذلك الوقت برسم استراتيجيات تطهير المستنقع للإدارة الأمريكية وسبل تحقيق ذلك ضمن تقريرها الذي أصدرته عام 2004، بعد احتلال العراق، وما أفرزه هذا الاحتلال من تأثير على سياسة القطب الواحد، وشجعت مؤسسة راند، تحت عنوان (الإسلام المدني)، إدارة الرئيس بوش على محاربة (الإسلاميين المتطرفين) عبر خدمات علمانية (بديلة) من خلال تقديم الدعم بكل صوره إلى جماعات المجتمع المسلم المدني التي تدافع عن (الاعتدال والحداثة)، وقطع الموارد عن المتطرفين، بمعنى التدخل في عمليتي التمويل وشبكة التمويل، بل وتربية كوادر مسلمة عسكرية علمانية في أمريكا تتفق مصالحها مع مصالح أمريكا للاستعانة بها في أوقات الحاجة، لدعم هذه الجماعات مستقبلا.
وبشكل مبطن ومن خلال المهام التي قامت بها (دينا أبو زيد – هند صبري) تمكنت المخابرات من وضع يدها على أهداف الأمريكان من وراء سياسة تطهير المستنقع التي تقوم على إزالة كل (مظاهر التشدد) من حركات أو قيادات أو مناهج أو برامج إغاثية، أو وسائل إعلامية وثقافية، ومحاربتها بكل ما تملك من أدوات وأسلحة، يقابله دعم لكل (مظاهر الاعتدال) في العالمين العربي والإسلامي، وهي في الحقيقة كانت تربي وتدرب قيادات جماعات العنف والتطرف في السجون العراقية التي اخترقها (سيف العربي) وتوصل إلى رأس الأفعى في تلك التنظيمات وسلم تقريره الخطير للقيادة في القاهرة التي كانت تقوم بالتحليل العميق لفهم أبعاد المخططات الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة في استهداف مصر والسعودية وغيرها من دول خضعت فيما بعض لمؤامرة الربيع العربي مثل (تونس وسوريا وليبيا واليمن مؤخرا).
ولقد وعت المخابرات المصرية إلى أنه بعد ثلاث سنوات من العمل بإستراتيجيات (راند) ضمن مشروع الإسلام المدني، ومع تصاعد المقاومة على الساحة العراقية التي أوقعت القوات الأمريكية في (المستنقع العراقي)، وعلى الساحة الفلسطينية، التي أحرجت القوات الصهيونية، وما صاحب ذلك من تململ الشارع العربي من الأنظمة التي نعتوها بالاستبدادية، والمشاريع العلمانية والقومية (المدعومة من الغرب)، ومع تجاوب جماهيري مع مشروع النهضة الإسلامية الذي أعقب الصحوة الإسلامية، رأت الإدارة الأمريكية أن سياسة تطهير المستنقع لم تعد كافية إن لم تكن ولدت ميتة أصلا.
كما لفت المسلسل في طي أحداثه المثيرة والتي تبعث برسائل مهمة بطريقة غير مباشرة، وعبر كفاءة ضابط المخابرات المصري الذي يتحمل المشاق والمتاعب الكبرى في الوصول إلى المعلومات الحقيقية، وذلك من خلال رصد تراجع أمريكا و دفعها إلى إعادة التفكير في سياسة تطهير المستنقع، أيضا الجدل المحتدم في الولايات المتحدة وأوروبا آنذاك، بشأن الموقف من دعم مشاركة الإسلاميين المعتدلين في العملية السياسية التي ترعاها أو تراقبها الإدارة الأمريكية وأوربا، والتعامل معهم باعتبارهم شركاء، إذ كان في ذلك الحين يتبنى قسم من المفكرين والسياسيين سياسة المشاركة، وحججهم تتمثل: بأن الإسلاميين المعتدلين يمثلون البديل المحتمل للنظم الشمولية في العالم الإسلامي خصوصاً في العالم العربي، وهم أقدر من رجال الدين التقليديين على مواجهة الخطر الراديكالي الذي يمارس العنف والإرهاب.
وأعتقد أن الحلقات القادمة سوف تنفض الغبار عن العديد من الجماعات الإسلامية المعتدلة – من وجهة النظر الأمريكية – حيث تتبنى أجندة ديمقراطية تقوم على احترام التعددية وحقوق الأقليات، كما هو الحال مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب، في حين يعارض آخرون معاملة هؤلاء الإسلاميين كشركاء في العملية السياسية التي يتولى رعايتها أمريكا أو الغرب، وحججهم: عدم التأكد من أن خطاب هؤلاء الإسلاميين بشأن موقفهم من الديمقراطية يعبر عن موقف تكتيكي أم إستراتيجي، وما إذا كانوا سيقبلون بمبدأ الفصل بين الدين والدولة، وأن فكرة الدولة الإسلامية لا تزال تهيمن علي مخيلتهم أم لا؟، وربما يقوم هؤلاء بدور فعال في مواجهة الجهاديين، وهو ما قد يفقدهم المصداقية أمام الشعوب، وتكون مواجهتهم مرتفعة الثمن في المدى الطويل، ولذا ينصحون أن يكون التعاطي مع هؤلاء الإسلاميين فقط من خلال تقوية شبكاتهم وجعلهم ندا لغيرهم من الجماعات قبل الحديث عن شراكة وتحالف معهم.
ويبدو أن رؤية الطرف الثاني لاقت تجاوباً، فعمدت مؤسسة (راند) التي تم استبدال اسمها باسم آخر وبحسب تقرير (دينا أبو زيد)، كما جاء في سيناريو أحداث (هجمة مرتدة) إلى تقديم تقريرها عام 2007 والذي لم تظهر آثاره حتى الآن في سياق الأحداث، وجاء تحت عنوان: (بناء شبكات مسلمة معتدلة)، ومعلوم أنه لا بناء على أرض مأهولة إلا بإزالة البناء وتسويتها ومن ثم البناء عليها، فلا يستقيم بناء عصري جاهز مع البناء القائم، وإن كان مظهره الخارجي يوحي بالانهيار والتهالك، لأن مكمن الخطر في قوة أساسه الذي يمتد إلى أعماق التاريخ رسوخا وصلابة، ومن هنا تم استبدال سياسة تطهير المستنقع بسياسة تجفيف المستنقع، مع ضرورة الإفادة من تجربتين لدعم مقومات نجاح هذه السياسة؛ الأولى: تحول مجتمع أوربا الكنيسي إلى علماني، والأخرى تجربة إنهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي وولادة القطب الواحد.
تلك الأحداث وغيرها سوف تتضح الغاية والأهداف الخفية منها وكيف تصدت المخابرات المصرية لموجات الغضب والإرهاب في عصر المعلومات السريع في ثنايا أحداث (هجمة مرتدة) الذي تميز ببراعة الأداء من جانب (أحمد عز، هند صبري، هشام سليم، كمال أبو رية، نضال الشافعي، نور محمود، ندى موسى، محمد جمعة، سميرة الأسير) على المستوى المخابرتي، أما على المستوى الاجتماعي فقد برز أداء كل من (القديران أحمد فؤاد سليم، وصلا ح عبد الله، فضلا عن أداء بالغ الروعة من جانب الفنانة الكبيرة ماجدة زكي في دور أم سيف، وقد كانت لافت للانتباه طوال الوقت جهد المخرج (أحمد علاء الديب) في قدرته وتحكمه الدقيق في إيقاع حركة الممثلين في المسلسل، والتي نفذها بعناية ودقة فائقة.