السذاجة (كوين)
بقلم : محمود حسونة
سؤال قديم يتجدد من حين لآخر، وها نحن نجدده بعد أن أفرزت لنا المنصات الالكترونية ما لم يكن على البال ولا الخاطر: “هل يمكن أن يكون الفن مجرد تسلية، أم ينبغي أن يحمل كل عمل هدفاً ورسالةً ويثير جدلاً في إطار من التسلية وبما يحقق المتعة؟”.
في بداية إطلالة المنصات الالكترونية توقعنا أن تعالج خطايا المحطات التليفزيونية، وتقدم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض تتناقله الأجيال تباعاً، ولكننا فوجئنا بها تغرق في مستنقع التنافس على جذب أكبر عدد من الاشتراكات بما يضمن لها البقاء، ورفع الرصيد البنكي لها وللقائمين عليها، وتقدم زبَداً يذهب جُفاءً بمجرد مشاهدته، ولا تتبقى منه أي ملامح في أذهان من ساقتهم الأقدار لمتابعته.
لو سألت نفسك ما الذي تتذكره من الأعمال الدرامية التي تم عرضها في الموسم الرمضاني الماضي؟ فإن “الاختيار” هو أول ما يقفز إلى ذهنك، وقد يقفز معه عمل أو اثنين، أما باقي الأعمال الكثيرة فسوف تكتشف أنها قد قفزت من شباك الذاكرة قبل أن ينتهي رمضان الماضي، والسبب هو أن “الاختيار” عمل هادف يحمل قيمة ورسالة ويهدي مشاهده إلى حقائق مهمة قد تكون غائبة عن بعض الفئات، ولعل نجاح وخلود “الاختيار” هو الدافع الأول وراء تقديم “الاختيار ٢” في شهر رمضان الذي سيهل علينا بعد أيام.
اختبر نفسك اليوم بشأن الأعمال التي تعرضها المنصات، والتي أخطأنا وتفاءلنا بها من قبل، ستجد أن العديد من المسلسلات القصيرة التي تعرضها المنصات ولا تتجاوز حلقاتها عدد أصابع اليدين، لم تستطع ان تشاهد منها سوى حلقة أو اثنين، لتهرب منها قبل أن تفقد عقلك وتخسر نفسك، ولو كنت ممن لا قيمة للوقت لديهم وارتضيت قتل وقتك بنفسك باستكمال متابعة عمل حتى نهايته ستجد انك قد نسيت اسمه بعد أيام، ونسيت أحداثه وأبطاله، والسبب أنه عجز عن تلبية حقك على التفكير وشغل ذهنك، لأنه باختصار عمل سطحي وأحداثه ساذجة والذين قبلوا تمثيله وشاركوا فيه أكثر سذاجة.
منصة نتفليكس التي شاهدنا عبرها أعمالاً عالمية رائعة وعلى رأسها المسلسل البريطاني “ذا كراون” او “التاج” وتفاءلنا بها عندما استهلت انتاجها في مصر بمسلسل “ما وراء الطبيعة”، قدمت لنا مؤخراً مسلسل “أبلة فاهيتا.. دراما كوين”، دراما ساذجة تستغفل الناس، وبها وبأمثالها تسرق المنصة وقت المشاهدين وفلوسهم. مسلسل حول مقدمة البرامج أبلة فاهيتا التي تجيد الاستظراف على خلق الله، وتجيد أيضاً الخروج عن النص المجتمعي وعن الأخلاق العامة في برنامجها التليفزيوني، ومن خلال نتفليكس تطل على الناس بلسان سليط وبشخصية نجمة سينمائية اضطرتها فضيحة أخلاقية للتواري بعيداً عن الأضواء، ويحاول صاحب أحد الملاهي الليلية استغلال ذلك لاجبارها على الرقص في ملهاه، وخلال نقاش حاد بينهما يتم قتله وتتهم هي بارتكاب الجريمة، فتهرب محاولة اثبات براءتها.
حقيقة أجبرت نفسي على مشاهدة هذه “السذاجة كوين” وكأنني أعاقبها، وكان هدفي التعرف على ما يمكن أن تقدمه لنا هذه الدمية درامياً؛ أنصحك أن تتجنب هذه الدراما وكل ما يشبهها، اهرب بجلدك واحتفظ بعقلك وابتعد عن هذه التفاهة التي لا تسيء فقط لصناعها ولا للمنصة التي عرضتها ولكن للدراما بشكل عام.
قد يكون صناع هذا المسلسل كسبوا من ورائه مادياً، وقد تكون للمنصة “مآرب أخرى” من تقديم هذا النموذج للمشاهد المصري والعربي، ولكنك أنت كمشاهد ستخسر ولن تستفيد سوى أن تكون حقل تجارب لما تستهدفه نتفليكس.
وللحق، ليست نتفليكس وحدها التي استهدفت تصدير التفاهة للمشاهد، ولكن على الدرب ذاته تسير المنصات العربية، وعلى رأسها “ووتش إت” المصرية التي أهدت مشاهديها خلال الفترة الماضية مجموعة من المسلسلات الغريبة الخالية من أي قيمة أو هدف والمجوفة المضمون، ومنها مسلسل “حلوة الدنيا سكر” خفيف لدرجة أنه لا سكر فيه ولا مر، تماماً كالمسلسلات الأمريكية الخاصة بالشباب والأطفال والتي لا منطق في أحداثها؛ وفي هذا المسلسل الذي لا تدري من مقدمته إن كان فوازير أو برنامج استعراضي أو دراما يسعون لتكريس هنا الزاهد نجمة شاملة تغني وترقص وتمثل وتضحك الناس، وهم فِي النهاية يظلمونها قبل أن يظلموا المشتركين في المنصة، لأنها فنانة لا تصلح للاستعراض.
مسلسل آخر يدور في فلك السذاجة هو “في بيتنا روبوت” وأعمال أخرى عديدة لا يتسع المجال للحديث عنها.
أما منصة “شاهد في آي بي” ففيها من الأعمال ما يفوق خيال المجرمين عنفاً ومنها على سبيل المثال “في كل أسبوع يوم جمعة” ولو كان مأخوذاً عن رواية لابراهيم عبد المجيد إلا أنه دموي مزعج ويتناقض في مضمونه مع كل القيم الانسانية والعربية، وجمعت المنصة كل ما هو ساذج في الدراما العربية والتركية لتقدمه لمشتركيها، وكانت آخر فصول السذاجة مسلسلي “نمرة اتنين” و”أنا” وغيرهما الكثير.
كل هذه الأعمال لا يستطيع المشاهد استكمال مشاهدتها وقد ينساها وهو يشاهدها، ولكنه أبداً لن ينسى أعمالاً عرضت قبل سنوات وعقود مثل “ليالي الحلمية” و”رأفت الهجان” و”اخوة التراب” و” المال والبنون” و”الأيام”.. فالعمل الجيد يعيش ويخلد والعمل الساذج يمكن أن يموت قبل أن يولد.
mahmoudhassouna2020@gmail.com