بهيجة حافظ .. ابنة الذوات رائدة التأليف الموسيقي والتمثيلي والإخراجي (1/2)
* عاشت في بيت فني مليئ بالموسيقى ووالداها اكتشف ولحن لـ (عبدالحي حلمي)
* حصلت على لقب أجمل طفلة في مدرسة الفرنسسيكان الإيطالية الابتدائية
* بدأت تعزف على البيانو وهى في سن الرابعة، وألّفت أول مقطوعة موسيقية وهي في التاسعة
* حصلت على دبلوم فى الموسيقى من باريس سنة 1930 ، وشقيق يوسف وهبي سبب دخولها السينما
* (هدى هانم شعراوي) رغبت فى مشاهدة بعض مناظر الفيلم وبعد مشاهدتها أشادت بها
* لم تكتف (بهيجة حافظ) بالتمثيل في فيلم (زينب) وإنما وضعت الموسيقى التصويرية للفيلم
كتب : أحمد السماحي
هى واحدة من الرواد الأوائل في السينما المصرية قامت بتأليف مئات المقطوعات الموسيقية، وتحدثت لغات ثلاث بطلاقة، واقتحمت المستحيل عندما قبلت ابنة الباشوات التمثيل في السينما فى ذلك الوقت الصعب فى بداية الثلاثينات من القرن الماضي، ثم فتحت صالونها لرعاية المواهب الفنية والموسيقية والأدبية فخرج منه (ماجدة الصباحي، فايدة كامل، إبراهيم حجاج، محمد بكار، أبو بكر خيرت، يوسف شوقي).
إنها (بهيجة حافظ) ابنة (اسماعيل محمد حافظ باشا)، الموظف السابق في الخاصة السلطانية في عهد السلطان حسين كامل كما كان إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء الأسبق ابن خالة والدتها، ولدت فى حي (محرم بك) بالأسكندرية في يوم 4 أغسطس عام 1908، ــ تذكر بهيجة فى قصة حياتها ــ أنها مواليد 1912.
والداها يكتشف عبدالحي حلمي
بالرغم من نشأتها الارستقراطية، فإنها عاشت في بيئة فنية، حيث تقول هى: عشت في منزلي وكأنني أعيش فى معهد للموسيقى لأن أبي وأمي وأخواتي كانوا جميعا من العازفين على الآلآت الموسيقية المختلفة، فقد كان أبي يعزف على العود والقانون والرق والبيانو، وكانت والدتي تعزف على الكمنجة والفيولنسل، وكنت أنا أعزف على البيانو، ولقد فتحت عيناي على الحياة لأرى والدى يتعهد برعايته جنايني المنزل لأنه لمس فيه موهبة موسيقية غنائية وبلغ من رعايته له أنه بنى له فى أحد أطراف الحديقة كشكا كبيرا مزودا بكافة أساب الرفاهية ليسكنه هذا الجنايني ويتفرد بالتغريد والتلحين والغناء حتى جعل منه والدي مطربا تصدر المطربين في زمانه ولحن له لحنا بعنوان (كنت فين والحب فين)، انه (عبدالحي حلمي) خال المطرب الكبير (صالح عبدالحي).
أجمل طفلة
تذكر (بهيجة) أن والداها أدخلها مدرسة (الفرنسيسكان الإيطالية)، وأطلقوا عليها لقب أجمل طفلة فى الإسكندرية، سرعان ما تركت مدرسة (الفرنسيسكان) والتحقت بمدرسة (الميردي دييه)، وفى هذه الفترة أحضر لها والداها المايسترو الإيطالي (جيوفاني بورجيزي)، والذي كان يقود الفرقة الموسيقية بالإسكندرية ليعلمها أصول العزف ويدربها على التأليف الموسيقى والغناء، وكان لهذا المايسترو أثر كبير في حياة (بهيجة حافظ)، فقد كان يتردد على قصرهم في حي (محرم بيك) بحكم صداقته لوالدها، لذلك درست قواعد الموسيقى الغربية على يديه.
وتقول (بهيجة حافظ) إنها بدأت تعزف على البيانو وهى في سن الرابعة، وإنها قد ألّفت أول مقطوعة موسيقية وهى في التاسعة، حيث أعجب والدها بهذه المقطوعة وأسماها (بهيجة)، بعد ذلك ألّفت مقطوعتين، الأولى اسمها (من وحي الشرق) والثانية (معلهشي).
السينما تدق بابها
تستكمل (بهيجة حافظ) قصة حياتها فتقول: عندما بلغت السابعة عشر حدث أن قدم إلى الإسكندرية بعض المخرجين السينمائيين من الأمريكيين وراحوا يتسكعوا في شوارع المدينة بحثا عن وجوه شرقية جذابة، وشاهدوا أثناء جولتهم صورة لي في فاترينة المصور (إليان) فرأوا في الصورة بغيتهم، وعرفوا من المصور صاحبة الصورة فجاءوا إلى منزلنا، وعرضوا على الظهور فى أحد الأفلام، ولكن أبي ظردهم شر طردة، وجلست أبكى حظي التعس وحياتي الشقية.
الزواج فى السابعة عشرة
فى هذا السن خشى على أبي من الفتنة فقد كنت جميلة ورشيقة وخفيفة الدم، فأمر بتزويجي قبل أخوتي وتزوجت وأنا في سن السابعة عشر من ثري إيراني مقيم فى الأسكندرية، وأخرجوني من المدرسة لأنها لا تقبل المتزوجات، ولم أكن في هذه السن المبكرة أعرف ما هو الزواج أو الحب فبدأت حياتي مع زوجي فاترة ورتيبة، وبعد مضي ثلاث سنوات تم طلاقي من زوجي الإيراني، وأثناء ذلك كنت ارتاد دور العرض فى الأسكندرية وأشاهد الأفلام الأجنبية، كما كنت أتابع نشاط الهواة المصريين من بعيد، ومن الأفلام التى رأيتها فى العشرينات فيلم اسمه (المعلم برسوم)، وفيلم (ليلى) لعزيزة أمير.
السفر إلى باريس
تستكمل (بهيجة حافظ) حكي قصة حياتها فتقول: بعد طلاقي سافرت إلى فرنسا لدراسة الموسيقى، حيث حصلت على دبلوم فى الموسيقى من باريس سنة 1930 ، وعندما عدت كان والدي رحل عن الدنيا، فساعدني هذا على التمرد على طبقتي الارستقراطية، فتركت الإسكندرية ونزلت إلى القاهرة، حيث قررت العيش والعمل من وحي قناعاتي، ولكي استقل ماديا عن أسرتي اشتغلت بتعليم العزف على البيانو لفتيات الأسر الراقية، وبنسخ النوتة الموسيقية للفرق الموسيقية.
شركتي كولومبيا وأوديون والمستقبل
انتبهت شركات الأسطوانات إلى موهبتها فى التأليف فتعاقدت معها على تسجيل مؤلفاتها الموسيقية على أسطوانات لشركتي (كولومبيا) و(أوديون) فى القاهرة، وضمن حملة الإعلانات لأسطوانات (بهيجة)، وتحت عنوان (أول مؤلفة موسيقية مصرية) نشرت مجلة (المستقبل) صورة (بهيجة) على غلافها، وكانت هذه الصورة سبب اشتغالها في السينما، والشرارة الأولى – كما تقول منى غندور في كتابها سلطانات الشاشة – التى أشعلت ثورة عائلتها عليها، لأن بنات العائلات المحصنات لا تنشر صورهن على أغلفة المجلات.
كواليس زينب
فى هذه الفترة كان المخرج (محمد كريم) يستعد لإخراج أول أفلامه (زينب) وكان يبحث عن بطلة لفيلمه إلى أن وقع نظره على صورة (بهيجة) على غلاف مجلة (المستقبل) بالبرقع والطرحة، وقد كتب على الغلاف (أول مؤلفة موسيقية مصرية) فطلب من صاحب المجلة (إسماعيل وهبي) شقيق (يوسف وهبي) أن يعرفه إليها، ويقول محمد كريم فى مذكراته عن قصة اكتشافه لبهيجة حافظ : رأيتها عن قرب بعد رؤيتها على غلاف مجلة المستقبل، حيث كنا فى حفلة لطيفة، عرفوني فيها بسيدة جميلة رقيقة مصرية السمات رشيقة القوام، وقالوا (بهيجة حافظ) أعجبتني وقلت في نفسي إنها صالحة لتمثيل الدور، رغم أنها كانت تبدو دلوعة من طبقة (الهايلايف)، تحدثت معها طويلا، وعرفت أنها موسيقية، تجيد الفرنسية وتحرص على الكلام بها، أما لغتها العربية فى ذلك الوقت فقد كانت تتكلمها بلهجة إسكندرانية مكسرة.
وبعد أيام كنت في زيارة صديقي (إسماعيل وهبي) المحامي، وحدثته بشأن (بهيجة حافظ) وقلت له : هل تعرفها؟ فأغرق في الضحك وأمسك بالتليفون واتصل بها، ولاحظت من لهجة الحديث وما تخلله من مداعبات لا تكليف فيها، أن العلاقة بينهما متينة جدا، وختم (إسماعيل) حديثه بأن طلب منها أن تحضر إلينا، واتضح لي أنه محامي (بهيجة) وأنه باشر لحسابها بعض القضايا.
وعندما حضرت تحدثت معها بإفاضة وعرضت عليها القيام بدور (زينب) الفتاة الريفية فقالت: يا خسارة لو كان الدور مودرن؟ ولم تمض أيام حتى قمت بإجراء بروفة تصوير لها، ثم التعاقد معها، لتشارك (سراج منير وزكي رستم) بطولة الفيلم.
مقاطعة أسرتها
تتذكر (بهيجة حافظ) ما حدث بعد توقيعها لعقد فيلم (زينب) فتحكي كواليس هذه الفترة فتقول: علم أهلي بالأمر وهددني أخوتي بالقطيعة، وحلف أزواج شقيقاتي بالطلاق إذا لم تقاطعني شقيقاتي إن أنا ظهرت فى السينما، وإذا رآني أحدهم فى حفلة أدار وجهه وتجاهلني، حدث أن جاءت إحدى شقيقاتي من الأسكندرية إلى العاصمة، ونزلت فى أحد الفنادق، ودفعني الشوق إلى رؤيتها، فذهبت إليها فى الفندق، وما كاد نظرها يقع على حتى صاحت فى وجهي قائلة: ابتعدي عني يا حبيبتي اعملي معروف لا تقتربي مني، ووقفت جامدة فى مكاني، واغرورقت عيناي بالدموع، وعادت هى تقول: أنا مشتاقة جدا لرؤياك، أريد أن أضمك إلى صدري وأقبلك، ولكن زوجي أقسم يمينا بالطلاق إذا سلمت عليك، وانحدرت دموعي عزيرة، وأخذت طريقي إلى الخارج والأرض تميد بي، وأحسست بقطيعة أهلي، وأحسست بأنني منبوذة فعلا، ولكن حب السينما كان يصم آذني عن كل وعيد.
ولم يكن فن الإخراج قد بلغ ما بلغه الآن من تقدم بل كان بدائيا فى كل شيئ ولهذا استمر تصوير الفيلم 21 شهرا أصيبت خلالهم بالتسمم وبأعراض السل والكساح والعرج والنزلات الشعبية.
حب من طرف واحد
كان في البداية يقف أمامي فى بطولة الفيلم طالب فى كلية الطب وفى أحد المشاهد طلب المخرج من البطل أن يقبلني، وتقدم الشاب نحوي ولكنه تسمر فى مكانه ثم بكى وصاح فى وجه المخرج محمد كريم: لا لا بلاش المنظر ده، وحاول عبثا كريم أن يجعله يتقدم مني ويطوقني بذراعيه ويقبلني، وقال له كريم : أريد أن أحادثك بعد الانتهاء من اللقطات وتوقف العمل، وأسر البطل إلى المخرج بأنه يحبني وأنه لا يستطيع أن يجرد قبلته المطلوبة من العاطفة المشبوبة التى تعتمل فى صدره، وقال لكريم سأطلب يدها فإن رضيت أكملت مشاهد الفيلم، وإن لم ترض فأني أنسحب من متابعة تمثيل الدور.
وجاءني البطل وبكى بين يدي ولكنني كنت قد طلقت الحب فرفضت، واختفى البطل ووقع محمد كريم فى (حيص بيص) وجاءوا بالفنان (سراج منير) ليأخذ دور البطولة أمامي بدلا من البطل المحب المنسحب.
هدي شعراوي تطلب مشاهدة الفيلم
وقبل بداية تصوير (سراج منير) لمشاهده معي قال لي: يجب أن تأخذي على وأخذ عليكي، وهذا لن يكون إلا إذا تقابلنا بعيدا عن جو العمل، وبالفعل خرجنا في نزهات، وكانت المرحومة (هدى هانم شعراوي) قد رغبت فى مشاهدة بعض اللقطات التى تم تصويرها، فاتفقت مع (سراج منير) على أن يصحبني إلى منزل السيدة هدى هانم شعراوي، لنذهب سويا لمشاهدة بعض مناظر الفيلم، وبعد مشاهدتها أشادت بها.
لم تكتف (بهيجة حافظ) بالتمثيل في فيلم (زينب) وإنما وضعت الموسيقى التصويرية للفيلم، وسجلت تلك المقطوعات الموسيقية على أسطوانات خاصة، ومنحتها الجمعية الدولية الموسيقية للهواة دبلوم التفوق فى فن الموسيقى تقديرا لها ولميزاتها الفنية النادرة كأول مصرية حازت هذه الشهادة المحترمة.
………………………………………………………….
نستكمل رحلة رائدة السينما بهيجة حافظ في الحلقة القادمة